حسن لقيبي الجمعة 13 يونيو 2025 - 21:16 الصراع الإيراني-الإسرائيلي مكر التاريخ والنافذة التاريخية في أعقاب التغيرات الجيوسياسية التي شهدها الشرق الأوسط مطلع القرن الحادي والعشرين، وتحديدا بعد سقوط النظام العراقي عام 2003، ساد فراغ استراتيجي كبير سارعت إيران وإسرائيل لملئه كفاعلين محوريين، يسعى كل منهما لفرض رؤيته وترسيخ نفوذه كقوة مهيمنة في المنطقة. انخرط الطرفان في صراع طويل ومعقد، اتخذ في بدايته شكل "حرب بالوكالة" تدار عبر وكلاء وضربات محسوبة، معتقدين بقدرتهما على التحكم في قواعد اللعبة. إلا أن هذا التوازن الهش سرعان ما بدأ بالتآكل تحت وطأة الطموحات الأيديولوجية والأزمات الداخلية العميقة لكلا النظامين. يكشف هذا التحليل كيف تحولت الاستراتيجيات التي بدت عقلانية ومضبوطة إلى مسار حتمي نحو مواجهة مفتوحة، ويدرس الدينامييات الداخلية التي تغذي هذا الصراع، ويستشرف السيناريوهات المستقبلية لمنطقة تقف اليوم على أبواب نافذة تاريخية. * أسس الصراع: سرديتان متنافستان للهيمنة لقد بنى كل طرف استراتيجيته الإقليمية على سردية متكاملة تبرر أفعاله وتحدد أهدافه: * المشروع الإيراني: تصدير الثورة عبر محور المقاومة انطلقت إيران بثقة استراتيجية عالية، معلنة بكل فخرعن نفوذها الممتد إلى أربع عواصم عربية رئيسية (بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء). لم تعد طهران ترى نفسها محصورة في حدودها القومية، بل قدمت نفسها كقائد ل"محور المقاومة"، وهو مشروع أيديولوجي وسياسي يهدف لمواجهة "الاستكبار الغربي" والمشروع الصهيوني بحسب زعمها. اعتمدت طهران بشكل أساسي على بناء شبكة من القوى المحلية المسلحة و"المدنية" التي تدين لها بالولاء العقائدي والسياسي، مثل حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن... منحتها هذه الاستراتيجية عمقا ونفوذا مكنها من إدارة الصراع عن بعد، وتوجيه رسائل الردع دون التورط في مواجهة عسكرية مباشرة، مما عزز صورتها كقوة إقليمية قادرة على المناورة رغم الحصار الاقتصادي. * العقيدة الإسرائيلية: الردع عبر استعراض القوة المطلقة في المقابل، عملت إسرائيل على ترسيخ عقيدتها العسكرية القائمة منذ تأسيسها على مبدأ "القوة التي لا تقهر"، لم تكن هذه السردية مجرد انعكاس للتفوق العسكري، بل أداة أساسية في هندسة الوعي لدى الخصوم والحلفاء على حد سواء. استندت هذه المقاربة إلى دعامتين: * الأولى: تنفيذ ضربات استباقية دقيقة وعالية التأثير في عمق أراضي خصومها، كما حدث في استهداف المفاعل النووي السوري عام 2007، وعملية البيجر وصولا إلى أهداف متعددة في قلب إيران. * الثانية: التوظيف الإعلامي والنفسي لهذه العمليات لإبراز التفوق الاستخباراتي والتكنولوجي، وترسيخ صورة الجيش الذي يمتلك القدرة على الوصول إلى أي مكان وفي أي وقت. * من الحرب الآمنة إلى التصعيد الحتمي في ظل هذه الاستراتيجيات، انخرط الطرفان فيما يمكن وصفه ب"الحرب الآمنة"، حيث أصبحت الساحات العربية، وخصوصاً سورياوالعراق، مسرحاً لتبادل الرسائل العسكرية الدموية عبر الطائرات المسيّرة، والميليشيات، والغارات الجوية والتدخل البري... كانت هذه العمليات تندرج ضمن قواعد اشتباك غير معلنة، تهدف إلى إضعاف الخصم دون إشعال حرب شاملة. إلا أن التاريخ أثبت أن السيطرة على الفوضى أمر شبه مستحيل، فمع مرور الوقت بدأ هذا التوازن الدقيق يتآكل بفعل ما يمكن تسميته ب"مكر التاريخ"، حيث تؤدي القرارات العقلانية المنفردة إلى نتائج كارثية غير متوقعة للجميع فالضربات الإسرائيلية المتكررة ضد وكلاء إيران، وإن كانت تهدف إلى "جز العشب" ومنع تراكم القوة، إلا أنها ولدت ضغطا على طهران للرد حفاظاً على هيبتها ومصداقيتها أمام حلفائها، في المقابل وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة وكلاء أصبحوا أكثر جرأة وتطورا، مما جعلها ترفع مستوى عملياتها لتصبح أكثر توغلا وخطورة. وهكذا، تحولت "حرب الوكالة الآمنة" تدريجيا من صراع محكوم بقواعد إلى حلقة مفرغة من العنف المتبادل، حيث كل فعل يستدعي رد فعل أقوى، مما أدى إلى تآكل الخطوط الحمراء ودفع الطرفين إلى حافة مواجهة مباشرة لم يكن أي منهما يخطط لها أو يرغب فيها. * إيران وإسرائيل نظام واحد ووضع داخلي متقارب لفهم هذا الاندفاع نحو المواجهة، لا يكفي تحليل الاستراتيجيات العسكرية، بل يجب النظر إلى البنية الداخلية للنظامين، حيث يكشف كل منهما عن أوجه تشابه لافتة مع الآخر، لا سيما في توظيف العداء الخارجي كأداة لإدارة الأزمات الداخلية وتتجلى أوجه الشبه فيما يلي: * أيديولوجيات متصادمة وأزمات متماثلة: يرتكز النظام الإيراني على عقيدة "ولاية الفقيه" ذات الطابع الثوري التوسعي، بينما تشهد إسرائيل هيمنة متزايدة "للصهيونية الدينية" التي تتبنى خطاباً دينيا لتبرير التوسع ورفض التسويات السياسية. كلاهما يعاني من أزمات داخلية عميقة؛ فإيران تواجه مجتمعا شابا يطمح للتغيير، واقتصادا منهارا، واحتجاجات شعبية متكررة. أما إسرائيل، فتشهد استقطابا سياسيا واجتماعيا حادا حول هوية الدولة ومستقبلها الديمقراطي. * تصدير الأزمات: في ظل سياق مشحون، يصبح "العدو الخارجي" أداة حيوية للقيادات في طهران وتل أبيب. فتضخيم التهديد الوجودي يساهم في صرف الانتباه عن الإخفاقات الداخلية، وتوحيد الجبهة الداخلية المنقسمة حول هدف مشترك، حتى لو كان ثمن ذلك هو الانزلاق نحو حرب مدمرة. * سيناريوهات الصراع الإيراني الإسرائيلي بعد أن كسرت قواعد "حرب الوكالة" ووصل الصراع اليوم إلى مستوى المواجهة المباشرة، تقف المنطقة أمام مستقبل محفوف بالمخاطر. الخيارات المتاحة لا تبدو بين الحرب والسلام، بل بين أشكال مختلفة من الخسارة والاستنزاف: * سيناريو حرب الاستنزاف طويلة الأمد: يمثل هذا المسار استمرارا للوضع الراهن ولكن بوتيرة أعلى. ستشهد المنطقة سلسلة من الضربات المتبادلة وعمليات الاغتيال والهجمات السيبرانية، مما يستنزف الموارد الاقتصادية والبشرية للطرفين دون تحقيق نصر حاسم. النتيجة هي "موت بطيء" للمنطقة، تضعف فيه شرعية الأنظمة داخليا، ويتعمق فيه اليأس الشعبي، وتصبح المنطقة رهينة لحالة "اللا حرب واللا سلام" الهشة. * سيناريو الانتصار الرمزي: قد ينجح أحد الطرفين في توجيه ضربة استراتيجية (نووية...) تبدو وكأنها "نصر"، لكن كلفتها ستكون باهظة إلى درجة تجعلها أقرب إلى الهزيمة. سيؤدي هذا السيناريو إلى دمار هائل، وأزمات إنسانية، وعزلة دولية للمنتصر، الذي سيجد نفسه قد أحرق جميع أوراقه. * نافذة تاريخية قد تفتح في المشرق إن التحليل النهائي للصراع الإيراني-الإسرائيلي كيفما كانت نهايته عاجلا أن أجلا يقودنا إلى نتيجة تتجاوز موازين الربح والخسارة العسكرية. فالفصل الختامي لهذا الصراع لن يكتب بالصواريخ، بل بتفكك "القوة الصلبة" التي بناها الطرفان على مدى عقود، وإتاحة إرثها الاستراتيجي لمن يملك القدرة على استيعابه، هذا الإرث ليس الأرض فقط، بل هو كنز مادي ومعرفي هائل يشمل: * البنى التحتية المتقدمة: من منشآت صناعية دقيقة، ومختبرات أبحاث، وشبكات تكنولوجية معقدة. * الخبرات النووية والعسكرية: أسرار البرامج النووية، وتصاميم الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة، وتقنيات الحرب السيبرانية، وعقود من الخبرات العملياتية والاستخباراتية. * رأس المال البشري: وهو الأثمن على الإطلاق، ويتمثل في آلاف العلماء والمهندسين والخبراء الذين يشكلون العقل المدبر لهذه المنظومات. إن ضعف أو انهيار أحد هذين القطبين أو كليهما سيفتح الباب أمام سباق من نوع جديد، ليس للتوسع فقط، بل لوراثة هذه التركة واقتناص هذه الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر. لكن شروط النجاح في هذا السباق تتجاوز الإمكانيات المالية أو البراغماتية السياسية. فالقوة التي سترث هذا الفراغ وتتمكن من بناء المستقبل، لا بد أن تستند إلى ركيزتين أساسيتين: * امتلاك رؤية حضارية جامعة: لا يمكن استقطاب العقول المهاجرة ودمج التكنولوجيا المعقدة ضمن مشروع يفتقر إلى البوصلة الأخلاقية والاستراتيجية، لا بد من وجود رؤية حضارية تستلهم من الجذور الإسلامية للمنطقة قدرتها على التوحيد والتعبئة، وتقدم إجابات صادقة للأسئلة الكبرى حول العدالة الاقتصادية والاجتماعية. * الاستناد إلى القوة الديموغرافية: إن العمق الديموغرافي الهائل للعرب هو المحرك البشري الذي لا غنى عنه لأي مشروع مستقبلي. فهذه الكتلة البشرية هي التي ستوفر الأيدي العاملة، والعقول المبدعة، والسوق الاستهلاكية، والعمق الاستراتيجي لأي قوة تطمح إلى قيادة المنطقة. ختاما السؤال المركزي في الصراع الإيراني الإسرائيلي ليس من سينتصر؟، بل أي مشروع سيتمكن من استثمار القوة المبعثرة؟ إن التاريخ يفتح الآن نافذة ضيقة، والقوة التي ستشكل مستقبل المشرق هي تلك التي تملك الحكمة لترى أن الإرث الحقيقي ليس في السلاح فقط، بل في الإنسان، وأن القوة لا تبنى بالهيمنة، بل بمشروع حضاري قادر على إلهام الملايين. وفي قلب هذا التحول الاستراتيجي، تقع مسؤولية تاريخية مباشرة على عاتق الشعوب العربية، خاصة في تلك الساحات التي تحولت إلى ملاعب للصراع كالعراقولبنان واليمن... فالاصطفاف الأعمى خلف أي من الطرفين والانجرار العاطفي وراء شعاراتهما لا يعني سوى القبول الطوعي بأن يكونوا وقودا وحطبا لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. والأخطر من ذلك، أن المتابعة السلبية وغير الواعية لما يجري وأقصد متابعة الصراع بين إيران وإسرائيل كما لو كان مباراة في كرة القدم، ينتظر فيها الرد والرد المضاد، تترك الباب مفتوحا على مصراعيه لآخرين، لتلك القوى الطامحة التي تمتلك مشروعا، لاقتناص الفرصة وبناء نظام جديد قد لا يكون لهذه الشعوب مكان فيه إلا كأتباع، إن لحظة التاريخ لا تنتظر الغافلين، والفرص لا تمنح لمن يختارون دور المتفرج. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة