الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهجرة النبوية: على خطى الرسول و زيارة لغار ثور على الطريق بين مكة و المدينة (فيديو)
نشر في أريفينو يوم 07 - 12 - 2010


الهجرة النبوية من فيلم الرسالة
عمرو خالد و الهجرة النبوية، متابعة لمسار هجرة الرسول على الميدان و زيارة لغار ثور الذي لجأ إليه الرسول مع أبي بكر
طرق هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى المدينه
بقلم:
أحمد المتوكل
المعاني الخالدة للهجرة النبوية
تعتبر الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة من أهم الأحداث العظيمة في الإسلام، لما كان لها من أثر مهم في انتصار الإسلام والمسلمين، وكغيرها من أحداث السيرة النبوية العطرة فيها دروس وعبر جمة ينتفع بها المسلمون في كل زمان ومكان، وفي هذا المقال المتواضع سأقف عند بعض المعاني الخالدة للهجرة النبوية.
يستقبل المسلمون عاما هجريا جديدا، يتذكرون فيه هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهجرة المؤمنين الصادقين من ديارهم وأموالهم وأهلهم من مكة مهبط الوحي عندما واجههم أعداء الله ووقفوا ضد إيمانهم، وحاولوا طمس الدين الإسلامي، ولما أذاقوهم ألوان الأذى وصَعُب على الرسول وأصحابه إقامة دولة الإسلام ونشرَ أفكارهم في البلد الحرام، ولما ضاقوا ذرعا بمضايقات المشركين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونالوا ما نالوا من ضرب وحبس واستهزاء، وأصبح مستحيلا على محمد وأصحابه المكوث بين قوم يريدون لهم الخير، ويقابلوا ذلك منهم بالشر والتهديد والأذى، أذِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة فخرجوا مُسْتخْفِين، ولمَّا خطط المشركون لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذِن الله لنبيه بالهجرة ومغادرة الوطن لنصر الإسلام، ولإقامة دولته في المدينة، بعدما هيأ الله للإسلام رجالا مخلصين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فتكونت الدولة الإسلامية هناك من المهاجرين والأنصار، وأصبحت قوية عزيزة فتحت مكة بعد ذلك، وهزمت المشركين، وقضت على صناديد الكفر والوثنية، ورفعت راية التوحيد في معاقل الشرك، وأقامت العدل على أنقاض الظلم والاستبداد.
إن الهجرة النبوية في نظر الإسلام وأهله -الذين يفهمونه حق الفهم- أعمق من تلك النظرة التاريخية التي يفهمها عامة الناس، فهي ليست حدثا تاريخيا عابرا مضى وانقضى، وما ينبغي لها ذلك، بل هي هجرة معنوية روحية وسلوك حضاري واختيار تُمليه الظروف، لا ترتبط بزمان ولا بمكان، إنها تعبير واضح عما يجب أن يكون عليه المؤمنون أفرادا وجماعات طوال حياتهم، إنها معنى حاملا ولفظا كاملا، تظل نبضا حيا في قلوب المؤمنين، وروحا تتجدد في كيانهم، تذَكِّرهم إذا غفلوا، وتوقظهم إذا ناموا.
إن باب الهجرة باق مفتوح ما بقي باب التوبة مفتوحا، وباب التوبة لا يُسَدُّ إلا بطلوع الشمس من مغربها، فالهجرة لَمْ تنته بعد، لأنها حركة دائمة وقيَم ومبادئ وانتقال مستمر من حال إلى حال، ومن مكان لآخر، تَلزَم المسلمين في كل زمان ومكان، فإذا كانت قد انتهت كحدث، فهي باقية كقيمة في الأمة إلى قيام الساعة، أعلى مراتبها الهجرة من الكون إلى المكون، وأول مراتبها الهجرة من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن المعصية إلى الطاعة، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إنها ستكون هجرةٌ بعد هجرة”
[1]، وقال عليه الصلاة والسلام: “إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد”
[2]، وبما أن الجهاد لا ينقطع، لقول الرسول عيه السلام: “الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال”
[3]، فالهجرة كذلك لا تنقطع، فما علينا إلا أن ننظر في سيرة المهاجرين الأُول ونتمعن فيما مدحهم الله به لندرك من ذلك أن الهجرة ماضية باقية ما بقي الكفر والإيمان، وأن الله ترك لنا بابا مفتوحا لنيل رضاه، ولإمكانية السير على تلك الخطى المباركة التي ساروا عليها بشرط اتباعهم بإحسان، يقول الله عز وجل في ذلك: ﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم﴾
، ويزيد الرسول صلى الله عليه وسلم من تأكيد هذا الأمر حيث يقول: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطعَ التوبة، ولا تنقطع التوبة، حتى تطلعَ الشمس من مغربها”
[4].
