د. محمد شقير الأثنين 4 غشت 2025 - 0:27 اليد الملكية الممدودة بين الثوابت السياسية والمتغيرات الجيوستراتيجية تميز خطاب العرش بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين على تربع الملك محمد السادس على العرش، بأنه لم يكن مجرد خطاب مناسباتي، بل هو خطاب يؤكد على استراتيجية ملكية في تحديد موقف المغرب إقليميا ودوليا، خاصة ما يتعلق بنزاعه مع الجزائر . إذ أن تخصيص جزءا من هذا الخطاب للتوجه نحو الجزائر في الوقت الذي كان من المفروض أن يكون الخطاب مقتصرا على الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية، يظهر الأهمية القصوى الذي يوليها العاهل المغربي لهذا الملف. وفي الوقت الذي تزايدت فيه الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء والتراجعات عن مساندة الكيان الانفصالي، اختار العاهل المغربي أن يجدد دعوته الصادقة والمفتوحة إلى الجزائر، مؤكدا من جديد ثبات الموقف المغربي في السعي إلى وحدة المغرب الكبير وبناء مستقبل مشترك يقوم على الحوار والتفاهم. - سياسة اليد الممدودة و ثوابث السياسة الخارجية للمملكة إن نزاع الحدود بين المغرب والجزائر ارتبط بشكل لصيق بتاريخ الدولتين سواء في الفترة الرومانية أو مع الفترة العثمانية، حيث عمل السلطان سليمان القانوني على اختراق المغرب ومحاولة جعله إيالة تركية. لكن موقعة وادي اللبن حدّ من هذا الطموح السياسي خاصة بعد الحسم الحكم السعدي في معركة وادي المخازن التي مكنت السلطنة المغربية من الحفاظ على أمن حدودها الشرقية، إلى أن تمكنت القوات الفرنسية بعد احتلالها للجزائر من اقتطاع أجزاء من المناطق الشرقية تمهيدا لاحتلالها للمغرب. وقد طالب المغرب بعد استقلاله باسترجاع هذه المناطق أو ما سمي بالصحراء الشرقية الشيء الذي رفضته السلطات الجزائرية، بل عملت على انتهاك الحدود المغربية، مما اضطر الملك الحسن الثاني إلى إرسال فرقا عسكرية بقيادة الجنرال ادريس بن عمر العلمي الذي استطاع أن يحسم المعركة في ثلاثة أيام، محققا نصرا مظفرا في حرب شرسة، باكتساح واسع، واسترجاع للأراضي التي احتلها الجيش الجزائري، وتغلغل عسكري في الأراضي الجزائرية، حتى كاد أن يصل مشارف مدينة وهران، وذلك على الرغم من المساندة العسكرية للنظام الجزائري من طرف الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي أرسل دعما عسكريا يتكون من ضباط مصريين، حيث قام بأسرهم الجنرال بنعمر بعد تطويقهم في صحراء قاحلة. إلا أن قرارا صدر عن الملك الحسن الثاني بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة يقضي برجوع الجيش المغربي إلى منطلقاته، أربك حسابات الجنرال بنعمر الذي عقد العزم على دخول وهران وتندوف فاتحا وغازيا. حيث لم يستسغ هذا القائد العسكري القادم من مدينة مولاي إدريس زرهون، والمحارب الباسل في الحرب الهند الصينية، قرار الحسن الثاني بتراجع قواته إلى منطلقاتها، وخاصة بعد اقترابه من تندوف، حيث اعتبر قرار الحسن الثاني خروجا عن المنطق الحربي والتقاليد العسكرية، وعبر عن ذلك في لقاءه للحسن الثاني بخلع بزته العسكرية المثقلة بالنياشين و إلقاءها أمامه، قائلا: "مولاي لا يقبل في المنطق الحربي والتقاليد العسكرية أن يعود جيش منتصر إلى منطلقاته الأولى كجيش منهزم". غير أن قرار الملك الحسن الثاني لم يكن يستند إلى منطق عسكري، بل كان نابعا من ثوابت سياسة تقوم على ابعاد جيو تاريخية وتبصر سياسي يقوم على توازن قوى لا يمكن أن