بعد خيباته المتراكمة .. النظام الجزائري يفتح جبهة جديدة ضد الإمارات    في خطوة رمزية خاصة .. الRNI يطلق مسار الإنجازات من الداخلة    وداعاً لكلمة المرور.. مايكروسوفت تغيّر القواعد    برشلونة يهزم بلد الوليد    منتخب "U20" يستعد لهزم نيجيريا    العثور على ستيني جثة هامدة داخل خزان مائي بإقليم شفشاون    إسرائيل تستدعي آلاف جنود الاحتياط استعدادا لتوسيع هجومها في قطاع غزة    من الداخلة.. أوجار: وحدة التراب الوطني أولوية لا تقبل المساومة والمغرب يقترب من الحسم النهائي لقضية الصحراء    الوداد يظفر بالكلاسيكو أمام الجيش    جلالة الملك يواسي أسرة المرحوم الفنان محمد الشوبي    الناظور.. توقيف شخص متورط في الاتجار في المخدرات وارتكاب حادثة سير مميتة وتسهيل فرار مبحوث عنه من سيارة إسعاف    حقيقة "اختفاء" تلميذين بالبيضاء    مقتضيات قانونية تحظر القتل غير المبرر للحيوانات الضالة في المغرب    البكاري: تطور الحقوق والحريات بالمغرب دائما مهدد لأن بنية النظام السياسية "قمعية"    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    أمسية احتفائية بالشاعر عبد الله زريقة    نزهة الوافي غاضبة من ابن كيران: لا يليق برئيس حكومة سابق التهكم على الرئيس الفرنسي    52 ألفا و495 شهيدا في قطاع غزة حصيلة الإبادة الإسرائيلية منذ بدء الحرب    تقرير: المغرب يحتل المرتبة 63 عالميا في جاهزية البنيات المعرفية وسط تحديات تشريعية وصناعية    قطب تكنولوجي جديد بالدار البيضاء    الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها    تفاصيل زيارة الأميرة للا أسماء لجامعة غالوديت وترؤسها لحفل توقيع مذكرة تفاهم بين مؤسسة للا أسماء وغالوديت    المغرب يبدأ تصنيع وتجميع هياكل طائراته F-16 في الدار البيضاء    ابنة الناظور حنان الخضر تعود بعد سنوات من الغياب.. وتمسح ماضيها من إنستغرام    حادث مروع في ألمانيا.. ثمانية جرحى بعد دهس جماعي وسط المدينة    العد التنازلي بدأ .. سعد لمجرد في مواجهة مصيره مجددا أمام القضاء الفرنسي    توقيف شخص وحجز 4 أطنان و328 كلغ من مخدر الشيرا بأكادير    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مجموعة أكديطال تعلن عن نجاح أول جراحة عن بُعد (تيليجراحة) في المغرب بين اثنين من مؤسساتها في الدار البيضاء والعيون    الملك: الراحل الشوبي ممثل مقتدر    وصول 17 مهاجراً إلى إسبانيا على متن "فانتوم" انطلق من سواحل الحسيمة    كلية العلوم والتقنيات بالحسيمة تحتضن أول مؤتمر دولي حول الطاقات المتجددة والبيئة    الإمارات وعبث النظام الجزائري: من يصنع القرار ومن يختبئ خلف الشعارات؟    