من مظاهر مركزية النص في الجماعة الإسلامية اعتبار العلم بالعربية بابا للولوج إلى عالم الحقيقة القرآنية. ويتجلى ذلك في عدة مظاهر: 1 فهم النص رهين بمعرفة معهود العرب وأساليبهم في التواصل والكلام. قال الشاطبي: "الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز ". والفهم هنا غير مرتبط بالجنس بل بالإتقان الضروري. وروى الأنباري في إيضاح الوقف والابتداء أن عمر كتب إلى موسى الأشعري رضي الله عنهما "أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام "، وعن الحسن البصري أنه سئل : ما تقول في قوم يتعلمون العربية ؟ قال : "أحسنوا يتعلمون لغة نبيهم ". فالتلازم بين مادة النص ولغته تفضي إلى القول بأن كل محاولة لفهمه لابد أن تمر عبر المعطيات التي يتيحها الكلام العربي شعرا و نثرا. وهذا هو المفهوم العميق لمعالجة النص. إذ باعتباره خطابا عربيا أنزل على أساليب العرب لا بد أن يكون المدخل الأساسي لفهمه هو العربية وفنون التخاطب بين الأعراب. 2 تفسير النص معلق بعلم العربية. فلو تأملنا مختلف الكتابات المفسرة للقرآن سنلاحظ أن علوم اللسان تحتل دوما مكانة الصدارة، بل وضعت معرفتها في مقدمة الشروط الواجب توفرها في كل من يرغب تفسير كلام الله عز وجل. "فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب، وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهومها تفسير شيء من الكتاب العزيز، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها". وقال ابن قيّم الجوزيّة: "وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة وعلم العربية ، وعلم البيان ، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ، ورسائلها ". بل وصل الأمر إلى جعل النفاذ للنص من غير باب العربية ينتج فهما مخالفا لمقصود الشارع، ولهذا السبب يقول الإمام مالك رحمه الله: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً. 3 وبما أن الفقه هو التنزيل الإجرائي للنص المفارق، فقد اشترط في من يريد التفقه أن يعلم كل ما يعينه في فهم نصوص الوحي من علوم النحو والصرف والغريب والتراكيب العربية. وقد شرطه جمهور الأصوليين كالشافعي والغزالي والجويني والآمدي والقرافي والفتوحي والطوفي والشوكاني وغيرهم. بل نجد ابن حزم رحمه الله يصرح بوجوب تعلم النحو للمفتي، حتى لا يقع في الخطأ وإضلال الناس جراء الفهم السقيم للنصوص. وقال شيخ الإسلام: "لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه الأقوال وفقه الشريعة هو الطريق إلى فقه الأعمال". لذا لزم للمجتهد معرفة القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال، إلى حد يميز به بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه. ولم يشترط فيه التعمق وبلوغ درجة أئمة اللغة والنحو كالمبرد وسيبويه، لكن القدر الذي يتيح معرفة مواقع الخطاب، ودرك مقاصده. فقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) تقتضي من المجتهد أن يبذل جهده لتحديد معنى (القرء) في الآية، أهو الحيض أم الطهر؟ في هذا الملامح تبدو قيمة العلم بالعربية في فهم النص وتنزيله وقراءته. لذا من الصعب على دارس النص أو متعاط لفهمه وتأويله، كما هو حال بعض الحداثيين، أن يؤول قصد الشارع دون معرفة أساليب الخطاب ومعهود العرب في التواصل ودلالات الألفاظ والتراكيب. فكان الجهل باللغة من أسباب الزيغ والتأويل البعيد والضال عن مقصد الله سبحانه. قال ابن جني:" إن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفُه في هذه اللغة الكريمة الشريفة التي خوطب الكافة بها". ويستدل على التأويلات الخاطئة بقول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع حرائر مستدلاً بقوله تعالى:" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" فالمجموع تسع نسوة، قال الشاطبي: ولم يشعر بمعنى فُعال ومفعل وأن معنى الآية: فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثاً ثلاثاً أو أربعاً أربعاً. القصد والنية ما غُبِنَ الإنسان في هذه الدنيا من جهة انجازه لأعماله، كغبنه من جهة التوجه والقصد والنية، إذ قد يُقْدِمُ على العمل الكبير النافع ظاهراً فلا يجعل تحته نية صالحة خالصة، فيكون وَبَالاً عليه يوم لقاء الله، وبصيرتنا في ذلك قول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قال:( إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به أناء الليل وأناء النهار فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال إن فلانا قارىء فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما آتيتك قال كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك، وتؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله تعالى له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جرئ فقد قيل ذاك، ثم ضرب رسول الله على ركبتي أبي هريرة فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة).. نعم إخوتي،علينا أن نحذر فلا نُغبن بأن لا ننتقل من حال إلى حال ومن مكان إلى مكان بدون قصد ولا نية، فنكون كحمار الرحى؛ يسير ويسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه أصلاً، ولكن يجب نسير وننتقل ونرحل من حال وأحوال إلى رب الأحوال، ومن مكان وأمكنة إلى خالقها ومن الأكوان إلى المكون سبحانه، قال تعالى في بصيرته:}وأن إلى ربك المنتهى{، ولننظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم الجامع المانع وهو الأحاديث المؤسسة التي عليها مدار الإسلام: }إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله: فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها:فهجرته إلى ما هاجر إليه {، إخوتي أمر التوجه والقصد والنية مع الصفة التي تؤدى بها الأعمال وكيفيتها، هي التي تحدد قبول العمل عند الله، وذلك بترك الشرك بتوحيد الله والإخلاص له بالقصد، وترك الإبتداع ولزوم اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث كيفية العمل.. فاللهم وفقنا للعمل الصالح الخالص لك، اللهم وفقنا للنيات الصالحات في كل أمورنا حتى تتحول أمور عاداتنا إلى عبادات بنياتنا الخالصات الصالحات. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله، والحمد لله رب العالمين... "