بينما أحيل مشروع قانون الخدمة العسكرية على البرلمان للمناقشة والمصادقة قبل النشر والتنفيذ، تتصاعد التعبيرات الرافضة لهذا التوجه وسط الشباب المتوجس من التجنيد الإلزامي، ما يبرر تحليل خلفيات هذا القانون وأبعاده. خلال 20 سنة الماضية قررت نحو 24 دولة في الاتحاد الأوروبي تعليق العمل بالتجنيد الإلزامي. وكانت فرنسا، على سبيل المثال، ممن أوقفت العمل به سنة 1997 وسرّحت آخر فوج من المجندين في 2001. لكن يُلاحظ أن دول أوروبا الغربية التي ألغت هذا النموذج من التجنيد تعود إليه مجددا، بعد نقاش تفجر سنة 2015 على خلفية حدثين رئيسيين: التدخل الروسي في جزيرة القرم، وتفاقم التهديد الإرهابي (هجمات باريس، لندن..). بالنسبة إلى فرنسا، فقد كشف تورط أبناء المهاجرين في تلك الهجمات عن فشل سياسة الإدماج، وتعول على التجنيد لتدارك الاختلالات. الدينامية نفسها تشهدها المنطقة العربية، فمنذ 2013 قررت ثلاث دول خليجية العمل بالتجنيد الإلزامي؛ هي قطر (2013) والإمارات (2014) والكويت (2017). وفي فبراير 2018 سمحت السعودية بالتجنيد الطوعي للنساء. ويفسّر السياق الخليجي توجه دوله نحو هذا الاختيار، إذ علاوة على التنافس المحتدم بين دولها (حصار قطر)، هناك الحرب في اليمن، والصراع مع إيران. وعموما، تستخدم الدول الصغيرة والغنية التجنيد الإلزامي لتقوية وتعزيز الشعور الوطني لمواطنيها، وهندسة علاقة معينة بين العسكريين والمدنيين، أكثر من الرغبة في بناء قوة احتياط عسكرية. هكذا يظهر أن قرار العودة إلى التجنيد الإلزامي ليس معزولا عن السياق العام الأوروبي والعربي، وتحركه خلفيات بعضها استراتيجي أمني مرتبط بالتصورات الجديدة للتهديدات، وبعضها سياسي مرتبط بحالة اللاتوازن الآخذة في الاتساع بين المعسكر الأوروبي الأمريكي والمعسكر الروسي الصيني، علاوة على خلفيات اجتماعية واقتصادية وثقافية خاصة. فماذا عن المغرب؟ يبدو لي أن القرار المغربي لا يرمي إلى بناء قوة احتياط عسكرية كأولوية، وإن نصت المادة 5 من مشروع القانون أن المجندين يدمجون بعد قضاء الخدمة العسكرية في جيش الرديف، بل تبدو الهواجس الأمنية والاجتماعية والاقتصادية هي الدافع الرئيس نحو القرار. لقد تضمن الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش الأخير ما يكفي من الإشارات التي تؤكد أن الشباب بات قضية متعبة ومؤرقة للدولة. حين تقرر إلغاء التجنيد الإلزامي سنة 2007 تم تفسير ذلك بالخوف من استقطاب المجندين من قبل الجماعات الإرهابية بعد أحداث 16 ماي 2003. اليوم، يبدو أن تلك القناعة تغيرت قليلا، فالتهديد الإرهابي وإن ظل قائما، فإن كفاءة وقدرة الأجهزة الأمنية في مواجهته تطورت أكثر. ومن زاوية أمنية، فإن الإرهاب يُحاصر نفسه في النهاية، على خلاف الاحتجاج الجماهيري الذي يمكن أن يتطور ويتجاوز قدرة الدولة على الضبط، كما دلّت على ذلك احتجاجات الربيع العربي، وحراك الريف، واحتجاجات جرادة، وغيرها. نحن أمام استمرار وامتداد المقاربة الأمنية إذن للاحتجاجات، لكن بشكل آخر. إن انشغال الدولة بالشباب يكشف عن تصور أمني للمسألة تدور في إطاره المقاربات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية. من هذه الزاوية يسعى التجنيد الإلزامي إلى تحقيق عدة أهداف أهمها: أولا، استعمال التجنيد الإلزامي قناة للتوظيف في الجيش، وهو أسلوب معمول به في عدد من الدول (الدنمارك، فنلندا..). فإدماج المستفيد من التجنيد الإلزامي في الجيش أفضل من توظيف من لا تكوين عسكري له، كما أن هذه القناة تستعمل للتغلب على الآفات السلبية في التوظيف بالجيش مثل الرشوة والزبونية. ثانيا، من شأن التجنيد الإلزامي لمدة سنة الإسهام في تشغيل الشباب، خصوصا إذا تم التركيز خلال مدة الخدمة على التكوين المهني والتقني. ثالثا، تقوية وتعزيز روح الانتماء للوطن وقيم الانضباط والمسؤولية لدى المجندين. وإذ تحيل المادة 7 من مشروع قانون الخدمة العسكرية على المادتين 37 و38 من نظام الانضباط العام في الجيش الملكي، نفهم أن المجندين سيستفيدون لتكوين ثلاثي الأبعاد: عسكري، تقني مهني، وإيديولوجي. لكن هناك تحديات تواجه هذه المشروع، الأولى تتعلق بالتمويل، والثانية تتعلق بمصير الشباب المجند بعد قضائه الخدمة العسكرية. والثالثة تخص طبيعة وبرنامج التكوين ومدى ملاءمته لسوق الشغل، أم إن هاجس التكوين الإيديولوجي يهدف الترويض والإخضاع. ويتمثل التحدي الرابع في كيفية التعامل مع الشباب الرافض للتجنيد الإلزامي في سياق حقوقي عالمي يعترف بما يسمى “الاستنكاف الضميري” عن الخدمة العسكرية، وهو حق إنساني يخلو مشروع القانون من الإشارة إليه.