د. محمد كرواوي الأربعاء 1 أكتوبر 2025 - 15:30 مظاهرات جيل Z في المغرب.. من الاحتجاج الرقمي إلى إعادة رسم العقد الاجتماعي منذ أواخر سبتمبر 2025، أخذت الساحة المغربية في الغليان على إيقاع احتجاجات قادها شباب من جيل Z، هؤلاء الذين يشكلون اليوم الكتلة الديمغرافية الأكثر حيوية في البلاد، والمعبرة عن إحباطات متراكمة وآمال معلقة. فالمظاهرات التي اندلعت بشكل متزامن في الرباط، الدارالبيضاء، مراكش، أكادير، وطنجة، وغيرها من المدن، لم تكن حدثا عرضيا ولا مجرد انفجار غضب عابر، بل مثلت، بما حملته من شعارات ومطالب، لحظة فارقة تكشف عن عمق الشرخ الاجتماعي وتضع الدولة أمام أسئلة صعبة عن نموذجها التنموي والسياسي. إنها ليست احتجاجات مطلبية تقليدية كالتي خبرها المغرب في سنوات سابقة، بل أقرب إلى تمرين جيلي جماعي على إعادة تعريف أولويات المجتمع، من خلال لغة رمزية صادمة أحيانا، وسردية بديلة يكتبها جيل لم يعد يؤمن بالوساطات القديمة ولا بالآليات البيروقراطية البطيئة. لقد جاءت هذه الموجة في توقيت بالغ الدلالة: المغرب يستعد لاستضافة أحداث رياضية كبرى، من كأس إفريقيا للأمم إلى مونديال 2030، وما يستتبعه ذلك من تعبئة هائلة للموارد في البنى التحتية والملاعب والفنادق، فيما يواجه المواطنون يوميا مشكلات أساسية في الصحة والتعليم والشغل. لم يكن غريبا إذن أن يرفع المحتجون شعار "الصحة والتعليم أولا قبل الملاعب"، وأن يربطوا بين وفيات مأساوية لأمهات في مستشفى بأكادير وبين سوء ترتيب الأولويات الوطنية. بهذا المعنى، لم يعد الحديث مقتصرا على مطالب جزئية أو حوادث معزولة، بل على رؤية شاملة لإعادة توزيع الثروة الرمزية والمادية في المجتمع. ما يميز هذا الحراك، أيضا، أنه خرج عن الإطار النقابي أو الحزبي التقليدي، ليحمل توقيع شبكات شبابية رقمية عابرة للتنظيمات، مثل مجموعة "GenZ 212"، التي تتخذ من المنصات الرقمية فضاء للتعبئة، وتستعمل لغة مختصرة، شعارات بصرية، ومقاطع فيديو قصيرة قادرة على الانتشار السريع. لم يعد الاحتجاج في الشارع منفصلا عن حضوره في الفضاء الافتراضي، بل صار الامتداد الرقمي هو الشرط الضروري لتكثيف الوجود الميداني، ولضمان أن يتردد صدى الشعار في كل بيت وعلى كل شاشة. بهذا، نكون أمام نمط جديد من التظاهر، أقرب إلى ما وصفه بعض الباحثين بالاحتجاج الموزع، حيث لا قيادة مركزية، ولا برنامج سياسي متماسك، لكن قوة الفعل تكمن في القدرة على إشعال جبهات متفرقة وخلق رمزية جامعة من خلال الصور والمقاطع المتداولة. إنّ قراءة أولى لهذا المشهد تكشف أن جيل Z لم يعد ينتظر الوصاية السياسية، بل يمارس حقه في التعبير من موقعه الخاص: جيل متشبع بالرقمنة، ساخر في لغته، راديكالي في نقده، لكنه، في الآن ذاته، سلمي في أدواته ومتمسك بشرعية مطالب اجتماعية لا يمكن إنكارها. هذه الخصائص تضع الدولة أمام معضلة مزدوجة: فمن جهة، ضرورة التعامل مع الاحتجاجات بما يضمن الاستقرار ويمنع الانزلاقات، ومن جهة ثانية، الحاجة إلى استيعاب مطالب جيل قد يظل في الشارع لسنوات مقبلة إذا لم يجد قنوات سياسية ومؤسساتية تترجم غضبه إلى سياسات ملموسة. بهذا الشكل، تطرح المظاهرات كمرآة تعكس مأزق التنمية المغربية: بلد يسير بسرعة نحو مشاريع كبرى تحمل أبعادا دولية، لكنه في الآن نفسه يواجه أعطابا بنيوية في الخدمات العمومية. هنا تتجسد المفارقة الكبرى: أي معنى لبلد يستضيف كأس العالم إذا كانت مستشفياته عاجزة عن إنقاذ حياة أمهات في لحظة الوضع؟ وأي معنى لجامعات جديدة إذا كان الطالب يفتقد أبسط شروط الجودة والتأطير؟ إنها أسئلة وجودية يطرحها شباب جيل Z على الدولة والمجتمع، أسئلة لن يزول وقعها بسهولة مهما كانت الاستجابات الأمنية أو الخطابات السياسية. أولا، في المطالب الاجتماعية والسياسية: من قلب الساحات والطرقات، ارتفعت أصوات شباب جيل Z في المغرب حاملة معها أجندة مطالب واضحة، وإن كانت متفرقة في تفاصيلها، فإنها تجتمع عند جوهر واحد: إعادة ترتيب الأولويات الوطنية لصالح المواطن العادي، لا لصالح المشاريع الاستعراضية. فالشعار الأبرز الذي ردده المحتجون في مختلف المدن، "الصحة والتعليم أولا قبل الملاعب"، لخص بدقة المطلب المركزي: تحويل الموارد من البنى التحتية الرياضية والفنادق والمشاريع ذات البعد الدولي إلى مستشفيات مجهزة ومدارس مؤهلة وفرص عمل مستدامة. بهذا الشعار، تمكن الشباب من اختزال معضلة سياسية اقتصادية في جملة قصيرة، جعلت حتى المتابع غير الملم بخلفيات الاحتجاجات يستوعب الرسالة الجوهرية. على المستوى الاجتماعي، ركزت المطالب على إنقاذ المنظومة الصحية من الانهيار الذي تجلى في حوادث مأساوية، أبرزها وفاة نساء أثناء الولادة في مستشفى أكادير، والتي تحولت إلى رمز للعجز البنيوي. طالب الشباب بزيادة ميزانية الصحة بشكل ملموس، وبضمان عدالة مجالية في توزيع المستشفيات والأطر الطبية، بحيث لا تظل القرى والهوامش مجرد فضاءات منسية. أما في مجال التعليم، فقد دعا المحتجون إلى تحسين البنية المدرسية والجامعية، رفع مستوى التأطير البيداغوجي، ومحاربة الاكتظاظ والهدر، معتبرين أن التعليم هو البوابة الحقيقية للعدالة الاجتماعية والاقتصادية. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد طرحت مسألة التشغيل كأولوية قصوى، إذ يعيش جزء كبير من شباب المغرب في مواجهة بطالة بنيوية، وانسداد في آفاق التوظيف، سواء في القطاع العام أو الخاص. لم يعد الحديث مقتصرا على إدماج بسيط في سوق العمل، بل على إبداع سياسة وطنية شاملة للتشغيل تستجيب للتحولات الرقمية والبيئية. إن جيل Z، بخبرته في التكنولوجيا والإبداع، يرى نفسه مستبعدا من القرار الاقتصادي، رغم أنه يمتلك ما يكفي من الطاقة ليكون رافعة للتنمية بدل أن يكون عبئا على سوق العمل. سياسيا، لم تخل الشعارات من رسائل موجهة إلى الأغلبية الحكومية، إذ طالب المحتجون بمكافحة الفساد وتحصين العدالة الاجتماعية من التلاعبات والزبونية. بعض الشعارات ذهبت أبعد، لتضع مسألة الحكامة في صلب المطالب، معتبرة أن المشكلة ليست فقط في نقص الموارد، بل في كيفية تدبيرها وتوزيعها. وهذا البعد السياسي يوضح أن الحراك لم يبق محصورا في المطالب الاجتماعية، بل تحول إلى استجواب شامل لآليات اتخاذ القرار، في ظل شعور عميق باللاعدالة وانعدام الثقة. إن ما يجمع هذه المطالب ليس فقط بعدها الاجتماعي السياسي، بل أيضا طابعها الجيلي: شباب يرفض أن يختزل في أرقام البطالة أو الهجرة أو الاستهلاك، ويريد أن يكون شريكا في صناعة المستقبل. ومن هنا، فإن هذه الحركة ليست مجرد موجة احتجاجية مؤقتة، بل تعبير عن وعي جديد يرفض التسويات القديمة ويبحث عن عقد اجتماعي جديد. ثانيا، التنظيم الرقمي لجيل Z: إذا كان الشارع هو مسرح الاحتجاجات، فإن الفضاء الرقمي هو العقل المنظم لها. جيل Z في المغرب لم يعتمد على النقابات ولا على الأحزاب ولا على التنسيقيات التقليدية في حشد قواه، بل صاغ لنفسه أدوات تعبئة جديدة تستمد قوتها من الشبكات الاجتماعية. لقد تحولت منصات مثل TikTok وInstagram وDiscord إلى غرف عمليات حقيقية، حيث تطلق الدعوات بشكل عابر للمناطق، وتصاغ الشعارات في قوالب بصرية جذابة، وتحدد التوقيتات والوسوم التي سرعان ما تنتشر كالنار في الهشيم. يتميّز هذا التنظيم الرقمي بسمتين أساسيتين: أولا، اللامركزية؛ إذ لا توجد قيادة هرمية تتحكم في القرار، بل شبكة واسعة من الحسابات الفردية والمجموعات الصغيرة التي تتفاعل لحظيا وتنسق فيما بينها. وثانيًا، السرعة؛ إذ يكفي أن يطلق شاب مقطع فيديو أو صورة لتتحول إلى يافطة إيحائية توحد آلاف المحتجين في مدن مختلفة. إن هذه الدينامية تعكس ثقافة رقمية خاصة بهذا الجيل، الذي يرى في التكنولوجيا امتدادا طبيعيا لوجوده اليومي، ويحولها إلى أداة سياسية بامتياز. ولأن التنظيم الرقمي يتجاوز القيود الميدانية، فقد أتاح للحركة أن تتخذ طابعا موزعا يصعب ضبطه أو احتواؤه. فبينما تستطيع السلطات أن تمنع تجمعا أو تفرق مظاهرة في مدينة معينة، يظل من الصعب إيقاف سلسلة الدعوات الافتراضية التي تنتقل من شاشة إلى أخرى وتجد صدى في مدينة جديدة. هنا يتجلى ما يشبه تكتيك الموجات المتقطعة، حيث يتنقل الاحتجاج من مكان إلى آخر في زمن قصير، محققا عنصر المفاجأة الذي يشكل سلاحا رئيسيا ضد الروتين الأمني والإداري. الأكثر لفتا للنظر أن هذا التنظيم الرقمي لم يقتصر على التعبئة، بل شمل أيضا تأطيرا سلوكيا وأخلاقيا. فقد نشرت بعض المجموعات كتيبات رقمية تعلم المحتجين كيف يحافظون على السلمية، كيف يتعاملون مع التدخل الأمني، وكيف يوثقون الأحداث بشكل يضمن المصداقية ويقطع الطريق أمام الأخبار الزائفة. بذلك، لم يعد الفضاء الافتراضي مجرد وسيلة اتصال، بل أصبح فضاء تربويا وسياسيا يدرب الشباب على ممارسة المواطنة الاحتجاجية، ويُظهر قدرة هذا الجيل على خلق بدائل للوساطة الحزبية والنقابية التقليدية. ثالثا، الجغرافيا وحجم الاحتجاجات: اتسمت مظاهرات جيل Z في المغرب بانتشارها الجغرافي اللافت، إذ لم تقتصر على العواصم السياسية أو الاقتصادية الكبرى، بل عمت مدنا متعددة من الشمال إلى الجنوب، لتكشف عن طابع وطني عابر للجهات. فقد شهدت الرباطوالدارالبيضاءومراكشوأكادير وطنجة أكبر التجمعات، بينما التحقت مدن أخرى مثل فاس ومكناس وتطوان بالحراك، وإن بدرجات متفاوتة من الكثافة. هذا الانتشار المكاني منح الحركة شرعية مضاعفة، إذ برهن على أن الغضب الشبابي ليس نتاج تهميش محلي محدود، بل هو انعكاس لأزمة وطنية تطال مختلف الفضاءات المجالية. من حيث الحجم، تراوحت أعداد المشاركين بين مئات وآلاف بحسب المدينة، واللافت أن الكثافة لم تكن ثابتة، بل