العصبة تفرج عن برنامج الجولة ما قبل الأخيرة من البطولة الاحترافبة وسط صراع محتدم على البقاء    إسرائيل تعيد رسم خطوط الاشتباك في سوريا .. ومخاوف من تصعيد مقصود    تونس: محكمة الإرهاب تصدر حكما بالسجن 34 سنة بحق رئيس الحكومة الأسبق علي العريض    الملك محمد السادس يبارك عيد بولندا    كازاخستان تستأنف تصدير القمح إلى المغرب لأول مرة منذ عام 2008    بيزيد يسائل كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري حول وضعية مهني قوارب الصيد التقليدي بالجديدة    الإقبال على ماراثون "لندن 2026" يعد بمنافسة مليونية    منحة مالية للاعبي الجيش الملكي مقابل الفوز على الوداد    الداخلة-وادي الذهب: البواري يتفقد مدى تقدم مشاريع كبرى للتنمية الفلاحية والبحرية    أصيلة تسعى إلى الانضمام لشبكة المدن المبدعة لليونسكو    اللحوم المستوردة في المغرب : هل تنجح المنافسة الأجنبية في خفض الأسعار؟    الكوكب يسعى لوقف نزيف النقاط أمام "الكاك"    غوارديولا: سآخذ قسطًا من الراحة بعد نهاية عقدي مع مانشستر سيتي    الفنان محمد الشوبي في ذمة الله    الصحة العالمية تحذر من تراجع التمويل الصحي عالميا    دراسة: هذه الأطعمة تزيد خطر الوفاة المبكرة    دراسة: مادة كيمياوية تُستخدم في صناعة البلاستيك قتلت 365 ألف شخص حول العالم    "موازين" يعلن جديد الدورة العشرين    وفاة الممثل المغربي محمد الشوبي    القهوة تساعد كبار السن في الحفاظ على قوة عضلاتهم (دراسة)    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الولوج إلى أسرار الجمالية اللغوية والعمق الروحي للتصوير البلاغي.ج1
نشر في أريفينو يوم 29 - 01 - 2013


[email protected]
-1 هاجس عشق كل ما هو مادي تدفع الوضعيين لاتهام التعبيرالبلاغي بتهمة الروحانية والتحليق في فضاء الميتافيزيقا:
تتلعثم النبرة الوضعية في اتخاذ موقف استهزائي من كل لغز شعري.فتتعثر الخطوة التقنينية للغة في مأزق حرج حينما تدحض أية محاولة للإنخراط في لعبة كلمات هد فها العام هو التركيز على تشكيل اللحظة الميتافزيقية الغنية بمقومات وجدانية تتكلل بتاج الكتابة الفنية/الذاتية الإنطباعية حيث تحلو النزهة اللغوية في حديقة الصور البلاغية بمناظرها الجميلة وألوان شتى من ورود الحكمة الممتعة، بعيدا عن مناخ الكتابة الموضوعية/الموضوعاتية المراد منها الإكتفاء بنقل الخبر فقط أو بتقرير مفصل مباشر لظاهرة محددة. وفي هذا الصدد يقول طوماس براط في كتابه: {تاريخ الجمعية الملكية للعلوم بلندن لأجل تحسين المعرفة الطبيعية} سنة 1667 :{…إن الجمعية رأت واجب فصل معرفة الطبيعة عن ألوان البلاغة وتقنيات التخييل والخداع المبهج المسيطر على مضمون الحكايات الخيالية}، والسبب من وراء هذه النزعة/ الرغبة الإنفصالية القوية بين اللغة الطبيعية واللغة البلاغية المصطنعة والمتميزة بلكنتها الهوياتية الثقافية/النفسية ،يعود إلى اقتناع مسبق للعلماء الطبيعيين بأن البلاغة بصورها الغريبة وقدرتها على المراوغة وبالتالي تعمدها إلى تضييع الزمن وعدم اقتصاده في توصيل المعلومة،إنما يتمأسس على هوس باللغة عينها إلىحد عشقها وكغاية في عمق ذاتها. وغرض هذا الهوس هو خداع اللغة الطبيعية في نظر العلماء الطبيعيين واصطناع حد ود وهمية بين اللغة والحقيقة. وبالتالي وجب إدانة كل محاولة نفاقية تتقن اللف والدوران في إطارها اللفظي الدائر في حلقة مفرغة لوضع المدان وراء قضبان الإتهام بالغلو في الذاتية والتطرف النرجسي الذي يوصم غالبا بالغرور والكبرياء والإعجاب بالنفس من قبل نقاد الكتابة الفنية المتمركزة هواجسها في اقتناص لحظات جميلة من خلال توليفات بلاغية تحطم كل القيود التقديسية للإطار اللغوي الموروث والحواجز التنميطية للهيكل اللغوي التقليدي. وما التعبير المجازي والتجميل اللغوي عبر تكريس صوربلاغية ومحسنات بديعية،في نظر الجمعية العلمية البريطانية التي ذكرناها آنفا، سوى أكاذيب وبهتان مفبرك يشوه الواقع وانطباعات ثقافية غرضها التهريج اللاعقلاني المستفز لكل ماهو عقلاني،عبر تضييع مادة الوقت الثمين وطاقة التركيز الفكري المعقلن. وبالتالي فإن التعبير البلاغي في نظرهم،يبقى أسلوبا لأهواء المنافقين في تدبير معادلة المراوغة السوفسطائية التي يحاولون خلالها ممارسة مفهوم التقية والإختباء النعامي وراء مبرر واه إسمه البلاغة حسب زعمهم لأنهم بكل بساطة يخافون من قول الحقيقة المباشرة بسبب انفصام شخصيتهم وازدواجية طابعها.وبالتالي فإن هذا العجز –حسب رأي الجمعية العلمية دائما – ينم عن هروب من الواقع مخبوء تحت عباءة التعبير البلاغي الجميل يبقى في نظرالعلمويين الأمبيريقيين المقدسين للعلم، مجرد إستراتيجية الجبناء في التعبير عبر إقصاء لغة الوضوح المختصر لقطع طريق الفهم السريع على المتلقي وحذف عنصر اقتصاد الوقت من قاموس تبليغ الرسالة المعرفية في مدة زمنية قياسية.لهذا فكل انزياح لغوي مقصود هو من قبيل تدمير المنطق اللغوي في نظر الأمبيريقي التجريبي طوماس هوبز Thomas Hobbes الذي يعتبر كل محاولة تنميقية عبر لغة البلاغة تبقى مجرد تصنع كلامي غير طبيعي زائد عن الحاجة لايسمن ولايغني من جوع معرفي بل إنه يزيد في خنق الكلمات عبر لوي ذراعها كي تصمت عن قول المعنى تحت ذريعة الفصاحة وتجافي المنطق لمجرد الإذعان حجة ترسيخ اقيم الجمالية على الصعيد المكتوب. لهذا فإن فاسد الفكر فقط هو الذي يلتجأ إلى هذه التقنيات الملتوية التلميحية والطرق التعبيريةالتملقية لتمرير أفكار خاطئة يعجز عن قولها في الوضوح لأنها أصلا مغلوطة حسب الرأي الأمبريقي التجريبي الذي ينتقد هذا النوع من الخطاب لأنه يأخذ بعين الإعتبار تسول التعاطف عبر العزف على وتر الوجدان وتحريك العواطف لاستدرار عطفها كموقف ضعيف تتخذه الشخصية إزاء عملية محاولة التأثير على الآخر. وهكذا يقوم التعبير البلاغي حسب هوبز في كتابه:leviathan،بتضليل كل باحث عن الحكم الصائب. والكاتب البليغ هو بمثابة لص ماهر يسرق منا لحظات الوضوح البسيط ليورطنا في دهاليز الغموض الجميل.وروبين هود على الرغم من أنه لص للفقراء وتخال أنه يتمتع بتعاطف الأغلبية إلا أنه يبقى في المعيار العقلي مجرد لص ينتمي إلى الحثالة العوامية. وأي تعليم مفيد حسب هوبز ستنتظره من هكذا لصوص للقلوب وملوثين للعقول أن يمنحوه لك و لأولادك عبر خطابات طنانة مزوقة تدعي أنها حاملة لأنغام معرفية مغلفة بعسل البلاغة مرفوقا بسراب وهمي ملفوفا في ضمادة حكمة مزيفة ومريضة. إن هذه النظرة الواقعية في نظر الوضعيين الذين يتبنونها على أساس رفض الأسلوب الذاتي الخيالي الذي يهمس للروح الغائبة عن أنظار المهووسين بالمادة المحسوسة إنما هي امتداد لذلك الصراع الفلسفي عبر التاريخ في من سيحرز على الأسبقية: المادة أم الروح؟ .