إن الهجرة المادية قد انقطعت بفتح مكة، ولقد بقيتْ أنواع من الهجرات عملا مستمرا دائما ماضيا في حياة الأفراد إلى الموت، وفي حياة الأمة إلى قيام الساعة، لكي لا يُحرم الخلَف من مِثل الأجر العظيم الذي فاز به السلف، لمَّا يكون الهدف هو إعلاء كلمة الله، واعتبارها مرجعا وحكما لا يعلو عليه شيء من أهواء النفوس وأحكام الجاهلية، وهكذا يتضح أن للهجرة معان تختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان:
وأول هذه المعاني: التوبة بمعناها الشامل، والرجوع إلى الله بالقلب والجوارح في السر والعلانية، والتوبة المطلوبة اليوم يجب أن يغلب فيها الهم الاجتماعي والسياسي على الهم الفردي، إذ التوبة الفردية لا تكفي وحدها لإصلاح أحوال المجتمعات الفاسدة على كل الأصعدة، بل لا بد من توبة عامة لكي تستقيم الأمور.
توبة تنقي القلوب من كل ما هو مشين، وتطهر مجتمعات المسلمين من كل مظاهر الانحراف والفساد، قال الله عز وجل: ﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾
، فيجب على المؤمنين أن يفروا من الله إليه يوميا إقتداء بالصالحين الذين جعلوا الله غايتهم وهدفهم، قال الله عز وجل: ﴿ ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين﴾
، فإذا كان أغلب الناس اليوم يهاجرون من أجل الدنيا ولأجل الرفاهية، فالمؤمن ينبغي أن تكون له وجهة أخرى غير وجهتهم، فيقصد بأعماله الله ووجهه الكريم، والهجرة الحقيقية سعي متواصل حثيث في رحلة القرب من الله، و هي تحول داخلي مقرون بعمل خارجي، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “إن الهجرة خصلتان: إحداهما: أن تهجر السيآت، والأخرى: أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تُقبلت التوبة”
[5].
ثم الجهاد: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا”
[6]، فجهاد المسلمين في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وصدُّ هجمات الكفار العسكرية والفكرية والسياسية والاقتصادية، والوقوفُ أمامها بحزم وترصد، ومواجهتُها بالحجة والبرهان، نوع من أنواع الهجرة الباقية، سأل رجل الرسولَ صلى الله عليه وسلم بعدما وضَّح له -الرسول- أركان الإيمان قائلا: “فأي الإيمان أفضل؟، قال: الهجرة، قال فما الهجرة؟، قال: تهجرَ السوء، قال فأي الهجرة أفضل؟، قال الجهاد”
[7].
ومن أنواع الهجرة: الجهاد في سبيل الرزق وطلب العيش والكدح على النفس والأهل، وتوفير سبل العيش الكريم لهم من كسب حلال طيب، فعن مجاهد قال: “قلت لابن عمر إني أريد أن أهاجر إلى الشام، قال لا هجرة ولكن جهاد، فانطلِق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئا وإلا رجعت”
[8]، وجهاد النفس وتزكيتها بالإيمان وحصرها عن المنكرات والرذائل، وهجر وساوسها وهواجسها، وقمعها ومنعها وردها إلى فطرتها وأصل خِلقتها، ومواجهة رعوناتها وميولاتها والوقوف أمامها بحزم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله”
[9]، وأوجه الجهاد أوسع من أن يشملها الحصر، لذلك كانت معنى ساميا من معاني الهجرة، والمسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى جهاد شامل في كل الميادين للنهوض بأوضاع الأمة المزرية.
ومن معانيها أيضا: تصحيح النيات باستمرار، للتأكد من الإخلاص لله قبل القيام بالأعمال وأثناءها وبعدها، فمتى وُجدت النية الصالحة في القلب توجهت الجوارح لله، وزكت الأعمال، ورجحت في الميزان عند الله عز وجل، وإذا لم تصحبِ النيةُ الصالحة الأعمالَ أصبحت هباء منثورا وإن كانت كالجبال.
ومن معانيها الخالدة: هجر رفقاء السوء وقرناء الغفلة والمعاصي، وخِلاَّن الرذيلة والمنكر، وصُحبة الصالحين المربين المجددين للدين والإيمان، والالتحاق بركب الصالحين الذين تظهر عليهم علامات الصلاح وسمات الاستقامة، قال الله عز وجل: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”
[10]، فالمؤمنون الأولون هجروا مشركي مكة وصحبوا رسول الله وفازوا بصحبته.
