@ مديحة العسري صحافية متدربة قرب “مسجد بدر” بحي أكدال الراقي بالرباط، كان الشاب هشام، ذو ال 16 ربيعا، يلعب الكرة مع رفاقه في ساعة متأخرة من الليل. بثيابه الرثة وسرواله الممزق يناور بالكرة تارة، ويستنشق لصاق “السليسيون” تارة أخرى. بالقرب منه محلات فاخرة ومطاعم وسيارات فارهة تجوب المكان. قضى هشام 8 سنوات في شوارع الرباط، وخلف وجهه الشاحب وعينيه الحزينتين قصة تلخص واقع أطفال الشوارع المرير. جاء إلى الرباط من مدينة القنيطرة بعدما طردته قسوة زوجة أبيه. يحكي قصته بكل برود كأن تفاصيلها أخذت أهم جزء من إنسانيته وهو الإحساس. تزوج والده بعد شهرين من وفاة والدته. في البداية كانت زوجة والده تعامله معاملة جيدة، لكن معاملتها هاته تغيرت بعد حملها. “أصبحت تضربني بسبب وبدونه، تحرمني من اللعب والطعام، لا تترك لي أي مجال للدراسة، فقد كانت تجبرني على القيام بالأعمال المنزلية”، ما جعل مستواه الدراسي يتدنى، بعدما كان تلميذا مجتهدا، حسب قوله. لم يستحمل جحيم الحياة زوجة الأب، يقول: “ما كان يحز في النفس أكثر برود رد فعل والدي تجاه سلوك زوجته، فهو يرى سوء معاملتها وتحقيرها لي، ويرفض التدخل كأني لا أعني له شيئا”. كان يستنجد بوالده أحيانا، لكن دون جدوى. فقد كانت الإجابة دائما “اصبر، راها بحال ماماك الله يرحمها”. قرر بعدها هشام الهرب من المنزل، فخطر بباله وقتها أن يلجأ إلى بيت جده، لكنه شعر بالخوف، ففي النهاية ستجبره العائلة على العودة إلى منزل أبيه. لذلك لم تكن لديه أي رغبة في الإقدام على هذه المحاولة. أفرغ حقيبته المدرسية من الكتب وملأها ببعض الملابس، ثم سرق 100 درهم من جيب سروال والده، الذي كان يعمل نجارا. يقول هشام: “غادرت القنيطرة صوب مدينة الرباط. اختياري لهذه المدينة لأنها كانت الوجهة المفضلة لأمي، حيث كنا نزورها سويا”. وفي الرباط بدأت رحلة جديدة من حياته. قصته تعكس واقع أطفال الشوارع الذين لا تخلو منهم أي مدينة، ورغم جهود الجمعيات التي تعمل في الميدان للحد من انتشار هذه الظاهرة، إلا أنها تفاقمت في السنوات الأخيرة. بالنسبة إلى هشام، الأيام الأولى للتشرد في الشارع كانت جد صعبة عيه ، أما باقي الأيام، فهي “عادية جدا”. في البداية كان يصعب عليه النوم في الشارع دون سرير وغطاء، يقول هشام “فنحن آخر من ينام وأول من يستيقظ”، هذا قانون الشارع. تعرض للضرب مرارا وتكرارا، كما تعرض لمحاولات اغتصاب متكررة. كان الأطفال الآخرون ينادونه في الأول بلقب “بولد ماما”، كونه وافد جديد على حياة التشرد، لكن سرعان ما تأقلم مع الحياة هنا، أصبح فردا منهم. يشعر هشام أحيانا بالندم لأنه سلك هذا الطريق، لكن لم يكن هنالك بديل آخر، حسب رأيه. قضى نصف عمره هنا. أدمن، كذلك، على التدخين والخمر و”مادة السليسيون”. ويضيف هشام: “لا أظن أن هناك شخصا يعيش وضعنا لا يفعل ذلك، فالإدمان هو أنيس ليالينا الطويلة، جزء لا يتجزأ من تكويننا وقصصنا”. يقضي يومه هنا وهناك، يبيع المناديل الورقية ويمسح زجاج السيارات ويتسول في بعض الأحيان، يشتري بما يكسب “مادة السليسيون” أوغيرها للهروب من مرارة الحياة التي يعيشها. ويتابع هشام قائلا: “ننتظر أن يعتم الليل بفارغ الصبر لكي نجتمع بزنقة “ملوية” بأكدال تحت سقف عمارة نتخدها مأوى لنا، نفرش الأرض بالكارطون، نستلقي عليه، نتسامر قليلا بعد تعب التجوال طول النهار، ثم ننام بعدها”. قصة هشام لا تختلف كثيرا عن قصص الآخرين سوى في الأسباب، لكن جحيم المعاناة الذي تعيشه هذه الفئة يبقى القاسم المشترك. حياة الشارع جزء مني! إيمان 15 سنة، الفتاة الوحيدة ضمن المجموعة، ترتدي جلبابا أحمر مزركشا يخفي تفاصيل جسدها، شعرها منكوش، تفوح منها رائحة “السليسيون”، تتلعثم أثناء الحديث، أخبرتني أنها فقدت القدرة على الكلام بعد تعرضها لحادثة اغتصاب وهي صغيرة، لم تختر هذه الفتاة حياة التشرد برغبة منها، بل الشارع هو من اختارها، قضت فيه 15 سنة من حياتها، عاشت فيه جميع الفصول. تقول إيمان: “شارع أكدال هو منزلي”، تقضي يومها وليلها تبيع المناديل الورقية. سألتها ماذا تشترين بما تجنين؟ أجابت بغضب: “مالي تنربح مليون، لا شيء. أتسول الأكل من المارة ومن العاملين بالمطاعم”، أما المال الذي تكسبه من بيع المناديل تشتري به السجائر ومادة “السليسيون”. تخرج قارورة من جيبها وتصب مادة لزجة على قطعة قماش الذي تضعه فورا على أنفها، تأخذ نفسا عميقا، ثم تسحب القماش بلطف وتسترخي. “البلية صعيبة آختي، لكن هي الشيء الوحيد الذي ينسينا حياتنا، تأخذنا بعيدا وتجعلنا نتخيل أننا نعيش في مكان أفضل، نمتلك فيه كل ما نشتهيه”. لا تتذكر إيمان في أي سن أدمنت على الكحول والتدخين، لكن ما تؤكد عليه هو أنها كانت صغيرة وقتها، مضيفة “الشارع (تَيْشَرّفْ). البنات في سني يبدون أصغر بكثير، الوقت هنا يمر بطيئا، تشعرين بمرور كل ثانية ودقيقة، تعيشين الزمن بحذافيره”. رغم كل شيء تصر حياة على القول إن الحياة في الشارع أصبحت جزءا لا يتجزأ منها، فقد فتحت عينيها عليها لا تعرف مكانا آخر سواها، وتتابع قائلة: “لا أظن أنني سأرتاح في مكان غير الشارع. صحيح أنا أحلم بأن أعيش في مكان أفضل وأرتدي ملابس كباقي أقراني، لكن في الأخير هي فقط، أحلام”، تقولها بكلام ساخر. فرصة أخرى تأخر الوقت. قررت العودة إلى المنزل، لم أتحمل برد الرباط ليلا ومنظر الأطفال يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. كان الجو باردا ليلا وقاسيا كقساوة الحياة على هؤلاء الأطفال والشباب. هممت بالرحيل. قاطعني صوت بنبرة حزينة، بدأ التعب واضحا على جسده، كدمات على وجهه، خدوش تستوطن محياه، ملابسه نظيفة عكس الباقي، يحمل حقيبة سوداء على ظهره، أختي هل ممكن أن تساعديني؟ لم أستغرب سؤاله، كنت أتوقع شيئا من هذا القبيل، وكنت أتوقع أن يطلب مني مساعدة مالية، لم أتردد فأجابته: بالطبع فاش بغيتي نعاونك خويا؟ أجاب “مابغيتش نكمل حياتي هنا”، قضى 10 سنوات في الشارع، كانت كافية ليحفظ الرباط شارعا شارعا. يرغب أيوب في فرصة أخرى ليغير مسار حياته الحالية، وذلك بالعودة إلى منزله بفاس. يستخرج بطاقة وطنية، ويبحث عن عمل يضمن من خلاله حياة كريمة، هكذا يخطط. طلبه أوقف تسلسل توقعاتي. أيوب 19 سنة من مدينة فاس، عصفت به الأقدار إلى مدينة الرباط، اختار التشرد طواعية كما قال. “كنت صغيرا بعمر 9 سنوات، لما توفي والدي. حنان وعطف أبي لم يعوضه أي أحد. حينها تغيرت الحياة تماما بالنسبة إليّ، لم يعد أي شيء كالسابق”. اضطرت والدته للخروج إلى العمل. تحمّل أيوب ضغوطا كثيرة بسبب الوضع الأسري الجديد، فقرر مغادرة المنزل، خُيل إليه وقتها أن الحياة ستبتسم له، لكن لم يكن يخطر في خلده أن حياة الشارع جد قاسية، يقول: “شعرت بالخوف ولم أستطع العودة إلى المنزل. قررت بعدها استكمال حياتي كمتشرد. 