جغرافية ممزقة بين شرق يشكو التهميش، وغرب تجتاحه موجات التعصب الديني، والتمرد الإثني، وجنوب مترنّح بينهما. أما المجتمع، الذي أضعفت نسيجَه عقودُ طغيان السلطة الشمولية، فقد ازداد انقسامُه، وتصاعدت نزعته القبلية، وفقدَ الحدود الدنيا من تضامنه وانسجامه. أما السلطة المركزية، القادرة على صهر أطراف البلاد، فشبه منعدمة، إن لم نقل منعدمة فعلا.. إنه الباب المسدود الذي يميّز ليبيا اليوم، ويضغط على مستقبلها السياسي. لا يجد من يتابع الشأن الليبي ترددا في الجزم بأن ليبيا، ومنذ سقوط حكم القذافي في 19 مارس 2011، تعيش تدهورا متناميا على الصُّعد كافة. فلا هي قدرت على استتباب الأمن، ونزع شبح انتشار السلاح، ولا هي حافظت على ضخّ النفط، وحمايته ضامنا لشرايين الاقتصاد والعيش، ولا هي تمكنت من ضبط القبائل المتنافرة، وتوجيهها نحو إقامة مصالحة وطنية جديرة بإنجاح الانتقال السلمي للسلطة. ولأن الحكم السابق ترك فراغا مهولا على مستوى الوسائط السياسية والاجتماعية، فقد دخلت البلاد مرحلة من الفوضى والعنف لا تبدو معالم الخروج منها واضحة في الزمن المنظور. يُفترض في الحراك الذي انطلق في ليبيا في السابع عشر من فبراير 2011، وأفضى، بمعية منظمة الحلف الأطلسي، إلى سقوط النظام، أن يسفر عن تكوين توافقات حول إدارة المرحلة الانتقالية وإنجاحها، والانتقال إلى تأسيس شرعية جديدة، بمعايير وقواعد جديدة، أي دستور جديد، وانتخابات رئاسية وتشريعية جديدة..والحال أن أي شيء من هذا لم يحصل حتى اليوم. واللافت للانتباه أن الصراع طال أمده، واشتدت موجاته، ولم يسمح حتى بالاتفاق على سلطة حكومية ذات حد أدنى من القوة والحزم في إدارة شؤون البلاد.. ألا نرى المؤتمر الوطني العام الليبي منقسماً حول شرعية انتخاب رئيس الوزراء الأخير أحمد معتيق؟ ومن زاوية أخرى، تحول الصراع على النفط إلى ما يشبه الصراع على غنائم الحرب بين المليشيات ومن ورائها الطبقة السياسية ورموز القبائل. ونذكر قصة نزع الثقة من رئيس الحكومة السابق علي زيدان، الذي اتهم بتيسير ظروف نقل سفينة كوريا الشمالية شحنة النفط، ليذهب ريعها إلى جيوب طائفة من المتمردين وقادة المليشيات. ولأن النفط، بوصفه ثروة وطنية ومالا عاما، أصبح في قبضة المليشيات، فقد تراجعت نسب إنتاجه من 4،1 مليون برميل يوميا إلى 235 ألف برميل، مما أضعف الأرصدة المالية للخزينة الليبية، وقد تعجز البلاد في المقبل من الشهور عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المستحقين والموظفين وغيرهم. وإذا أضفنا إلى ما سبق بيانُه، آلاف الناس المحتجزين والمحجوزين لدى المتمردين والمليشيات، والمقدر عددهم بما يفوق أربعين ألفا، ندرك عمق الأزمة التي تعيشها البلاد الليبية، ونستشعر الصعوبات التي تنتظر مصير هذا البلد الشقيق، الذي ستكون لدقة أوضاعه مضاعفات على دول الجوار الجغرافي شرقا وغرباً. كيف تُفسر إذن الحالة الليبية؟، وهل يكفي القول إن إرث الأربعة عقود من الحكم السابق كفيل وحده بتحليل ما أسباب الانسداد في الوضع الليبي؟. لا شك أن الفراغ الذي خلقه النظام السابق على مستوى استقرار مفهوم الدولة وتوطينه في المِخيال الجماعي الليبي، كان له الدور البارز في ما يحصل في ليبيا اليوم، لكن، بكل تأكيد، أن ثمة متغيرات أخرى تكاملت مع هذا الإرث وعضّدت مفعوله السلبي، ودفعت ليبيا نحو الباب المسدود. ويبدو أن المناخ العام الذي خلقه سقوط نظام القذافي، والانتشار الواسع للسلاح، والاندثار النهائي لما تبقى من هيبة الدولة، على عللها وضعف أواصرها، سمحت بظهور صراع جديد على مصادر القوة والنفوذ، و»تبنين» جديد للتقسيم القبلي، وتوزيع مخالف لموازين القوى بين هذه الأخيرة. فحال لسان الكثير من الليبيين يرجعون مصدر سوء أوضاعهم إلى فساد الطبقة السياسية الليبية، بينما يرجع آخرون ذلك إلى انتقال النفوذ المادي والرمزي إلى مكونات قبلية جديدة، لم يكن نصيبها من الحظوة في العهد السابق، وتتمسك الآن بانتقال القوة إلى دائرة نفوذها. لذلك، ينذر الوضع الليبي بالكثير من المخاطر، وهي مخاطر من طبيعة بنيوية.. وعليه، يصعب التنبؤ بأفق واضح لما ستؤُول إليه أوضاع هذا البلد الشقيق.