-2-أسطورة المعنى الكامنة في التعبير البلاغي هي المرشحة لإحراز أصوات الأغلبية:
إن الأسطورة في نظر جورج لاكوفGeorge Lakoffماهي إلا استعارة ممتدة توسعت مساحتها إلى حدود معينة،وهي بمثابة المجاز، تحاول أن تضفي على تجاربنا حس الإنتماء إلى هوية وثقافة محددتين. و إن وظيفة المجاز والإستعارة هو ماجعل الثقافة تبدو و كأنها طبيعية.وجعل المواقف وبعض المعتقدات الخرافية – حسب هيديجر – تبدو و كأنها عادية وتتمتع مبدئيا بكل خصائص مصداقية الوجود أما من حيث كونها طبيعية جدا فلأنها تبدو في الظاهر انها تجاوزت أبعاد الزمن فأصبح كيانها الوهمي محاطا بهالة الحقيقة التي ترتفع فوق كل الشبهات التي تنزع الثقة. ولهذا نجد أن الشخص السطحي الخيال بسبب إدمانه نغمة العقلانية التجريبية المبالغ في تبني ملموسيتها،وبالتالي تصبح سمفونية عشق كل ما هو مادي هو الحافز الفعال والعصا السحرية التي تدفع الوضعيين لاتهام التعبيرالبلاغي بتهمة الروحانية كونها جريمة لأنها تستدعي معيار الوجدان والحدس القلبي للحكم على الظواهر الرافضة لخضوع لأي معيار سوى القابلية للقياس العقلي والملاحظة التجريبية المحسوسة. وتذكرنا هذه التهمة بمن كان يتهم الفلسفة التي تنغمس في التحليق في فضاء الميتافيزيقا بأنها عقيمة وعديمة الجدوى لأنها تمشي على رأسها وليس على أقدامها.والسؤال المطروح هنا هو : لماذا نجد أن أغلبية الناس يفضلون هذا الجانب الوجداني في حياتهم؟ فيرفعون منتجي الإبداع الجمالي فوق مستوى مبدعي التقنية على الرغم من استفادتهم من الأخيرة ؟وترى أن أضواء النجومية تتسلط على أقطاب الأدب ومبدعي الأعمال الفنية الهادفة طبعاوالرياضية على حساب تهميش العلماء والمخترعين الذين يعتبرون أشخاصا مغمورين عند العوام باستثناء الأقلية النخبوية؟ و هل المصارعة مع تحديات صادرة عن معادلة رياضية صعبة هو العنصر الإيجابي القادر على استرجاع التوازن النفسي لذات مشتتة بسبب إكراهات الحياة أم أنه يفضل الإنصات لأغنية ملتزمة بالقيم الأصيلة ومحفزة للمعنويات،مشاهدة فيلم هادف يمنح لنا فرصة الهروب المؤقت من الحياة المتجهمة بهمومها أو عبرقراءة عمل فني إبداعي ممتع فنتجدد باطنيا،لنعود مزودين بكامل طاقتنا الوجدانية القادرة على المواجهة الناجحة؟ماذا تنتظر من أمي عاشق لمص الدماء؟هل بمقدوره تذوق حداء إنشادي جميل أو مقطوعة لحنية صامتة؟ وماذا سيكون موقف متحجر القلب تجاه قصيدة شعرية؟ سوى أنها لعب بكلمات ومضيعة للوقت . وما الزوجة الجميلة بالنسبة لثري جاهل سوى رصيد إضافي لممتلكاته. وتمضي الرؤية المادية في حصد التطلعات المشرئبة للإشراق الروحي للتأكيد أن أجساد الأشياء المحسوسة هي مايهم في الأمر برمته وماعداه يبقى مجرد أشباح سرابية.
لكن مادام أن الواقع لا يستطيع أن يرتفع عن مستواه ليعطي الأولوية لأقلية مغرورة معرفيا
فإن أسطورة المعنى الكامنة في التعبير البلاغي المؤسطر هي المرشحة لإحراز أصوات الأغلبية وترك الأفواه الأمبيريقة مفتوحة مندهشة لهذا الأمر.
-3- التفاعل العلائقي للألفاظ داخل نص فني وتعبيرجميل منتج لصور بلاغية صادمة،ظاهرة صحية لإغناء الجانب الوجداني ودعم التنمية الروحية:
كانت النزوعات الشيوعية المادية والنازية الشوفينية تحارب كل الكتابات المتهمة بأنها تهدف إلى تنمية الفرد وجدانيا وروحانيا وبالتالي فإنها تضبب الجو قصد التشويش على أصل الإنسان الحقيقي والمتمثل في الأصل المادي –حسب زعمهم – والحقيقة عكس ذلك كما يؤكدها لنا التاريخ .وبالتالي فإن هذه الأنظمة قد اتخذت موقفا سلبيا من مبدعي الصور الفنية المتمثلة في البلاغة والاستعارة.وبما أن الشخصية الإنسانية وحدة ثلاثية تتشكل من الشق المعرفي والشق الوجداني ثم الشق الحس- حركي فإنه من الصعب بمكان محاولة إهمال العنصر الجمالي للبلاغة باعتبارها لغة الروح. إن بنية النص البلاغي تتفاعل فيها الإشارات اللغوية والدلالات المتداخلة لتفيض عنها رائحة الواقع الإجتماعي من خلال صور لغوية وتعابير مجازية خاصة و أمثال شعبية تتضافر فيما بينها لإنتاج كمية مهمة من المعنى قصد استنزال غيث الإقناع على أرضية التلقي الجدباء و الإبحار بعيدا بواسطة أجهزة التذوق البشري في بحر التوافق والتناغم . رغم ادعاءات الوضعيين العلمويين بإمكانية التأسيس للغة علمية موضوعية بعقلانية صارمة تنتزع من طياتها كل سياق ذاتي منحرف يدعي انتماءه إلى الإنساني من منطلق وجداني/روحاني. إن اللغة كمساهم في صياغة الواقع،لايمكن أن تكون وسيلة محايدة لأن الكلام نابع عن آلة بشرية تتفاعل فيها كل الجوارح لإنتاجه و إخراجه إلى الوجود.لهذا من الصعب القول بأن التعبير البلاغي يبقى مجرد تعبير تنميقي فارغ من أي محتوى كما يقال علمويا. إن الأذهان المتحجرة المتوجسة من الميتافيزيقا وعالم الغيب الغير خاضع للملاحظة التجريبية والقياس الفيزيائي،تستهزئ من الروح في كل شيء حتى في السياقات العلائقية للالفاظ التي تتمخض عنها جمالية روحية بليغة. و كانهم يعانون من مرض فوبيا الأشباح والرواح ويخيفهم العالم الغائب عن حواسهم كون رؤيتهم سطحية جدا.وهم لا يرضون في الظاهر أن يلحقوا العنصر البلاغي بكتاباتهم لأنه يتعارض حسب توهمهم المغرور مع حسهم العقلاني المتنور،علما أن أصحاب البداهة والرزانة لا ينطقون بالحكمة النادرة إلا بإفراغ زبدة أفكارهم في عبارت موجزة بليغة فصيحة تتألق بإشراق روحي متعلق من عمق شخصيتهم الصيلة التي هضمت مجموعة من المعلومات فحولتها إلى فكرة ذهبية مختصرة بفضل آلية البلاغة. فتسللت بيانا بديعا في لبوس الصور البلاغية الخارقة المركزة والمتقنة للعزف الجمالي على وتر الوجدان الإنساني. إن التوليفة البلاغية تدخل ضمن المجهود العملي الذي تقوم به المهارة الكتابية في إبداع أجمل الصور الخطابية لممارسة فن الإقناع في أبهى حلله. وقد يعرق الإنسان في صياغة هكذا كلام خلاب في خط كتابي حلزوني أكثر من عشاق الكتابة بالخط المستقيم في الوضوح ونقل الخبر وتدوين مايجري بشكل محايد،لهذا فإن البلاغة ليست قضية عرض بسيط لأفكار محددة ولكنها أسلوب فريد خاص بصاحبه يمكنه من استعراض ذكائه اللغوي وعضلات تعبيره المتميز ويحاول التأقلم مع الإلهام الإنسيابي للأفكار.هذه الأفكار التي تصبح محط مغامرة لأبناء البلاغة الأنيقين الذين لا يترددون في التقاطها بكل حما س ومرح بواسطة هوائياتهم الوجدانية الخاصة لفرز أنماط معينة من المعرفة الجامعة الشاملة.