10 سنوات بدون هوية كأنها قرون، أدمنت خلالها على مادة السيلسيون”، تسول بالشوارع، تعرض إلى الضرب والتنمر من باقي الأطفال. يقول، أتعرفين ما يؤلم هنا؟ ليس البرد أو الجوع، ما يؤلم أكثر هو “الحكرة” التي تطالنا من العابرين، فنحن لا شيء بالنسبة إليهم، يعتقد بعض الناس أن لهم الحق في ركلنا وضربنا، الحق في نعتنا بأسوأ النعوت، لهم الحق في احتقارنا. يا ليتهم يفعلون ذلك سرا، يتعمدون إلى فعل ذلك علانية كأننا لسنا بشر، لا نملك قلبا وعزة نفس. ليس سهلا على الإطلاق أن أرى شابا في سني، يحظى بحياة أغبطه عليها. صراحة أنا أفعل. جهود حكومية محدودة رغم إعلان الحكومة عن بعض المبادرات لحل مشكل أطفال الشوارع، إلا أن المشكلة لازالت قائمة، وفي هذا الصدد تقول وزيرة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية،بسيمة الحقاوي، إنها أحدثت لجنة وزارية مكلفة بتتبع وتنفيذ السياسات والمخططات الوطنية في مجال النهوض بأوضاع الطفولة وحمايتها، منذ نونبر 2014، والتي يترأسها السيد رئيس الحكومة، واعتماد السياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة، في يونيو 2015، والتي من ضمن أهدافها رصد الأطفال ضحايا العنف أو الاعتداء أو الإهمال أو الاستغلال، والتبليغ عن حالاتهم والتكفل بهم، واتخاذ تدابير وقائية لتحديد ومعالجة هشاشة الأطفال والأسر، بالإضافة إلى البرنامج الوطني التنفيذي لتنزيل هذه السياسة العمومية 2015-2020، الذي يترجم أهدافها الاستراتيجية إلى تدابير ملموسة ومؤشرات تتبع محددة. لكن، يبدو أن أثر هذه الجهود محدودة مع استمرار الظاهرة. كما قامت الوزارة بإصلاح الوحدة المتنقلة للإسعاف الاجتماعي المستعجل بالدار البيضاء “SAMU SOCIAL”، للتكفل بالأشخاص في وضعية الشارع، ومنهم الأطفال، وأطلقت برامج لازالت محدودة الأثر. مشكلة اجتماعية من جانبه، يرى الباحث في علم الاجتماع، فؤاد بلمير، أن ظاهرة “الأطفال بدون مأوى، أو الأطفال في وضعية الشارع” من الظواهر المعقدة والمركبة التي تستوجب تعبئة اجتماعية من طرف جميع الفاعلين على الصعيد الوطني والمحلي، ومن أهم الأسباب التي تؤدي إلى تفاقم هذه الظاهرة: أولا، العنف الأسري، فعدم الاهتمام بالأطفال وحاجياتهم يدفع بهم إلى الشارع، خاصة إذا كانت ظروفهم الاقتصادية صعبة، حيث لا تستطيع بعض الأسر تأمين الاحتياجات الأساسية لأطفالها، فقدان أحد الآباء أو كليهما، وفي بعض الحالات نجد أسباب تتعلق بالأطفال أنفسهم، حيث يلجأ بعضهم إلى الشارع بحث عن الحرية، والهروب من الأجواء الأسرية السيئة والصارمة. في الأسابيع الماضية احتضنت مراكش حفل الإطلاق الرسمي للحملة الإفريقية “من أجل مدن إفريقية بدون أطفال في وضعية الشارع”. ونوه الملك محمد السادس بشكل خاص بمبادرة “الرباط مدينة بدون أطفال في الشوارع”، التي تعد التنزيل النموذجي لحملة “مدن إفريقية بدون أطفال في وضعية الشارع” في المغرب، مشددا على ضرورة “ألا تنحصر جهود حماية الأطفال في الحفاظ على سلامتهم الجسدية والمعنوية والنفسية، بل ينبغي أن تقترن، أيضا، بتوفير الشروط الكفيلة بالنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، لكن هل ستتمكن هذه الحملة من تقليص حجم الظاهرة وتحقيق ما عجزت وزارة الأسرة والتضامن عن فعله؟.