ياسر أبو هلالة- مراسل الجزيرة في الأردن: كانت أخوته وصداقته عبئا علي في كل ما أكتبه عن الجزيرة أوعنه، فالشهادة مجروحة بحق من أعرفه منذ كان طالبا في كلية الهندسة في الجامعة الأردنية. لم تجمعنا دراسة ولا جغرافيا ، كان فلسطينيا وكنت أردنيا وكان في الهندسة وكنت في الآداب في جامعة اليرموك ، وهو في الأردنية. جمعتنا الحركة الإسلامية بطموحاتها الكبرى التي تتعدى الأردن وفلسطين. مع التحول الديموقراطي عام 89 تحولنا، وبدنا نضع أرجلنا على الأرض، فالطموحات الكبرى تتدرج ، وأول خطواتها الديموقراطية. سمح بإجراء انتخابات لاتحاد الطلبة بعد انقطاع، وبالديموقراطية صار رئيسا للجنة التحضيرية للاتحاد العام لطلبة الأردن. والذي لم ير النور ، ولم تجر انتخابات عامة بعدها. تطلب العمل لإنشاء الاتحاد حاورات شاقة داخل الحركة الإسلامية ، ومع الخصوم من الاتجاهات كافة. ذاك الحراك أظهر قدراته القيادية،وبعد تخرجه ظل وفيا للعمل الطلابي، فانشغل في الاتحاد العالمي للطلبة المسلمين، وسافر للسودان متفرغا للعمل فيه. وهناك أغوته أفريقيا، واستقر به المقام في جنوب إفريقيا وقد شهدت التحولات الكبرى من نظام فصل عنصري إلى نظام ديموقراطي. لم تنقطع صلته بعمان بسبب زوجته الأردنية أروى التل، وكانت تلك الزيارات تجدد الصلة به، بقدر ما تتعبه،بسبب تحول الحركة الإسلامية إلى ملف أمني، واعتقل مرة أسبوعين في المخابرات. ظللنا على تواصل، وكان من مقترحاته ترجمة كتاب نيلسون مانديلا ” الطريق الصعب نحو الحرية “. ولكن المشروع لم يكتمل. لم يكن يخطر بباله أن يكون مديرا لأكثر المؤسسات الصحفية نفوذا في العالم، بدأ علاقته بها من خلال استضافته معلقا على الشأن الأفريقي، وعند انعقاد قمة الأرض في جنوب أفريقيا بحثت القناة عن مراسل،وكان المتقدم الوحيد للوظيفة، ونظرا لعدم وجود خبرة تلفزيونية لديه أخذ دورة على حسابه في الأيه بي ( أسشيوتيد برس) وعمل مراسلا في جنوب أفريقيا ثم متجولا في القارة الأفريقية. بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمر بدأ الشاب الفلسطيني الذي يحمل جواز سفر أردني مؤقت يقترب من موقع الإدارة. غطى أفغانستان بعد سقوط طالبان. لم يكن سهلا عمل الجزيرة بعد قصف مكتبها واعتقال مصورها سامي الحاج،لكنه تمكن من العمل وبكثافة وبخط تحريري غير ممالئ للأميركان والنظام الجديد، أي أعاد العمل بزخمه السابق وبدون تنازلات مهنية. تلك القدرة القيادية أهلته للممارسة العمل ذاته في ببغداد بعد قصف المكتب واستشهاد طارق أيوب. كنت في تركيا عندما اتصل معي طالبا مني أن أنضم لفريق الجزيرة بعد سقوط بغداد. اعتذرت لأسباب مهنية وشخصية. لكنه أصر ، وافقت. ومن أنقرة انقتلت إلى بغداد. كانت تركيا في صعود ، وكنت سعيدا بتغطية عودة رجب طيب أوردوغان إلى الحياة السياسية بعد فوزه في انخابات مقعد فرعي في سرت، المدينة العربية الكردية التركية. وكنت أسعد عندما رفضت تركيا المشاركة في الحرب على العراق. في المقابل كنت شاهدت في شيراتون أنقرة المعارضين العراقيين الذين صاروا حكومة من بعد السقوط، يصطفون على الدور لمقابلة زلماي خليل زادة المبعوث الأميركي لدقائق. في بغداد ، وفي أول يوم، في فندق فلسطين أبلغني أنه غير غرفته بعد أن جاء مرافق أحمد شلبي وأبلغ تيسير علوني، فك الله أسره، أنه مكلف باغتيال الاثنين. نصحته بالمغادرة لكنه رفض، وقال أن تيسير يقود مفاوضات ناجحة مع الشلبي ، وسنكف شره. بعدها واجهنا كل السهام في العراق ، وصرح رامسفيلد علانية أن مكتب الجزيرة في بغداد يكذب، وكان الجيش الأميركي يتهمنا بدعم التمرد لكن وكما في أفغانستان تمكن من العمل في بيئة معادية للجزيرة. تلك القدرة أهلته لموقع يطمح أليه صحفيون كثر، وهو إدراة القناة التي تعمل في بيئات معادية لها في أغلب الأحوال، لم يتوقف الضغط الأميركي على الجزيرة، أغلق المكتب في بغداد واستشهد رشيد والي، الضغط أخذ شكل القصف والقتل ، والحوار والتفاوض. وفي الحالين تعامل وضاح بتماسك وحافظ على مبدئيته ومهنتيه. ما نشرته ويكي ليكس صحيح، ولا شك أنه استخدم وسيستخدم بشكل أسوأ بعد الاستقالة. ولكن الرد عليه هو من خلال الشاشة، فسواء مع الحكومات العربية أم الغربية أم الأميركية يتواصل صحفيو الجزيرة، وهم إن رضخوا فالشاشة تكشفهم. وليس ويكي ليكس، ما كشفته الشاشة من قبل وأكدته ويكي ليكس أن الجزيرة بقيت كما هي. لم يخترع وضاح الجزيرة ، جاء إلى مؤسسة قائمة قبله بخمس سنوات ، وصدرت بحقها ذات الاتهامات من العمالة للموساد إلى السي آي إيه إلى القاعدة وحماس والإخوان المسلمين .. ولن تتوقف تلك الاتهامات.وكان وضاح يلاقي تلك الاتهامات بابتسامته المشهودة. والرد كان من خلال الشاشة التي يتابعها نحو ستين مليون مشاهد.كانت الجزيرة اختراعا قطريا بامتياز، وقد أعطيت قيادتها لشاب فلسطيني لم يسبق له أن عاش في قطر. وتلك قوة انفتاح تحسب لبلد لم تسكنه عقد الشوفينية الوطنية.لم يحصل على الوطيفة القطرية بل حصل على الجنسية القطرية أيضا. في رسالته يوثق ما حققه “انتقلت الجزيرة في السنوات الأخيرة من قناتين إلى شبكة من القنوات تزيد على خمسة وعشرين، وتبث بالعربية والانجليزية وقريبا بالتركية والسواحيلية ولغة أهل البلقان، وكنتم أنتم من أعان في تشييد بنية مؤسسية حديثة وراسخة، احترمت العاملين فيها وقدمت لهم ما يستحقونه، ثم بجهدكم الدؤوب استطعنا أن نصل ببث الشبكة إلى مئات الملايين حول العالم، بما فيها الولاياتالمتحدة التي اتهم وزير دفاعها السابق الجزيرة بأنها كاذبة وشريرة، والتي عادت وزيرة خارجية إدارتها الحالية لتشيد بتغطيتها وتصفها بأنها تقدم أخبارا حقيقة... لم يفل الوصف الأول من عزم الجزيرة، ولم يَغُّرها النعت الأخير، فالجزيرة هي الجزيرة لم تتبدل ولم تتغير” قلت لوضاح ، قبل أن يقدم استقالته، أن هذا الوقت المناسب للمغادرة. فاللاعب يعتزل وهو في أوج حضوره. بعد الربيع العربي كسبت الجزيرة كثيرا من الأصدقاء ، حتى من كانوا في صفوف أعدائها. ورفع شعارها رايات في ميادين التغيير في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية.. وإن كانت الجزيرة ساهمت بشكل كبير في التغيير ورفض الزعامات ذات الولايات المفتوحة إلى الأبد، فإن إدراتها تقدم نموذجا عمليا في ذلك . وكما قال في رسالته الوداعية”فقد كنت قد تحدثت مع رئيس مجلس الإدارة منذ زمن عن رغبتي في أن أعتزل الإدارة عند انتهاء السنوات الثماني، وقد تفهم مشكورا رغبتي هذه، فها أنا ذا اليوم أمضي من موقعي إلى ميدان آخر جديد، أستلهم فيه روح الجزيرة ورؤيتها، وأنقل ما تحصل لي من تجربة وخبرة، مستمرا في الدفاع عن الإعلام الحر النزيه، منافحا عن أخلاق المهنة وميثاقها، معتزا ما حييت بكم جميعا، ممتنا لجمهور الجزيرة ممن أحبنا وأحببناه، والذي كان ملهما لي في المضي قدما رغم كل الضغوط والصعوبات”. زال عبء وضاح المدير ، وعاد كما كان أخا وصديقا. وتلك غير قابلة للتغير. وهذه بعض الوفاء له، وانا من أكثر الناس معرفة به. وأشهد لله ، أن ما لا يعرفه الناس من سيرته خير مما يعرفون ، وفي كل خير. وستظل الطموحات الكبرى في الحرية والتحرير تجمعنا، والطوح الأكبر الذي تعلمناه في الحركة الإسلامية أن تلقى الله وهو عنك راض. تلك غاية تدرك ، أما إرضاء الناس جميعا، فتلك غاية لا يدركها وضاح ولا من سبقه ولا من يلحق به. وسيأتي يوم يكتب هو سيرته التي من حق مشاهدي الجزيرة أن يعرفوا تفاصيلها.