لا يمكن لليساريين ولا اليمينيين ولا الإسلاميين وغيرهم مما تبقى من حركة 20 فبراير أن يزايدوا على منصف المرزوقي، الرئيس التونسي الجديد، الذي احتل حزبه المؤتمر من أجل الجمهورية الرتبة الثانية في الانتخابات، وهو رابع رئيس لتونس بعد الاستقلال وأول رئيس منتخب لتونس، وكلمته مفتاح لفهم ما جرى ويجري لأنه فاعل كبير في المنطقة، سياسي وحقوقي، ولابد أن يخرس ألسنة الكثير من المتنطعين إذ اختار بعد تنصيبه رئيسا للجمهورية التونسية الملك محمد السادس ليكون أول رئيس دولة يتصل بهم من بين زعماء العالم. فما هي دلالات هذه الخطوة من طرف منصف المرزوقي، الرئيس والذي ما زال يحتفظ بجبة المناضل حتى على مستوى الشكل؟ ولماذا اختار أن يخاطب ملك المغرب أولا وقبل أي مسؤول في العالم؟ وما خلفيات ذلك التاريخية والسياسية والاستراتيجية؟ فالرسالة الأولى، التي يحملها هذا الفعل هو الدرس الموجه لرعاة الربيع العربي بالمغرب، فمنصف المرزوقي واحد من قادة الربيع العربي ومن المشاركين الأساسيين فيه، بل إنه مناضل تونس التي أشعلت فتيل هذا الحراك الذي عرفه العالم العربي، ويريد أن يقول المرزوقي لمن ما زال في قلبه ذرة حياء إن المغرب استوعب الربيع العربي في وقت مبكر وصنع نموذجه بشكل مستقل عن هذه الفورات باعتباره البلد الذي سارع منذ تسعينيات القرن الماضي إلى سلوك منهج الإصلاح الديمقراطي والدستوري وإشراك المعارضة في تدبير الشأن العام، وطي صفحة الماضي مقابل مصالحة تاريخية عقب إنصاف المتضررين من سنوات الرصاص. أما الرسالة الثانية، فهي أن المرزوقي يريد أن يقول إن المغرب نموذج في العالم العربي في التعامل مع الإسلاميين، حيث أنه في الوقت الذي كان الإسلاميون في العالم العربي بين منفي ومعتقل كان المغرب يخطو خطوات نحو إدماجهم في الحياة العامة، وصولا إلى مشاركتهم في العمل السياسي بشكل متدرج وبالنتيجة هاهم يترأسون الحكومة في أول انتخابات بعد الدستور الجديد. وفي الرسالة الثالثة، يقول المرزوقي إن المغرب دولة مهمة في المنطقة العربية ولا بد من أن تلعب دورا محوريا، نظرا لما تتميز به من قدرات على استيعاب الصدمات والأزمات ومواجهة القلاقل على العكس من الجارة الجزائر التي تعيش وضعا صعبا ومترديا على المستوى الحقوقي. فعندما نحتفي بمكالمة للمرزوقي فليس ذلك من قبيل الانبهار برجل عاد من المنفى إلى رئاسة الجمهورية، ولكن لأن الرجل ليس له ما يخاف عليه بعد كل هذه السنوات من النضال الموزعة بين العمل السري والسجن والمنافي. فالرجل قامة تاريخية وقيمة إضافية على مستوى العالم العربي. فمنصف المرزوقي وريث لبيت مناضل، فهو نجل الفقيه الزيتوني محمد المرزوقي، أحد رواد المقاومة التونسية ضد الاستعمار الفرنسي، وكان على علاقة بالملك الراحل محمد الخامس، بل كان يعتبر حلقة الوصل بين الحركة الوطنية التونسية وبين الملك الراحل، وهو الذي انتهى به الأمر منفيا بالمغرب إلى أن توفي بمراكش، وخلال مرحلة نفي الوالد عاش الابن منصف في أحضان المغرب، فهو يعرف بلدا جيدا وهو شاهد على تطوره، وليس من أولئك الذين يلتقطون الكلمات من قنوات أصبحت معروفة أنها شريك في الانحياز. وليس منصف المرزوقي ممن يركبون الموجات حتى يصلوا إلى بر الأمان ولكنه واحدا ممن أسسوا للعمل الحقوقي، فالرجل ترأس في عز القمع الذي مارسه الجنيرال بنعلي الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، التي كان لها دور متميز في النضال العربي من أجل حقوق الإنسان، وأسس سنة 1997 مع ثلة من رفاقه المجلس الوطني للحريات، كما تم اختياره أول رئيس للجنة العربية لحقوق الإنسان. لا يمكن لمن عاشوا وتعيشوا على النضال أن يعرفوا للرجل قيمة، فهو عاد إلى تونس بعد أن عاش رفقة عائلته بالمغرب ومنها إلى فرنسا لدراسة الطب وخرج منها بعد أن أمضى سنوات في الاعتقال، خرج منها مطرودا من طرف نظام بنعلي، فالرجل يحمل شعارا يختزل كل مواقفه "من السذاجة إرادة تغيير العالم لكن من الإجرام عدم المحاولة"، وهو شعار يضرب في العمق الرؤية العدمية للحالمين فوق الممكن. فالرجل الذي يجلس اليوم فوق كرسي كان يجلس فوقه الجنيرال بنعلي قد يعرف وقد لا يعرف قصة الملك الراحل الحسن الثاني مع هذا الجنيرال الذي عاش في المغرب ملحقا عسكريا لدى سفارته بالرباط، قد يعرف أو لا يعرف أن الحسن الثاني كان مصرا على عدم التعامل معه، واستقبله مرة واحدة في فرصة نادرة لأنه ابن عاق للحبيب بورقيبة، الذي يعتبر أب الاستقلال التونسي ورائد التحديث في هذا البلد.