اتبعت منطق المد والجزر، حيث يرتفع عدد المحتجين في ساعة الذروة ثم ينخفض سريعا بفعل تدخل السلطات أو انسحاب المنظمين حرصا على السلمية. هذه المرونة جعلت الاحتجاجات أكثر قدرة على التكيّف مع الضغوط الأمنية، وأعطتها مظهرا ديناميكيا يعكس طبيعة الجيل الرقمي الذي لا يلتزم بالطقوس التقليدية للتظاهر الطويل. كما أن طبيعة الفضاءات المختارة أضفت على الحركة دلالة سياسية قوية: فالتجمعات أمام البرلمان في الرباط أو بمحاذاة الطرق الرئيسية في الدارالبيضاء لم تكن عفوية، بل تعكس رغبة في جعل الشارع منصة مباشرة لمساءلة السلطة. وفي المدن الداخلية، اكتسبت الاحتجاجات معنى إضافيا، إذ عبرت عن رفض التفاوت المجالي وعن إدماج الهوامش في معادلة الاحتجاج الوطني، الأمر الذي زاد من رمزية الحراك بوصفه صوتا موحدا لجيل كامل لا يعترف بحدود جغرافية ولا بتراتبية مجالية. إن الطابع الجغرافي الواسع للمظاهرات يبين أن الحركة تجاوزت عتبة الاحتجاج المحلي المعزول لتدخل مرحلة جديدة من التعبئة الوطنية، حيث باتت المدن المغربية الكبرى والصغرى معا مسرحا واحدا لتجربة احتجاجية موحدة. وهو ما يشير إلى أن الأزمة المطروحة لم تعد تخص فئة شبابية محدودة أو جهة بعينها، بل صارت قضية وطنية تتطلب إجابات شاملة تتجاوز الحلول الترقيعية والجزئية. رابعا، رد فعل الدولة الأمني والسياسي: أمام المد الشبابي الذي اجتاح الشوارع، وجدت الدولة نفسها مضطرة إلى التوفيق بين خيارين متناقضين: الحفاظ على الاستقرار من خلال الضبط الأمني، والإنصات إلى المطالب المشروعة التي رفعتها جموع المحتجين. فجاء ردها مزدوجا، أمنيا وسياسيا، يعكس في عمقه الحرج الكبير الذي وضعها فيه حراك جيل Z. على المستوى الأمني، لجأت السلطات إلى تفريق المظاهرات في عدد من المدن، ولا سيما الرباطوالدارالبيضاء، حيث استخدمت التدخلات المباشرة لتفكيك التجمعات، وأفضت إلى توقيفات بالعشرات وصلت في بعض الحالات إلى المئات. كما سجلت حوادث منع مسبق لبعض الوقفات، وإغلاق لمنافذ التجمع في الساحات العامة. هذه المقاربة أظهرت إصرار الدولة على إبقاء زمام المبادرة بيدها، وضبط إيقاع الشارع بما يحول دون تحول الاحتجاجات إلى موجة عصيان مدني يصعب التحكم فيها. إلى جانب ذلك، سعت الأجهزة الأمنية إلى احتواء التصعيد عبر الإفراج عن عدد من الموقوفين لاحقا، في رسالة مزدوجة: من جهة تأكيد الجدية في الردع، ومن جهة أخرى تجنب تراكم احتقان إضافي داخل المجتمع. لكن هذه المعادلة ظلت هشة، إذ إن صور التدخل الأمني وتفريق المسيرات انتشرت بسرعة عبر المنصات الرقمية، لتغذي رواية المحتجين وتزيد من جاذبية خطابهم لدى فئات أوسع. أما على المستوى السياسي، فقد اختارت بعض قوى المعارضة أن تدعو إلى فتح حوار مباشر مع الشباب، معتبرة أن المطالب المطروحة في الصحة والتعليم والشغل مطالب عادلة تستحق النقاش المؤسسي. في المقابل، حاولت الحكومة أن تدافع عن برامجها الإصلاحية القائمة، مبرزة الجهود المبذولة في تحسين الخدمات، ومشيرة إلى أن الاستثمار في البنى التحتية الرياضية والسياحية يندرج ضمن استراتيجية بعيدة المدى تعود بالنفع على الاقتصاد الوطني. غير أن هذا الخطاب ظل ضعيف التأثير، إذ اصطدم بشعور شعبي عميق بأن الأولويات مختلة، وأن ما يصرف على الملاعب والفنادق يكفي لبناء منظومة صحية وتعليمية تليق بالمواطن المغربي. هكذا، كشف رد الدولة عن معضلة مركبة: كيف يمكن الجمع بين تأمين الاستقرار ومواجهة تحديات اجتماعية متفاقمة، من دون أن يتحول التعامل الأمني إلى سبب إضافي في تأجيج الاحتجاجات؟ وكيف يمكن للخطاب السياسي الرسمي أن يقنع جيلا رقميا اعتاد تفكيك الروايات وتعرية الخطابات عبر مقاطع قصيرة ساخرة؟ إنها أسئلة ستظل مطروحة ما لم تتم صياغة استراتيجية شاملة تعيد الثقة بين الدولة وجيلها الجديد. خامسا، الأبعاد الإعلامية للاحتجاجات: لم تقتصر مظاهرات جيل Z في المغرب على كونها حدثا ميدانيا تقليديا، بل امتدت لتصبح حدثا إعلاميا بامتياز، تدار رمزيا في الفضاءين الواقعي والافتراضي معا. فقد أدرك الشباب المحتج أن المعركة الحقيقية لا تخاض فقط في الشارع، بل أيضا في الصورة والخطاب، فكانت الهواتف المحمولة بمثابة أدوات إشارية توازي الهتافات واللافتات. في الفضاء الإعلامي التقليدي، تعاملت بعض المنابر الرسمية بتحفظ، فحاولت تقليل حجم الاحتجاجات أو حصرها في وصف مظاهرات محدودة، بينما اندفعت منابر دولية كبرى إلى تغطية الخبر بوصفه الأكبر منذ سنوات، مركزة على طابع الجيل الجديد ومطالبه الاجتماعية. هذا التباين في السرد الإعلامي عمق الإحساس لدى الشباب بوجود فجوة بين ما يعيشونه في الميدان وما يعرض في الإعلام المحلي، وهو ما دفعهم أكثر إلى الاعتماد على أدواتهم الرقمية لتوثيق الحدث. أما في الفضاء الرقمي، فقد شكلت منصات مثل TikTok وInstagram مسرحا حقيقيا لبناء رمزية الحراك. فالمقاطع القصيرة التي تظهر هتافات أو لحظات تدخل أمني تحولت بسرعة إلى مواد منتشرة بالآلاف، تترجم إلى وسوم توحد الشعارات على المستوى الوطني. ولأن جيل Z يتقن فن السخرية والاختزال، فقد أضفى على احتجاجاته طابعا إبداعيا، مستخدما الصور الساخرة (memes) والأغاني الشعبية المعاد تدويرها كشعارات احتجاجية. هكذا، تجاوزت الرسالة حدود السياسة المباشرة لتصبح خطابا ثقافيا شبابيا يعيد تعريف لغة المعارضة. الرمزية تجلت أيضا في اختيار الأمثلة التي تقدم كأدلة على فشل السياسات العامة: فحادثة وفيات أمهات في مستشفى أكادير لم تعد مجرد مأساة محلية، بل تحولت إلى رمز وطني يختزل أزمة الصحة العمومية. وفي مقابل هذا الرمز المأساوي، استخدم رمز آخر يثير الغضب: صور الملاعب الجديدة والمشاريع العملاقة المرتبطة بالبطولات الرياضية المقبلة. بهذا التناقض الرمزي، استطاع جيل Z أن يضع الدولة أمام مرآة تظهر المفارقة الصارخة بين البذخ في بعض القطاعات والعجز في القطاعات الحيوية. كما لا يمكن إغفال المعركة مع الأخبار الزائفة. فقد انتشرت مقاطع قديمة على أنها من احتجاجات 2025، ما استدعى تدخل منصات تدقيق عربية ودولية للتصحيح. هذا التضارب بين الرواية الأصلية والمفبركة كشف وعيا متزايدا لدى الشباب بأهمية المصداقية، وجعل من تدقيق الأخبار جزءا من المعركة الرمزية نفسها. وهكذا، برز جيل Z ليس فقط كفاعل احتجاجي، بل كمنتج لخطاب إعلامي بديل، يعيد كتابة القصة من زاويته الخاصة، ويمنحها بعدا سياسيا يفوق بكثير مجرد مظاهرة عابرة. سادسا، التحيزات الإعلامية المغرضة: بين تضخيم العنف وتسييس المطالب الاجتماعية يقتضي نقد التحيزات الإعلامية أن نبرز أثرها المباشر على مسار الحراك نفسه. فحين تفرغ التغطيات الغربية المشهد من تعقيده الاجتماعي وتختزله في صور العنف أو في ثنائية ملاعب مقابل مستشفيات، فإنها تعطي مادة جاهزة للتأويل الأمني وتفتح الباب أمام نزعة تصعيدية قد تبعد الشباب عن أجندتهم الأصلية. هذا التضخيم قد يغري بعض الفاعلين بالمبالغة في ردود الفعل، أو يدفع بعض العناصر الهامشية إلى اعتبار العنف وسيلة لإثبات الوجود، وهو ما يناقض الطابع السلمي الذي حرص المنظمون على ترسيخه منذ البداية. إن التحذير هنا ليس موجها ضد حق التظاهر، بل ضد الانزلاق إلى صيغ تعبير تحول المطالب الاجتماعية إلى مواجهات مفتوحة مع الدولة، وهو انحراف يضر بالمحتجين قبل غيرهم. ثم إن الحذر واجب من استغلال هذا الحراك من قبل جهات مشبوهة داخلية أو خارجية قد ترى فيه فرصة لتصفية حسابات سياسية أو لتغذية أجندات إيديولوجية لا تمت بصلة إلى مطالب جيل Z الحقيقية. فالتجارب المماثلة في المنطقة علمتنا أن كل فراغ في القيادة أو في وضوح الأهداف يفسح المجال لخطابات عدائية، سواء كانت دعوات للفوضى أو شعارات انفصالية أو محاولات لاختراق الصفوف عبر المال والإعلام. لذا فإن من مسؤولية النخب والشباب على السواء أن يحصّنوا حراكهم من هذه الاختراقات، وألا يسمحوا بتحويله إلى أداة في صراع جيوسياسي إقليمي أو لعبة حسابات حزبية ضيقة. إلى جانب ذلك، لا بد من التذكير بأن الحرية لا تمارس في الفراغ، بل في ظل القانون. فالحق في التظاهر السلمي مكفول، لكنه مشروط باحترام الضوابط التنظيمية التي تضمن حماية الأرواح والممتلكات العامة والخاصة. إن أي انزلاق إلى التخريب أو تعطيل المرافق الحيوية سيحول الرأي العام من التعاطف إلى الاستنكار، ويفقد الحركة مشروعيتها الأخلاقية والسياسية. فالقانون ليس خصما للحرية، وإنما هو الحارس الذي يمكنها من البقاء والاستمرار. وكلما كان الالتزام بالقانون أوضح، كان الحراك أقوى وأبعد عن التوظيف المشبوه. وعلى ذلك، ينبغي الإصرار على أن المطلب الاجتماعي هو جوهر هذه الدينامية، وأن قوة الشباب تكمن في وحدتهم حول قضايا المعيشة والكرامة. فإذا انحرفت المطالب إلى صراع مع المؤسسات أو إلى تحد مباشر لثوابت الدولة، فإن النتيجة ستكون عكسية: ضياع المكاسب التي تحققت من رفع الصوت، وإعطاء مبرر للتضييق بدل الإصغاء. لهذا يظل الوعي النقدي والتحصين القانوني هما الضمانة لئلا يتحول الحراك من فرصة إصلاح إلى خطر انفلات. إن البنى التحتية الرياضية التي أقيمت في السنوات الأخيرة تمثل واجهة كبرى لسمعة المغرب في المحافل الدولية، فهي تعكس صورة بلد قادر على استضافة تظاهرات كونية بحجم كأس العالم 2030، وعلى الاندماج في الشبكات الرياضية العالمية بما يفتح آفاقا واسعة للاستثمار الاقتصادي والترويج الثقافي. هذه الإنجازات ليست مجرد ملاعب أو مرافق ترفيهية، بل هي جزء من سياسة القوة الناعمة التي تسعى إلى تثبيت مكانة المغرب كفاعل إقليمي ودولي يحسب له حساب في الساحة الرياضية والدولية. غير أن هذا الوجه المضيء لا ينبغي أن يحجب عن الأذهان حقيقة أن البنية الرياضية وحدها لا تكفي لبناء مجتمع متماسك، وأن سمعة الدول في الخارج يجب أن توازيها شرعية الإنجاز في الداخل، عبر تلبية الحاجات الحيوية للمواطنين في الصحة والتعليم والتشغيل والعدالة الاجتماعية. ومن ثمة، يصبح من الضروري التأكيد على أن استثمار الدولة في مشاريع كبرى لا يعفيها من مسؤولياتها الجوهرية تجاه القطاعات الأساسية التي تشكل العمود الفقري لأي عقد اجتماعي سليم. فالتوازن مطلوب بين بناء ملاعب تجذب الأنظار وتنظيم مهرجانات تبهر الإعلام العالمي، وبين ضمان مستشفيات لائقة ومدارس حديثة تمكن المواطن البسيط من الولوج إلى الخدمات التي تحفظ كرامته وتفتح أمامه آفاق المستقبل. إن فشل هذا التوازن قد يفسر من طرف الشباب كإهمال لهمومهم المباشرة، مما يغذي الاحتقان الاجتماعي ويعطي المشروعية للاحتجاج. لذلك فإن التحدي الحقيقي يكمن في القدرة على الجمع بين الاستثمار في صورة المغرب الدولية وبين الوفاء بالوعود الاجتماعية التي تمنح هذه الصورة مصداقيتها، فلا يبقى الإنجاز الرياضي غطاء هشا فوق هشاشة داخلية، بل يتحول إلى رافعة حقيقية لمشروع وطني شامل يزاوج بين الاعتبار الخارجي والعدل الداخلي. سابعا، المقارنة مع الحركات الشبابية الأخرى: لا يمكن فهم مظاهرات جيل Z في المغرب بمعزل عن موجات احتجاج شبابية عرفتها مناطق أخرى في العالم خلال العقدين الأخيرين. فالتشابه في الأدوات والرموز والخيارات التنظيمية يكشف عن ملامح ثقافة احتجاج عالمية تتقاطع فيها التجارب، حتى وإن اختلفت السياقات المحلية. في أفريقيا، على سبيل المثال، شهدت كينيا في 2023–2024 موجة احتجاجات رقمية الطابع، نظمها الشباب ضد السياسات الضريبية، عرفت بمصطلح GenZ protests، واتسمت بنفس الأسلوب: اللامركزية، الاستعانة المكثفة بالوسوم، استخدام الموسيقى والرموز البصرية لإعادة تدوير الخطاب السياسي في قوالب شبابية. وقد أظهرت تلك التجربة أن قوة الشباب لا تأتي من انضباط تنظيمي صارم، بل من مرونتهم في التحرك، وقدرتهم على جعل الاحتجاج حدثا ثقافيا بقدر ما هو سياسي. وهذا ما نراه اليوم في المغرب بصورة تكاد تكون نسخة محلية من تكتيك الموجات الرقمية المتقطعة الذي يصعب ضبطه أمنيا. أما في العالم العربي، فيمكن استحضار تجربة الحراك الجزائري (2019) أو انتفاضة تشرين في العراق (2019)، حيث لعبت الفئة العمرية الشابة دورًا محوريا في صياغة خطاب احتجاجي مختلف. غير أن جيل Z المغربي يضيف بعدا جديدا: فهو أكثر رقمية من الأجيال السابقة، وأكثر سخرية في شعاراته، وأقل ثقة في الوساطات التقليدية. فإذا كان الحراك العراقي ما يزال يحتفظ بروابطه مع الأطر النقابية والسياسية، فإن حراك المغرب الحالي يقطع بشكل أوضح مع تلك القنوات، رافعًا شعار "التنظيم بلا قيادة، والقرار بلا وصاية". وإذا اتجهنا إلى أميركا اللاتينية، نجد أن احتجاجات الطلاب في تشيلي (2019) حول مجانية التعليم تشترك مع الحالة المغربية في مركزية التعليم كقضية وجودية. لكن جيل Z المغربي لم يحصر مطالبه في التعليم فقط، بل وسعها لتشمل الصحة والشغل، مما يعكس وعيا شاملا بأن أزمة التنمية مرتبطة ببنية النظام الاجتماعي والسياسي، لا بمجال واحد معزول. هذه المقارنات تبرز نقطتين أساسيتين: الأولى أن جيل Z المغربي ليس استثناء، بل جزء من موجة عالمية تستلهم بعضها البعض عبر الفضاء الرقمي، ما يمنحها زخما إضافيا. والثانية أن لكل حراك سياقه الخاص؛ فبينما تحرك شباب كينيا ضد ضريبة محددة، وتحرك شباب تشيلي من أجل إصلاح تعليمي، يضع شباب المغرب الدولة أمام سؤال أشمل: كيف يعاد ترتيب أولوياتها بين البهرجة الرياضية والحقوق الاجتماعية الأساسية؟ إنه سؤال يختصر خصوصية الحالة المغربية في قلب موجة شبابية كونية. ثامنا، الآفاق المستقبلية: تكشف مظاهرات جيل Z في المغرب عن تحول نوعي في علاقة الشباب بالدولة والمجتمع، تحول يجعل من هذه الفئة الديمغرافية قوة سياسية وازنة لا يمكن تجاهلها. فخروج الآلاف في مدن متعددة، حاملين شعارات مركزة وموحدة، لا يعبر فقط عن احتجاج عابر، بل عن ميلاد وعي جديد يرفض أن يكون مجرد هامش في معادلة التنمية، ويطالب بمكانه الطبيعي في صلب السياسات العمومية. إنها لحظة فارقة ترغم الجميع على إعادة التفكير في مفهوم العقد الاجتماعي ذاته. الآفاق المستقبلية لهذا الحراك مفتوحة على عدة سيناريوهات. فمن جهة، قد تنجح الدولة في امتصاص التوتر عبر إطلاق حوار مباشر وإجراءات ملموسة في مجالي الصحة والتعليم، مما قد يفتح الباب أمام إعادة بناء الثقة. ومن جهة أخرى، إذا اكتفت السلطة بالرد الأمني والوعود المؤجلة، فقد تستمر موجات المد والجزر، مع كل حادثة مأساوية أو مفارقة بين الإنفاق على الملاعب والعجز في المستشفيات. في هذه الحالة، سيتحول الحراك إلى ظاهرة مزمنة تعيد إنتاج نفسها عبر كل جيل طلابي جديد. على المستوى الرمزي، أثبت جيل Z أنه قادر على فرض أجندته عبر أدواته الخاصة: من الوسوم الرقمية إلى المقاطع الساخرة التي تفضح التناقضات، ومن القدرة على توحيد الشعارات إلى ابتكار لغة جديدة للاحتجاج. وإذا لم تجد هذه الطاقة منفذا مؤسساتيا، فإنها قد تنقلب إلى قطيعة أعمق مع الدولة، وربما إلى موجات هجرة أو عزوف سياسي يضعف أسس الشرعية. أما إذا فتح المجال أمام هذا الجيل ليكون فاعلا في صنع القرار، فقد يتحول إلى رافعة تاريخية تدفع المغرب نحو إصلاحات جذرية طال انتظارها. الدرس الأهم من هذه المظاهرات هو أن الشباب لم يعودوا مجرد جمهور يستدعى وقت الانتخابات أو المناسبات الوطنية، بل أصبحوا فاعلين مستقلين يملكون أدوات إنتاج خطابهم وتعبئتهم. لقد كسر جيل Z الوساطة التقليدية، وأعلن أن زمن القرارات من فوق ومن وراء الأبواب المغلقة قد ولى. إنه إعلان عن بداية مرحلة جديدة في الحياة السياسية المغربية، مرحلة لا يمكن فيها الاستمرار بالمنطق القديم من دون مواجهة عواقب انفصال عميق بين الدولة وأجيالها الجديدة. وتأسيسا على ذلك، يبقى السؤال المركزي مطروحا: هل تلتقط الحكومة المغربية هذه الإشارة التاريخية لتعيد ترتيب الأولويات الوطنية وفق ما يطالب به الشباب؟ أم تظل متمسكة بمسار يعمق المفارقة بين الملاعب اللامعة والمستشفيات المتهالكة؟ الجواب عن هذا السؤال لن يحدد فقط مصير احتجاجات جيل Z، بل ربما مستقبل الاستقرار والتنمية في المغرب كله خلال العقد المقبل. كاتب وأكاديمي مغربي الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة