عيون ذابلة، شفاه يابسة، أياد مرتعشة، وأجساد نحيلة ممددة على أسرّة المرض، تقضي ساعات طويلة في حصص علاج متعبة يقاومونها بابتسامة بريئة تكشف اعتيادهم على معاناة يعايشها أغلبهم منذ رأوا النور. ياسين، وهبة، ومحمد، ووردة، وأسية، وسناء، وغيرهم من الأطفال في عمر الورود اجتمعوا في الطابق الرابع بمستشفى الأطفال «ابن سينا» في الرباط، حيث توجد الوحدة الأولى والوحيدة الخاصة بعلاج الأطفال مرضى القصور الكلوي، وحيث يحرص أولئك الأطفال وغيرهم من مختلف أنحاء التراب الوطني على الحضور في موعدهم ثلاث مرات أسبوعيا للخضوع لحصة غسيل الكلي التي تدوم أربع ساعات في كل مرة والتي تعتبر الحل الوحيد والمؤقت لمعاناة أطفال يقاومون آلام مرض لا يقوى على تحملها حتى الكبار. مرض القصور الكلوي يُبقي المصاب به مرتبطا مدى الحياة بجهاز تصفية الدم أو إجراء عملية زرع الكلية التي تكلف الملايين. خوف من المستقبل بدأت معاناة أسية منذ 15 عاما خلت، هي طفلة في السادسة عشرة من العمر، تحضر رفقة والدتها منذ فترة طويلة حصص تصفية الدم التي تدوم 12 ساعة أسبوعيا، والتي كانت تجبرها على التغيب عن حصصها المدرسية قبل أن تضطر لمغادرة مقاعد الدراسة بشكل نهائي. لا تذكر أسية متى بدأت معاناتها مع المرض، لكن ما تختزنه ذاكرتها عن سنوات طفولتها الأولى: المستشفى، السرير الذي تتمدد عليه، الكرسي المتحرك، الحقن، جهاز تصفية الدم والكثير من مشاعر الألم التي لا تزال ترافقها إلى غاية اليوم. تحكي فضيلة، والدة أسية، رحلة المعاناة التي بدأت باكتشاف مرض ابنتها حين كان سنها لا يتجاوز السنة الواحدة، «ما عرفناهاش باش مريضة وحتى الأطباء ما شخصوش حالتها فالأول، كان فعمرها عام ملي بدات تتمرض»، تقول والدة أسية، مضيفة أنها كانت دائما هي وزوجها ينقلانها إلى المستشفى بعدما تتدهور حالتها الصحية على نحو مفاجئ دون أن يعرفوا حينها طبيعة مرضها. مرت فترة طويلة قبل أن تكتشف أسرة أسية طبيعة مرضها، حيث بدأت منذ أربع سنوات فقط، الخضوع لحصص تصفية الدم بشكل منتظم لتحافظ على استقرار حالتها الصحية التي لا تزال عاجزة عن تقبلها، وتقبل اختلافها عن أقرانها، خصوصا حين ترى نفسها عاجزة عن القيام بكثير من الأنشطة التي تتطلب مجهودا بدنيا. في المقابل، تواجه الأم فضيلة صعوبة في إيجاد أجوبة مقنعة عن أسئلة ابنتها التي تترك جروحا غائرة في أعماقها، «تتقول ليا علاش أنا هكذا؟ علاش ما نقدرش نلعب بحال لبنات الاخرين»، كما تواجه في أحايين كثيرة صعوبة في إقناع ابنتها بالخضوع للعلاج، إذ تسألها مرارا عن فائدة العلاج في حالتها وتردد مستسلمة: «أكثر حاجة ممكن توقع أني نموت»، شعور باليأس استوطن نفسية الصغيرة تقول الأم، وما عززه معاينتها وفاة أحد الأطفال الذي تعرفت عليه في قاعة «الدياليز». تغرورق عينا فضيلة وهي تردد «الحمد لله راضيين باللي قسم الله علينا» دون أن تخفي أنها ورغم إيمانها وزوجها بما قدر لطفلتهما، غير أنهما يعيشان خوفا مستمرا مما قد يخبئه المجهول، خصوصا بعدما مرت الأسرة من تجربة قاسية حين أصيبت طفلتها بحالة شلل كامل فقدت على إثرها النطق والبصر وتطلبت ترويضا مكثفا وتناول أدوية لمدة أكثر من شهرين قبل أن تعود إلى حالتها الشبه طبيعية. «عايشين على أمل شي نهار تدير عملية زرع كلية وتبرا وتعيش بحالها بحال البنات الاخرين»، تختم فضيلة وهي تدعو إلى تحقيق أملها بانتهاء معاناة طفلتها وتمكنها من عيش حياة طبيعية يوما ما. شقيقان على سرير المرض معاناة مزدوجة تعيشها أسرة محمد ووردة، ابنا 14 و12 عاما، ذلك أن الاثنين مصابان بالقصور الكلوي ويحتاجان إلى حصص تصفية الدم ثلاث مرات أسبوعيا. مأساة تعود إلى كون الأسرة ليست المرة الأولى التي تمر فيها من هذه التجربة القاسية، فقبل سنوات قليلة توفيت شقيقة أخرى لمحمد ووردة وهي في سن العاشرة بالداء نفسه. حين بدأت صحة محمد في التدهور لم تتمكن نجاة والدة الطفلين من استيعاب ما يحدث ولم تصدق أنها ستعيش مجددا معاناة شبيهة بالتي أفقدتها طفلتها الأولى. كان محمد يتعرض لأزمات صحية متتالية (شلل نصفي، إغماء…)، وكان والداه يحملانه في كل مرة إلى المستشفى على عجل رغم بعد المسافة وتأخر الوقت أحيانا. «كنا تنشدو لكار شي مرات مع الثلاثة ديال الفجر وتنوصلو مع الستة ديال الصباح، وتنشدو الصف حتى تجينا النوبة»، تحكي نجاة مسترجعة ذكريات السنوات الأولى لترددها على المستشفى رفقة طفلها الصغير. لم تنته معاناة الأسرة عند هذا الحد، فبعد وقت قصير على اكتشافها مرض محمد وتقبلها له ومحاولتها التأقلم معه، وجدت نفسها في مواجهة محنة جديدة بعدما اكتشفت أن ابنتها وردة مصابة هي الأخرى بالمرض نفسه. «كنت مع محمد فسبيطار ملي طاحت وردة وجابوها لهنا وديك الساعة قالوا لينا حتى هي عندها الكلاوي»، تقول نجاة، مشيرة إلى أن الأسرة اضطرت إلى نقل محل سكناها من سوق الأربعاء إلى سلا لتكون على مقربة من المستشفى الذي تلجأ إليه ثلاثة أيام من كل أسبوع. على سريرين متجاورين يتمدد الشقيقان محمد ووردة، يقاومان الألم بتبادل الابتسامات وعبارات المواساة التي تعينهما على مغالبة ملل ساعات حصص العلاج الطويلة والمتعبة التي اعتادا عليها، كما اعتادت أجسادهما الصغيرة على وجع الحقن ومرارة الدواء. رغبات «محرمة» قبل أربعة أشهر فقط، اكتشفت عزيزة وزوجها إصابة ابنتهما هبة، ذات الأربع سنوات بمرض القصور الكلوي، لم تتمالك عزيزة نفسها وهي تسترجع لحظة إخبارها بمرض ابنتها «حسينا بالصدمة وما قدرناش نتيقو ونتقبلو هادشي فالأول»، تقول عزيزة وهي تتابع بعينيها حركات ابنتها النشطة. بينما تتقاسم عزيزة حديثا عنوانه الصبر والدعاء مع أمهات باقي الأطفال، تتجول هبة بعدما أنهت حصتها العلاجية بين ممرات أسرة المرضى الذين صاروا أصدقاءها، والذين تتوق للقائهم في كل موعد لتصفية الدم. توزع ضحكاتها هنا وهناك، وتلاعب هذا وذاك من الأطفال المرضى والممرضين. هبة التي لم تستوعب بعد طبيعة مرضها، وبعدما كانت ترفض في البداية الذهاب إلى المستشفى خوفا من الحقن، صارت اليوم تطلب بنفسها من والدتها اصطحابها إليه للخضوع لحصة تصفية الدم لأن ذلك يسمح لها بتناول ما تشاء من أطعمتها المفضلة خلال وقت وجيز لا يتجاوز الساعة، تليه حصة العلاج. مرضى القصور الكلوي يخضعون لحمية غذائية تحرمهم من تناول الكثير من الأطعمة، وعلى رأسها الكثير مما يفضله الأطفال. على مائدة داخل قاعة «الدياليز» وُضعت أطباق «البيتزا» ومختلف أنواع الحلويات وغيرها من الوجبات المفضلة