ومن معانيها الباقية: هجر حياة الفردانية وعيشة الانعزال والحياد والتفرج على أحوال الأمة إلى العيش لها ومعاناة همومها والتطلع إلى آمالها، وإيثار المصلحة الجماعية والسعي في الصالح العامِّ، وهجر الغثائية ووضع القصعة، والاندماج في سلك جماعة المؤمنين المجاهدين المتمسكين بالحق المدافعين عنه الذين يغارون على ثوابت الأمة ومقدساتها، ويقومون بواجب نصرة الدين، ويحاولون بناء مشروع الأمة المنهار، وإعلاءَ رايتها الساقطة، ورفعَ قيمتها الهابطة، واستعادة مكاسب الهجرة، فحظ المؤمن من رضوان الله- الذي فاز به المهاجرون الأُول- ينتظره بشرط أن يفعل ما فعلوا من هجرة ونصرة وجهاد بنفسه وماله وكل إمكانياته، قال الله عز وجل: ﴿ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم، والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم﴾
، وقال عليه الصلاة والسلام: “عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”
[11].
ومن معاني الهجرة التي لا تنقطع: هجر الظالمين الذين لا يقبلون الإسلام ولا ينتصحون، وهجر مخططاتهم ومناهجهم وبرامجهم المعارضة للإسلام المبعدة له عن واقع الحياة، المسببة في الذلة والاستسلام والانهزام والتبعية، وترك الميل والركون إليهم وموالاتهم، وهجر السكوت عن جرائمهم وحربهم الشعواء على الإسلام واستضعافهم وإقصائهم للمسلمين الصادقين، وهجر أنظمتهم الفاسدة وتكتلاتهم الضالة وأحزابهم العلمانية التي أظهر الواقع أنها تطمس الدين، وتخذل المسلمين وتوالي الكافرين، وتعادي الصادقين وتعمِّي على برامجهم ومشاريعهم، قال الله عز وجل: ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، ومالكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون﴾
، وقال الله لرسوله الكريم آمرا له بترك الكافرين: ﴿ واهجرهم هجرا جميلا﴾
.
ومن معانيها: هجرُ الراحة والخمول والتقاعس والبخل والترف، إلى التضحية من أجل هذا الدين بالنفس والمال والأهل، واستلهام روح الامتثال والتضحية والبذل التي كانت تميز الصحابة في كل مرحلة من مراحل الإسلام، إقتداء بالصحابة الذين خدموا الإسلام بكل ما يملكون، فهذا صُهَيب ترك كل ماله للمشركين مقابل السماح له بالهجرة، وأبو بكر سخَّر نفسه وأهله وماله وجُهده من أجل انتصار الإسلام، ومصعب بن عُمَير الذي تخلى عن حياة الترف والبذخ وعاش للإسلام ……
وهجر التفرق والتمزق والتشتت والاختلاف الظاهر على المسلمين إلى الائتلاف والوحدة والتعاون، والوقوف صفا واحدا في وجه الأعداء الذين يواجهوننا متوحدين، وترك كل ما يقطع الرحم ويباعد المسلمين ويشتت وحدتهم ويمزق صفهم ويفرق كلمتهم، قال الله عز وجل: ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾
، وقال تعالى أيضا: ﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص﴾
.
وهجرة المحرمات والمعاصي والابتعاد عن الفواحش والمنكرات والذنوب صغيرها وكبيرها، وكل ما يهبط بالمرء عن درجات التكريم الإلهي، وترك الانحرافات الفكرية والأخلاقية وكل قبيح من قول أو فعل، قال الله لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: “والرجز فاهجر” وترك مظاهر اللهو واللعب والأحقاد والضغائن وإذاية المسلمين وهتك أعراضهم واستباحة حرماتهم باليد أو باللسان، وعدم استغلال أموالهم والتصرف فيها بطريقة غير شرعية، واجتناب ظلمهم والاعتداء على حقوقهم، إلى خدمتهم ونصحهم والدفاع عنهم وتحقيق النفع لهم، فعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المهاجر من هجر الخطايا والذنوب”
[12]، قال السندي في شرحه لسنن ابن ماجة: “والمقصود من الهجرة القرب إلى الله تعالى، ولا يتم ذلك بدون ترك الخطايا، فالمهاجر الحقيقي الواصل لِمطلوبِ الهجرة: مَن ترَك الخطايا”
، وقال عليه الصلاة والسلام: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”
[13]، قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: “حقيقة الهجرة تحصُل لمن هجر ما نهى الله عنه”
، وعن عبد الله بن عمرو قال جاء أعرابي علَوي إلى رسول الله فقال يا رسول الله: أخبِرْنا عن الهجرة؟، إليك أينما كنت، أو لقوم خاصة، أم إلى أرض معلومة، أم إذا مُت انقطعت؟، قال: فسكت عنه يسيرا ثم قال: “أين السائل؟، قال ها هو ذا يا رسول الله، قال: الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضر”
[14].
وهجرة أماكن الشر والظلم والتزوير والمواطن التي ترتكب فيها المحرمات كمجالس الخمر والقمار والغناء والفجور والشبهة ومجالس الغيبة والنميمة إلى المساجد ومجالس العلم والإيمان، فمن جلس مجلسا تُتَناول فيه المحرمات فهو مشارك لأهله في الإثم وإن لم يفعل ما فعلوا، لقول الله عز وجل: ﴿ وقد نُزِّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتمُ آيات الله يكفر بها ويستهزؤا بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكمُ إذا مثلهم﴾
، وقال تعالى: ﴿ وإما يُنْسيَنَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين﴾
، فالمؤمن الحق هو الذي يترك السوء وأهله ومكانه إقتداء بالرسول وأصحابه الذين هجروا المشركين وبيئتهم.
إن المؤمنين الذين يثبتون على الحق ويلتزمون به ويدعون إليه، ولا يؤذون أحدا، ولا ينتهكون المحرمات، ويعبدون الله حق عبادته، ويسعون في الأرض بالإصلاح والتعمير في الوقت الذي يكثر فيه الإجرام وينشط دعاته، وتزداد الفتنة والاضطرابات، وتنتشر الرذائل والمحرمات، وتداس الكرامات، حينذاك يكون تشبثُ المرء بدينه وتركه لما يغضب الله عز وجل واختياره لطريق الله المستقيم ولزومه له، كل هذا يعطيه ثواب الهجرة ويرفعه إلى درجة المهاجرين الأَول، قال الرسول البشير صلى الله عليه وسلم: “العبادة في الهرْج كهجرة إليَّ”
[15]، والهرْج هو الفتنة والقتل والاضطراب.
فعلى شبابنا وشاباتنا أن يهجروا الأخلاق السيئة التي وفدت علينا مع ركب الحضارة الزائفة التي أراد أصحابها دنيا بلا دين وحياة بلا أخلاق ولا مروءة، وأن يتجنبوا السقوط في مستنقعات الرذيلة والابتلاء بمفاسد العصر التي هي من سمات الجاهلية الحديثة، كالتدخين والمخدرات والخمور والعري والغناء الصاخب الماجن والزنا وكل ما يضر بدينهم ومالهم وصحتهم وخلقهم وسمعتهم، وأن يقفوا لمخططات الأعداء بالمرصاد وأن يكونوا منها على بينة لكي لا يصبحوا كأبناء الغرب الذين يعانون من المشاكل الأخلاقية والاجتماعية والأمراض النفسية.
ثم هجرة الغفلة وترك الابتعاد عن الله إلى ذكره وعدم الفتور عن ذلك باللسان وبالقلب سرا وجهرا ليلا ونهارا، قياما وقعودا وعلى الجنوب، بانفراد وفي الملإ، قال الله عز وجل: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا﴾
.
فلا يتم إسلامنا ولا يزيد إيماننا ولا يكمل إحساننا إلا إذا هاجرنا بقلوبنا وجوارحنا إلى الله في السر والعلن بالتوبة الصادقة الدائمة في حياتنا كلها، واستصحبنا الله معنا في قلوبنا ووجداننا في رحلتنا اليومية إليه سبحانه، وتوكلنا عليه وأحكمنا الخطط وأخذنا بأسباب النصر، ولم نأبه بعراقيل وكيد الأعداء، ولا نحزن لشيء أصابنا مهما كان، اقتداء بالرسول والصديق.
فهذه أنواع من الهجرات الباقية التي يقدر عليها كل مسلم، ما فيها نصب ولا تعب، ولا تترك آلاما في النفوس ولا خسارة في الأموال، ولا وحشة في الأهل ولا غربة في الأوطان، فإذا تمسك المسلمون بهذه المعاني وساروا على خطواتها ازداد إيمانهم وتماسك بنيانهم وقويت شوكة الإسلام وانجمع شمل الأمة الممزق، وعادت لها عزتها المفقودة، وطهرت الأرض من الفساد والمفسدين، واندحر الباطل وأهله وعادت الحاكمية لله الحق، وتُركت قوانين الكافرين، وحُررت أراضي المسلمين من المتسلطين، وحررت النفوس من الخضوع للجبابرة الطغاة، ورجعت الكلمة للصالحين الراشدين، وتُرفع راية الحق عالية، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم.
وبهذه الأنواع من الهجرات يستبين للمسلم سبيل الهدى من سبل الضلال، وبها يكمل له دينه، وتسلم استقامته من الزلل والانحراف، وبها يتجدد الدين وتصفو معالمه، بها الإسلام انتصر، وبها يبقى ويستمر.
وإن المؤمن لا يستطيع أن يثبت على دينه ويستقيم على أمره ويحفظ إيمانه من الشوائب والمكدرات وأمام الفتن إلا بالهجرة، لأن الإيمان الخالص يستلزم الهجرة ويقوم عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.