لم يكن التصويت الجزائري لصالح القرار الأمريكي بشأن غزة مجرد خطوة عابرة، بل كان إعلانا صريحا عن سقوط سردية بائدة بنيت طيلة عقود على فكرة "المبادئ الثورية" و"دعم الشعوب" و"حق تقرير المصير"، فالقرار الذي صوّتت عليه الجزائر يقر عملياً بإقصاء حماس من حكم غزة، ويجهز على ما تبقى من حلم إقامة دولة فلسطينية في القطاع، في الوقت الذي تحولت فيه الضفة إلى جزر أستيطانية تمنع أي إمكانية لدولة مستقبلية. ومع ذلك، رفعت الجزائر يدها موافقة، في مشهد لم يحتج الكثير من التحليل أمام مندوب أمريكي يقرأ، ومندوب جزائري يوافق. وبين المشهدين انهارت أسطورة كاملة. التبريرات الرسمية التي خرجت بعد التصويت لم تكن سوى محاولة يائسة لإعادة تجميل صورة مشروخة أصلا. فكيف يمكن لنظام بنى عقيدته الدبلوماسية على دعم فلسطين أن يصوّت على قرار يقرر نيابة عن الفلسطينيين من يحكمهم؟ وكيف يمكن لدولة ترفع شعار "رفض الإملاءات الخارجية" أن ترى في مشروع أمريكي خالص "حلاً" يخدم الشعب الفلسطيني؟ المفارقة الأكثر إيلاماً أن الجزائر التي امتنعت قبل أسابيع فقط عن التصويت على قرار مجلس الأمن بشأن الصحراء المغربية بحجة عدم انسجامه مع "المبادئ"، هي نفسها التي لم تجد غضاضة في اتخاذ موقف متناقض حين تعلق الأمر بغزة. هنا بالضبط يظهر عمق المشكلة، فالمبادئ في الجزائر ليست منظومة ثابتة، بل أداة تُستعمل في الاتجاه الذي يخدم مصالح الطغمة العسكرية الحاكمة. ففي الملف المغربي تصبح "المبادئ" سلاحاً، وفي الملف الفلسطيني تصبح "تكتيكا" يمكن تبنيه عندما يلوّح الأمريكي بإشارة رضا. ما من شك أن البراغماتية السياسية ليست عيباً، لكن العيب أن تُستعمل القضايا الإنسانية كورق لعب، فقد كشف هذا التصويت أن الخطاب الجزائري لم يكن يوما انعكاسا حقيقيا لسياستها الخارجية، بل كان واجهة تصلح للاستهلاك الداخلي وإلهاء الشعب المغلوب على أمره، أما القرار الحقيقي فمكانه خارج الشعارات وبعيد تماما عن عواطف الجمهور وحتى خارج قصر المرادية، لانه ببساطة يتخذ داخل التكنات العسكرية. والأدهى من ذلك أن الجزائر بدت وكأنها صدقت أن الرأي العام الدولي لن ينتبه إلى التناقض الصارخ بين "الدعم المطلق لفلسطين" ورفع اليد مع مشروع يحدد هوية الحاكم في غزة بالقوة، بالرغم من انها حاولت بعد ذلك أن تشرح للعالم أن الأمر "في مصلحة الفلسطينيين"، لكنها بدت كمن يطلب من الجمهور ألا يثق فيما رآه بأم عينيه، لأن الكل رأى ما حدث، والكل فهم اللعبة. وفي السياسة يصعب جداً إعادة بناء الثقة بعد لحظة كاشفة كهذه. بالنسبة للفلسطينيين، كان التصويت الجزائري لحظة سقوط رمزي أكثر مما هو سياسي. فقد اكتشفوا أن من كانوا يرفعون شعارات من أجل فلسطين "ظالمة أو مظلومة" على المنابر قادرون على التصويت ضد خيارات الفلسطينيين حين تتطلب الضرورة إرضاء واشنطن. أما بالنسبة للجزائر، فقد دخلت مرحلة جديدة، حيث لم تعد دولة الشعارات ولا صاحبة "المواقف الشجاعة" كما تزعم، بل دولة تمارس السياسة كما تُمارس المقايضة. قد تحاول ترميم خطابها يوماً، لكن استعادة مصداقيتها أصعب بكثير. فالعالم رأى القناع يسقط، وسيتذكر جيداً من الذي أسقطه، وكيف، ولماذا.