إن الحقائق المعرفية ليست أشخاصا تستطيع ان تتحدث عن نفسها بحياد ،وإنما هي توليفات بلاغية يتعمد العالم إلى صياغتها لغويا وعجنها برؤيته المعرفية، غالبا مايتم اتهام البلاغة بانها أسلوب خيالي موح،لكنها مقابل ذلك تمنح لنا متنفسا نستطيع من خلاله التعبير المتعدد القنوات لقول فكرة واحدة، إن الشيفرات الرمزية البلاغية تساهم بفعالية في تشكيل لحمة ثقافة محلية لمنطقة ما بشكل مستدام لأنها تهتم بالكيفية التي تعرض فيها مكونات هذه الثقافة عبر أسلوبها في التعبير اللغوي أكثر من مضمونها. إن الأنظار والأسماع تصعق كلما كلما أثار انتباهها نوع جديد من التعبير البلاغي غير مألوف بحيث انه يشكل منعطفا لغويا وتحديا جديدا وجب تفكيك ألغازه و إعمال الفكر والتفكير لفهم محتواه الصادم. وغير بعيدا عن طابع التعبير الشعري،يأخذنا هذا التعبير الجديد الملغز بعيدا عن منطقة الوضوح لتشكيل سياج من الغموض يأخذنا على حين غرة في أحضان وضع استفهامي عنيف. إن معظم مساحة تواصلنا تكتسحها التعابير المجازية بشكل لا شعوري. كمثال: أخذت ثقل المسؤولية على ظهري/المسؤولية مفهوم غير محسوس لنسلك الطريق ونؤدي وظيفة المشي فيه وليس العكس،المثل يقول كذا وكذا/المثل ليس بشرا ليقول ويتحدث إلينا،حل الظلام و هبط الليل/الليل لا يصعد ولا يهبط وإنما هي الحركة الفلكية للشمس حول الأرض وغيابها هو الذي يفتح الباب للظلام كي يدخل ويحل محل االضياء النوراني الذي رحل مع غياب الشمس…إلخ كل هذه المعاني المصاغة في قالب بلاغي تجافي المنطق لأن الأشياء المذكورة من خلالها آنفا ليست بشرا أو كائنات حية تفعل كل تلك الأفعال، كما أنها بصدد تبليغ مغالطات في الظاهر إذا كنا نخاطب عبرها أناسا سطحيين سذجا ومهووسون بالوظيفة الوضعية المحسوسة للغة و لا يؤمنون إلا بظاهر الكلمات داخل خطاب يقوم بعملية تبليغ مباشر،فيتقاعسون عن الغوص في جوهر اللغة وعمق معانيها المختبئة خلف السطور لأن ذلك يستفز قدرتهم على التفكير و يثير اشمئزازهم. وفي إطار المحاولات التشبيهية كجزء من التعبير البلاغي سنجد أن هذه الثلة النموذجية تستهزئ من أولئك الذين يسمون اللغة ببصمة الوضوح والشفافية بقولهم :اللغة شفافة كالزجاج،والدماغ في نظر هؤلاء ليس حجرا حتى نقول عنه عقل متحجر أو متصلب كالحجر قاصدين به متعنت إلى حد أقصى ولا تجد فيه منفذا هوائيا صغيرا يدخل منه نسيم الإقناع والاقتناع،والقلب الذي لا يحس أويشعر بمشاعر الآخرين نقول أنه: قلب بارد كالثلج انخفضت درجة روحانيته ليتمتع بقساوة ترديه قتيلا فيموت القلب ليصبح ميتا،وهذا ماتؤكده علوم الحياة أن القلب الذي انخفضت درجة حرارته يتوقف عن النبض مما يعني أنه ميت أصلا بمجرد مغادرة الدفء له فيصبح مجرد كتلة لحم لا دم فيها ولاحركة ولا محل لها من الحياة ولا الشعور بالآخر. وقد نجد صاحب القلب الحديدي الأسود الصارم يشبه أصحاب القلوب البيضاء الرقيقة من حيث طبيعة القلب البيولوجية الفيزيولوجية الحمراء،ولهذا السبب من الصعب مصادرة البلاغة و إدانتها مادام أن تموقعها داخل اللغة مركزيا وخطير التأثيرحتى ولو كان التعبير عقلانيا علمويا قحا بحيث أن نيتشه أكد أن الحقيقة ماهي سوى جيش متحرك من الإستعارات والصور البلاغية لا أقل و لا أكثر والتي تؤنسن المصطلحات وتضفي عليها المظهر الطبيعي وتسقط عليها مجموعة من السلوكات التي تقوم بها المخلوقات الكونية.أما الواقع فإنه تعزيز لغوي يتم بواسطة سقالة البناء والإصلاح التي تضفي رتوشات إصلاحية أو تنميقية على جدار اللغة عبر صبغ الصور البلاغية المهترئة بأحدث صباغة بلاغية ترنو إلى تغطية المهترئ الذي انتهت صلاحية تأثيره بالمخترع الذي يصب في روح الإبداع والتجديد.
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.