للأطفال، والتي يُمنع عليهم تناولها خلال باقي الأيام بسبب المرض، وهي الوجبات التي يحرص مجموعة من المحسنين على توفيرها لهؤلاء الأطفال المنحدرين من أسر معوزة، والتي بالكاد تقدر على توفير تكلفة التنقل من وإلى المستشفى، مع العلم أن كلفة علاج طفل واحد قد تصل إلى 7000 درهم شهريا تتحملها إدارة المستشفى والجمعية المشرفة على الوحدة. «شحال من حاجة ممنوعة عليها فالماكلة، والمشكلة تتبغي تاكل غير داكشي اللي ممنوع عليها وحتى الما واخا الصهد وتيجيها العطش ما نقدرش نعطيها أكثر من ربع لتر فنهار»، تقول والدة هبة. إلى جانب الحمية التي تحرمهم من الكثير من أكلاتهم المفضلة، فالأطفال مرضى القصور الكلوي محرومون من الدراسة، حيث إن عددا مهما منهم يعجزون عن متابعة دراستهم بسبب اضطرارهم للتغيب ثلاثة أيام من كل أسبوع يحضرون خلالها حصص العلاج. «اختي تتقرا فلا فاك وكنت باغا نقرا بحالها وحتى أنا نوصل للجامعة»، تقول أسية التي توقفت عن الدراسة عند المستوى الثاني ابتدائي. محمد وشقيقته وردة بدورهما يتابعان دراستهما في المستويين الخامس والسادس ابتدائي. محمد لم يتمكن من النجاح هذه السنة، أما شقيقته فلا تعرف حتى إن كانت قد نجحت أم لا، فانشغال والديها بمرضها خلال الفترة الأخيرة منعهما كما منعها من التوجه إلى مدرستها لمعرفة نتيجتها. «بغيت نكمل قرايتي ويكون عندي صحاب فالمدرسة»، يقول ياسين ذو العشر سنوات وعلامات الحزن تغمر ملامحه كما غمرت ملامح والدته، لعناية، التي عبرت بدورها عن أمنيتها في أن يتمكن ابنها يوما ما من عيش حياة طبيعية، وممارسة كل ما يتمناه من الأنشطة التي يمنعه المرض من ممارستها كبعض الرياضات التي تستهوي أقرانه. أحلام صغيرة «تنتمنى نقدر نمشي للمدرسة كل نهار وما تفوتنيش الدروس»، «تنتمنى نلعب مع اولاد الجيران وما نعياش»، «تنتمنى ناكل اللي بغيت»…أمنيات تبدو بسيطة للكثيرين، ولكنها بالنسبة إلى أطفال حُرموا من أن يعيشوا حياة طبيعية، تبدو أحلاما كبيرة بعيدة المنال، وصعبة التحقق. الدراسة واللعب والأكل، أشياء صغيرة دخلت لائحة «الممنوع» و»المستحيل» والصعب» بالنسبة إلى صغار يقضون معظم وقتهم ممددين على سرير المستشفى. ورغم اعتياد بعضهم على نظام الحمية الذي يحرمهم الكثير من أطعمتهم المفضلة، واعتيادهم على عدم ممارسة الرياضات التي يحبونها وقد تتعبهم، إلا أن أكثرهم لا يتقبلون عدم قدرتهم على مجاراة وتيرة الدراسة، كما لا يتقبلون عدم قدرتهم على تحصيل المعدلات الكافية للنجاح بسبب الغيابات المتكررة عن المدرسة التي تفرضها الحصص العلاجية. «ما نجحتش هاذ العام حيت نهار الامتحان كنت هنا»، تقول سناء ذات 14 ربيعا والحسرة تخنق صوتها. في المقابل يحاول بعض الأطفال قدر المستطاع رغم المرض واضطرارهم للتغيب، التغلب على كل الصعوبات والاستمرار في دراستهم، خصوصا حين يجدون أساتذة يتفهمون طبيعة مرضهم، والذين لا يتوانون عن تقديم المساعدة لهم لاستدراك ما فاتهم من دروس. غير أن الأمر يبقى صعبا إلى حد كبير في ظل غياب نظام تعليمي يسمح لهذه الفئة بالاستفادة من الدروس والخضوع للامتحانات حسب جدول زمني يحترم حصصهم العلاجية، ويعطيهم الأمل في المستقبل الذي يبدو للكثيرين رغم حداثة سنهم أنه مظلم.