يدخل المنطقة في حرب مباشرة ومنهكة لا تنتهي. وقد عبّر الملك الحسن الثاني عن هذا التصور خلال الحرب العراقية الإيرانية معتبرا بصعوبة تحقيق انتصار لأي من الطرفين. ولعل هذا ما دفع بالملك الحسن الثاني بعد تحييد نظام القذافي من معادلة الصحراء إلى محاولة فتح صفحة سياسية جديدة مع النظام الجزائري من خلال فتح الحدود وتأسيس تكتل مغاربي تنص بنود معاهدته على عدم احتضان أي تنظيم يهدد سلامة الحدود، لكن يبدو أن النظام الجزائري، الذي تقوم عقيدته العسكرية على الهيمنة الإقليمية استنادا إلى توسع مساحته الجغرافية وغنى موارده البترولية، وشبكة علاقاته الدبلوماسية المرتبطة بتحالفاته الاشتراكية، سواء مع المعسكر الاشتراكي أو محاور التحرر العالمي، سرعان ما أقفل الحدود، وسلك كل السبل لشل التكتل المغاربي. ومع ذلك، فقد بقي الملك متفائلا بإمكانية إعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعي من خلال سياسة اليد الممدودة. وقد واصل الملك محمد السادس هذه السياسة، إذ على الرغم من مواصلة النظام الجزائري احتضان جبهة البوليساريو وخرقها لاتفاق 1991 بعودتها إلى حمل السلاح، ومناوئة الدبلوماسية الجزائرية لحق المغرب في استرجاع وتنمية أقاليمه الجنوبية، وإقفال الحدود بين البلدين، فقد بقي المغرب محافظا على سياسة اليد الممدودة. فقد أكد العاهل المغربي حيث أشار في إحدى خطبه "المغرب والجزائر أكثر من دولتين جارتين، إنهما توأمان متكاملان ما يمس أمن الجزائر يمس أمن المغرب، والعكس صحيح. نوجه دعوة صادقة إلى الجزائر من أجل بناء علاقة ثنائية أساسها الثقة وحسن الجوار نطمئن أشقاءنا الجزائريين بأن الشر والتهديد لن يأتي من المغرب". وبالتالي، فهذه اليد الممدودة، رغم الاستفزازات والانقطاع الرسمي للعلاقات منذ غشت 2021، تعبر عن موقف سيادي ناضج لا يتأثر بموازين القوى، بل ينطلق من رؤية استراتيجية قائمة على الوعي بالمصير المشترك ووحدة التاريخ والدين واللغة بين الشعبين الشقيقين. - اليد الممدودة وتكريس الانتصارات الدبلوماسية إن تركيز الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 26 لجلوسه على العرش على الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي وبالأخص موقف كل من المملكة المتحدةوالبرتغال يعتبر من بين مظاهر التأييد الأوروبي المباشر لهذه المبادرة، خاصة وأن بريطانيا تعتبر رئيسة دول "الكمنولث"، مما لذلك من انعكاس مؤثر على تغيير مواقف دول منتمية لهذا التجمع، بما في ذلك جنوب أفريقيا الذي عرف موقف نظامها شرخا في موقفها السياسي بإعلان الرئيس الجنوب الإفريقي السابق ورئيس ثالث قوة سياسية بهذا البلد تأييده لمغربية الصحراء خلال زيارة للمملكة. في حين أن تأييد البرتغال للمبادرة المغربية يشكل دعامة لهذا الزخم الدبلوماسي الدولي المساند للموقف المغربي سيما في ظل مؤشرات أمريكية عازمة على الطي النهائي للملف. ولعل تجديد إدارة ترامب لموقفها من مغربية الصحراء والزيارة التي يقوم بها مستشار الرئيس الأمريكي الحالي للمنطقة المغاربية تعكس هذا التوجه مما قوى من الوضعية السياسية والتفاوضية للمغرب. وهذا ما جعل العاهل المغربي يعيد التأكيد على اليد الممدودة للجزاءر للتوصل إلى حل توافقي يحفظ ماء وجه النظام الجزاءري في إطار معادلة سياسية ليس فيها غالب ولا مغلوب0وبالتالي فعدم ذكر القيادة الجزاءرية والتوجه مباشرة إلى الشعب الجزاءري فيه إشارة إلى عدم شخصنة الوضع وتفادي اي احراج للقيادة الجزاءرية وفي نفس الوقت التركيز على الروابط الجغرافية والاجتماعية والثقافية العميقة التي تجمع بين البلدين والتي تشكل أرضية سياسية وتفاوضية لأي إمكانية في تجاوز ما نعته العاهل المغربي "بالوضع المؤسف" فطرح الملك لحل توافقي لا غالب فيه ولا مغلوب ينبع من قناعة استراتيجية بأن الجزائر تعتبر دولة جارة بحكم الجغرافيا والتاريخ المشترك، وأنها دولة إقليمية في منطقة شمال أفريقيا لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها، وبالتالي أي حل لنزاع الصحراء لن يكون إلاّ مع الجزائر التي تعتبر الطرف الرئيسي في هذا النزاع، وأن البوليساريو ليست إلاّ ورقة سياسية في يدها. ومن ثمة لا يمكن تحقيق أي سلام أو استقرار في المنطقة دون توافق بين الدولتين يقوم على الاعتراف الجزائري بمغربية الصحراء، وحل المشاكل العالقة بين البلدين تهم فتح الحدود والمساهمة الفعّالة في بناء الاتحاد المغاربي. من هنا، يبدو أن الخطاب الملكي يشكل دعوة صريحة من العاهل المغربي في مناسبة سياسية رئيسية في الحياة السياسية والتي تتعلق بعيد تربع الملك على العرش وذكرى سياسية لتكريس وحدة الأمّة يعطيها رمزية وشرعية خاصة في إطار تواصل الانتصارات الدبلوماسية التي حققها المغرب وعزلة الدبلوماسية الجزائرية، والرغبة الأمريكية في الطي النهائي لهذا الملف في ضوء الاستراتيجية الأمريكية في ضمان مصالحها بهذه المنطقة في مواجهة التنافس الصيني والروسي في المنطقة، خاصة بعد الانسحاب العسكري الفرنسي من مناطق نفوذها. وفي هذا الإطار، فهذه الدعوة الملكية لا تدخل ضمن التكتيك السياسي أو التنازل السياسي، بل هي نابعة عن موقف قوة يرمي إلى ضرورة التفاوض بشكل ثنائي بعيدا عن أي ضغط خارجي. فتأكيد الملك حرصه على إيجاد "حل توافقي لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف". هو إقرار قد يكون منافيا للتحولات والمؤشرات على الأرض؛ إذ شكلت هذه الفقرة من هذا الخطاب "دعوة ضمنية" للحوار مع كل من الجزائر وقيادة البوليساريو، حيث يحاول الملك أن يعطي الفرصة الأخيرة لخصوم وحدته الترابية، وبمثابة "خطاب الفرصة الأخيرة"، بمعنى أن مضمون هذا الخطاب قد يكون مغايرا لخطاب الذكرى "الخمسين" للمسيرة الخضراء لهذه السنة المرتقب يوم 6 نونبر 2025. إذ من المحتمل أن تكون الشهور الثلاثة القادمة فاصلة ومفصلية قد يتغير كل شيء قبلها أو بعدها بحسب التحولات الجيو-سياسية والتوازنات الدولية. وبالتالي يحاول الملك اليوم أن يؤجل لغة الانتشاء والانتصار، وبحكمة ودعوة صادقة يرسل من خلالها رسائل الود والأخوة، بل يرمي بطوق النجاة للطرف الآخر الذي بات في حكم المنهزم بلغة الواقع السياسي والدبلوماسي والذي لم يعد في رصيده سوى الشعارات واجترار المفردات والسرديات نفسها. فقد أصر الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة على التعبير عن رغبته في بناء علاقات طبيعية مع الجزائر، ليس من باب ضعف عسكري، ولا من قبيل التنازلات السياسية، بل لأن منطق التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة يفرض ذلك على أي نظام سياسي عقلاني. فهذه اليد الملكية الممدودة لم تشكل يوما علامة تراجع، بل هي عنوان على نضج استراتيجي، يدرك أن الحروب الإقليمية، وإن بدت مغرية للأنظمة التي تعيش أزمات داخلية، فإنها لا تصنع لا تنمية ولا أمنا. من هنا فمن اللافت في خطاب 2025، أن اليد الممدودة لم تعد تُخاطب "النظام الجزائري" أو "رئيسه"، كما كان الحال سابقا، بل أصبحت تتوجه مباشرة إلى "الشعب الجزائري الشقيق"، وهذا تحول دلالي. وبهذا الصدد صرح العاهل المغربي بما يلي: "بموازاة مع حرصنا على ترسيخ مكانة المغرب كبلد صاعد، نؤكد التزامنا بالانفتاح على محيطنا الجهوي وخاصة جوارنا المباشر في علاقتنا بالشعب الجزائري الشقيق. وبصفتي ملك المغرب فإن موقفي واضح وثابت؛ وهو أن الشعب الجزائري شعب شقيق، تجمعه بالشعب المغربي علاقات إنسانية وتاريخية عريقة، وتربطهما أواصر اللغة والدين والجغرافيا والمصير المشترك. لذلك حرصت دوما على مد اليد لأشقائنا في الجزائر، وعبرت عن استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول؛ حوار أخوي وصادق حول مختلف القضايا العالقة بين البلدين . وإن التزامنا الراسخ باليد الممدودة لأشقائنا في الجزائر نابع من إيماننا بوحدة شعوبنا، وقدرتنا سويًا على تجاوز هذا الوضع المؤسف . كما نؤكد تمسكنا بالاتحاد المغاربي واثقين بأنه لن يكون بدون انخراط المغرب والجزائر مع باقي الدول". اليد الممدودة بين الروابط الثنائية الجيو ستراتيجية . إن الإشارة الملكية إلى الروابط التاريخية والدينية واللغوية التي تجمع الشعبين المغربي والجزائري هي بمثابة رسالة تأكيدية على أن الشعب الجزائري غير معني بهذا الصراع بالنسبة للمغرب، وهي عقيدة يدركها المغاربة حكومة وشعبا. بالتالي، فهذه الإشارات المشفرة تعيد التأكيد على متانة وعمق روابط الأخوة بين الشعبين رغم الحملة الدعائية الشرسة التي يحاول من خلالها حكام الجيش الجزائري "شيطنة النظام الملكي المغربي"، وتسميم العلاقة وخلق حالة من التوتر والتعصب والفرقة بين الشعبين. إذ هي إشارة واضحة إلى التمييز بين "سياسات نظام يعيش على أنقاض الماضي السحيق" و"ميول شعب يتقاسم مع جاره التاريخ والحاضر والمستقبل". في حين أن إشارة الملك إلى التمسك بالاتحاد المغاربي، والتأكيد على أنه لن يكون بدون انخراط المغرب والجزائر مع باقي الدول الشقيقة، تؤشر على رغبة المملكة في إحياء هذا "الكيان المشلول" بفعل مجموعة من الفواعل والخيانات والاصطفافات الهجينة والطارئة، كما تؤكد هذه الدعوة فشل كل المحاولات الجزائرية التي كانت ترمي إلى تشكيل اتحاد مغاربي ثلاثي بدون المغرب، وفي الوقت نفسه هي إشارة إلى تجاوز الإشكالات العابرة والمؤقتة والثانوية مع باقي الدول المغاربية مثل تونس. أما من الزاوية الجيوسياسية الأوسع، فلا يمكن فصل هذا الخطاب الملكي عن السياق الإقليمي والدولي الذي جاء فيه، خصوصا تزامنه مع زيارة مستشار الرئيس الأمريكي، مسعد بولس، للمنطقة. فرغم أن إدارة ترامب الثانية جددت بوضوح دعمها لموقف المغرب في ملف الصحراء، إلا أن واشنطن، كقوة عظمى، لن تُغامر بالتفريط في مصالحها الاقتصادية والأمنية مع الجزائر، خاصة في ظل التحولات الكبرى في خارطة الطاقة والمعادن والرهانات الاستراتيجية في الساحل. من هذا المنظور، يبدو الخطاب الملكي كأنه موجّه بذكاء مزدوج: إلى الداخل المغاربي من خلال عرض اليد الممدودة، وإلى الخارج الأميركي من خلال التموقع في المكان السياسي السليم، باعتبار المغرب شريكا موثوقا يسعى إلى الاستقرار، ويبادر إلى الحلول بدل الانغلاق والتصعيد.إذ لا يكتفي المغرب بتثبيت شرعيته الترابية، بل يسعى إلى تعزيز موقعه كقوة ناعمة عاقلة وسط توازنات صلبة، تعرف أمريكا تماما أنها لا تُدار بالشعارات، بل بموازين القوة والمصالح. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة