حسن لقيبي الأربعاء 16 يوليوز 2025 - 23:43 ملامح الوساطة الأمريكية المحتملة في الصحراء المغربية عندما توضع قضايا السيادة والأرض على موائد القوى الكبرى، لا تُناقش كحقوق مشروعة بقدر ما تُستخدم كأوراق ضغط ومساومة. قضية الصحراء المغربية ليست استثناءً؛ إذ لطالما أدت تباينات المصالح الدولية إلى تعقيد الحل السياسي وإبقاء النزاع قائماً. وفي ظل هذا السياق الدولي الذي تهيمن عليه مقاربة براغماتية ترى في الصراعات فرصا لإعادة ترتيب النفوذ وتوزيع المصالح، برزت "فلسفة الصفقات" الأمريكية "الترامبية"، التي تعتبر النزاعات أدوات لتحقيق الهيمنة والمكاسب الاقتصادية. لذا، من الضروري لكل دولة تحرص على وحدة ترابها واستقلال قرارها أن تُحكم إعداد أوراقها الدبلوماسية وتكون مستعدة لمواجهة كل الاحتمالات. تحول السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا لقد شهدت السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا تحولا ملحوظا بعد عقود من اللامبالاة اتسمت أساسا بتدخلات أمنية محدودة ومساعدات إنسانية ظرفية؛ هذا التحول بدأ مع إدارة بايدن وتواصل مع إدارة ترامب، فالاستراتيجية الأمريكيةالجديدة تجاه القارة لم تعد تقدم الاستقرار الإفريقي كقيمة أخلاقية بحد ذاتها، بل كأداة وظيفية لضمان بيئة آمنة للاستثمار الأمريكي، خصوصا في مجالات ذات أولوية كالطاقة والمعادن الاستراتيجية. ومن هذا المنظور، لم تعد الوساطات السياسية أو مبادرات السلام غايات إنسانية، بل تحولت إلى أدوات تقاس بمدى قدرتها على فتح الأسواق وتقويض نفوذ الخصوم، وعلى رأسهم الصين وروسيا. هذه المقاربة البراغماتية تمثل جوهر التصور الأمريكي الجديد لإفريقيا فكل تسوية سياسية يجب أن تولد فرصا اقتصادية، وكل استقرار داخلي يعاد صياغته باعتباره مقدمة لاختراق استثماري. الوساطة الأمريكية في الصحراء المغربية: منهجية الصفقات في هذا السياق وباستحضار الوساطة الأمريكية الأخيرة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا يمكن القول إن ملامح الوساطة الأمريكية في ملف الصحراء المغربية ستتشكل وفق نفس المنهجية، خاصة إذا علمنا أن مهندس الوساطة الأخيرة هو مسعد بولس، مستشار الرئيس المكلف بالشؤون الإفريقية والشرق أوسطية، بوصفه حاملا لمشروع يدمج البعد السياسي بالاقتصادي ضمن منطق الصفقات الشاملة. وقد كشفت تصريحاته الأولى في أبريل 2025 عن جانب من هذا النهج؛ إذ قبل أن يؤكد لاحقا على ثبات موقف بلاده الداعم لسيادة المغرب على صحرائه، كان قد تحدث بلغة ملتبسة عن ضرورة إيجاد حل "يرضي طرفي النزاع" وتسوية "مشكلة اللاجئين"، مضيفا أن الجزائر "مستعدة للقبول بما تقبل به البوليساريو" ( حديث خاص مع قناة العربية،). ما يعني أنه تواصل مسبقا مع الجزائريين وبما يعكس رؤية وسيط يفضل إبقاء الأبواب مفتوحة أمام الطرفين، لتهيئة مناخ تفاوضي مرن يمهد لصفقات أوسع ذات أبعاد سياسية واقتصادية متشابكة، وفي نفس الوقت تحقيق مجد دبلوماسي شخصي. معادلة واشنطن: المغرب حليف والجزائر منجم على ضوء النموذج الكونغولي الرواندي، تصبح قضية الصحراء المغربية اليوم تحت مجهر مسعد بولس. فالولاياتالمتحدة، التي اعترفت رسميا بمغربية الصحراء في دجنبر 2020، تجد نفسها أمام معادلة دقيقة، الحفاظ على شراكتها الاستراتيجية العميقة مع المغرب كحليف استراتيجي موثوق لا يمكن التفريط به لصالح أقطاب منافسة، وفي نفس الوقت عدم إغلاق الباب أمام الجزائر التي تمتلك أوراق طاقية ومعدنية بالغة الأهمية. ويبدو أن الجزائر تدرك طبيعة المقاربة الأمريكية، لذلك اتجهت دبلوماسيتها مؤخرا إلى خطاب يقوم على استمالة واشنطن عبر إغراءات اقتصادية، كما جاء في تصريح السفير الجزائريبواشنطن ووزير الخارجية السابق صبري بوقادوم الذي قال بوضوح إن "الرئيس ترامب يؤمن بالصفقات" (ديفانس سكوب)، مشيرا إلى استعداد الجزائر لفتح قطاعات الغاز والمعادن النادرة أمام الاستثمار الأمريكي، وهي رسالة مركزة مفادها أن الجزائر جاهزة لتكون منجما أمريكيا مقابل التخفيف من "انحياز" واشنطن لموقف المغرب وعرقلة أي حل نهائي وشرعي لقضية الصحراء المغربية، ولعل مصادقة الجزائر على قانون يسمح للمستثمرين الأجانب بإمتلاك 80% من المناجم لدليل أخر على أن هناك من يهمس في أذن الجزائريين خلف الستار، كما تشير النسبة المذكورة إلى أنها مزايدة على النسبة المغربية 70%. جوهر النزاع يتجاوز منطق الصفقات رغم وجود مؤشرات تفيد برغبة أمريكية في بلورة صفقة وساطة تنسجم مع مقاربتها الجديدة، فإن جوهر النزاع في الصحراء المغربية يتجاوز منطق الصفقات العابرة؛ فهذه القضية ليست مجرد خلاف حدودي أو تنازع مصالح اقتصادية، بل تمثل للمغرب مسألة وجود وهوية ووحدة وطنية لا تقبل المساومة، في المقابل، تنظر الجزائر إلى النزاع كأداة استراتيجية لتفتيت المغرب عبر دعم مشروع انفصالي تابع لها، وهو ما يجعل أي محاولة وساطة أمريكية تصطدم بجدار صلب من التناقضات؛ فكيف يمكن التوفيق بين مطلب السيادة الكاملة للمغرب، ومخطط جزائري جوهره التقسيم؟ وأي صفقة تلك التي يمكن أن ترضي طرفين لا يلتقيان في الحد الأدنى من الأهداف؟ صحيح أن واشنطن تملك أدوات ضغط فعالة، من العقوبات الموجهة إلى التحكم في المساعدات ودوائر القرار الدولي، لكنها نادرا ما تفعل هذه الأوراق ما لم تتقاطع مع مصالحها الكبرى، فهل تملك الولاياتالمتحدة حافزا كافيا لتوظيف قوتها في هذا الملف؟ والأهم، هل سيستعمل هذا الضغط لتعزيز موقف المغرب أم لمقايضته؟ في كل الأحوال، تظل سيادة الدول ومواقفها الراسخة عاملا حاسما، إذ لا يمكن اختزال القرارات المصيرية في رهانات السوق أو أدوات الابتزاز الجيوسياسي. السيناريو المحتمل: وساطة شكلية وبهرجة إعلامية للامتصاص الضغط من المحتمل أن تنصاع الجزائر إلى وساطة أمريكية شكلية مع المغرب، تُسوق على أنها انفراج دبلوماسي يشمل إعادة فتح الأجواء واستئناف العلاقات... وتُرفق ببهرجة إعلامية تهدف إلى إظهار مرونة جزائرية مصطنعة. غير أن هذا المسار، لن يغير شيئا من طبيعة الصراع، إذ لا يُنتظر أن يتبعه أي التزام بحل جذري أو نهائي، بل يُوظَّف فقط لربح الوقت... مع الحفاظ على الجمر تحت الرماد في انتظار لحظة إقليمية أو داخلية ملائمة لإعادة إذكاء النزاع المفتعل؛ ويكشف هذا السلوك عن رهان خفي على تآكل داخلي محتمل في المغرب أو سقوط النظام السياسي، وهو وهم تغذيه أطراف في المؤسسة العسكرية الجزائرية تعتقد أن الوقت يعمل لصالحها، وتعمل على تحقيقه من خلال الاختراقات السيبرانية ومجموعات التسريبات استنساخا لتجربة ويكليكس ووثائق بنما. إن تعقيدات المقاربة الأمريكية تجاه قضية الصحراء المغربية تتطلب تبني سياسة مغربية تُوازن بين استيعاب منطق المصالح الأمريكية وتفادي الانجرار إلى منطق التنازلات التدريجية، فالموقف المغربي الذي يجب التمسك به واضح؛ السيادة على الصحراء ليست موضوع نقاش، والحكم الذاتي المقترح ليس سوى صيغة نهائية ضمن إطار الوحدة الوطنية، لا بوابة لحوار بلا سقف. أوراق الضغط التفاوضية للمغرب يمكن للمغرب تحريك عدة أوراق ضغط تفاوضية تجاه الجزائر وتغذيتها واستثمارها بفعالية، كملف الصحراء الشرقية من خلال الوثائق التاريخية، واتفاقية الاستغلال المشترك لمنجم غار الجبيلات... عبر الوسائل القانونية، أضف لذلك الضغط من أجل إحصاء المحتجزين بمخيمات تندوف، توظيف التقارير الأوروبية المتعلقة بالمتاجرة بالمساعدات الإنسانية في الجزائر... والاشتغال على مشاركة البوليساريو في دعم أنظمة القذافي وبشار الأسد ومشاركتها في أنشطة إرهابية بمنطقة الساحل... باعتبارها فاغنر جزائرية... أخيرا إن الرهان المفرط على الدعم الأمريكي في قضية الصحراء المغربية يُعد خطأ استراتيجيًا متكررا في مقاربة الرباط للسياسة الدولية. فرغم التحالف الوثيق بين البلدين منذ الاستقلال حتى الآن، ظلت واشنطن تتعامل مع الملف من منظور براغماتي بحت، حيث تقدم الوعود وتتوارى الالتزامات. فحتى عندما امتلكت القدرة على حسم الموقف لصالح المغرب، خصوصًا بعد نهاية الحرب الباردة وفي عز الحرب الأهلية الجزائرية، فضلت تبني مقاربات مائعة تحافظ بها على قنواتها المفتوحة مع الجزائر، ومجمل التوازنات الإقليمية. هذا الواقع يفرض على المغرب تجاوز منطق الاعتماد على "الحليف التقليدي" نحو هندسة دبلوماسية أكثر استقلالية، تقوم على تنويع الشركاء، وتعدد مسارات التأثير، دون الارتهان لأي طرف. مع تقوية الشرعية الميدانية والسياسية بأسلوب مرن وفعال، فالشرعية الدولية لا تُنتزع فقط من الخارج، بل تُبنى من الداخل؛ عبر ترسيخ مشروع تنموي عادل، وتعزيز اللحمة الوطنية، وتوطين سردية وحدوية قادرة على الصمود أمام تقلبات الجغرافيا السياسية. ففي النهاية، لا يحمي القضايا الوجودية إلا قوة الداخل، لا وعود الخارج. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة