هناك اليوم حاجة إلى طرح سؤال مجتمعي عميق يتعلق بمحاربة الرشوة وتخليق الحياة العامة. فبالأمس القريب، أطلقت الحكومة، في شخص وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة في المغرب حملة اعلامية وطنية للتوعية ضد مخاطر الرشوة، وتلتها مبادرات أخرى من مؤسسات مختصة وهيئات حزبية ومدنية، تصب كلها في البحث عن الآليات الناجعة لمحاربة الفساد وذلك على جميع المستويات القانونية والتشريعية. وفي هذا الصدد يمكن أن ندرج مقترح قانون مهم تقدم به فريق التقدم الديمقراطي بشأن محاربة الفساد وتخليق الحياة العامة. المفارقة أنه بالقدر الذي يحظى به هذا الموضوع بإجماع الطيف السياسي والمدني، على الأقل على مستوى المعلن، فإن المؤشرات الموجودة على الأرض لا تعكس حجم الدينامية السياسية والمدنية التي تتحرك في هذا الاتجاه، مما يطرح سؤال أين الخلل؟ هل يكمن في قصور الآليات؟ أم في ضعف المبادرات المطروحة؟ أم في غياب الإرادة السياسية؟ أم أن الأمر يرجع بالأساس إلى خلل في المنظومة المجتمعية برمتها؟ إن التوتر الحاصل بين المعلن من المواقف، والسلوك الموجود على الأرض، يؤشر على أن الأمر يتجاوز المقاربة القانونية والتشريعية، على أهميتها وأولويتها خاصة في هذه المرحلة، ويمس بالأساس البعد التربوي والثقافي والديني للشخصية المغربية. فالثقافة التي تزكي وتبرر طلب الرشوة أو تسليمها، هي أكبر من الإجراءات القانونية والتشريعية التي يتم اللجوء إليها لمحاصرة الظاهرة والوقاية منها، إذ ما دامت الرشوة في نهاية المطاف تيسر قضاء المصالح الشخصية من الطرفين، الراشي والمرتشي ، وما دامت هذه العملية في الغالب، تتم على حساب موارد الدولة، أو في غفلة عن المتضررين من شرائح المجتمع، فإن الآليات القانونية والتشريعية بما فيها توفير أعلى منسوب من الحماية للمبلغ عن جريمة الرشوة، لن تمس إلا شريحة محدودة من الراشين والمرتشين ممن لا يضعون الاحتياطات الكافية في اقترافهم لهذه الجريمة، فيما تبقى النسبة الأكبر من قضايا الرشوة محصنة لا يستطيع القانون ولا التشريع أن يصل إلى ساحتها. لذلك، فالطرح المجتمعي لقضية الرشوة، ينبغي أن يبدأ – أول ما يبدأ- من الثقافة والتربية وتحريك المعامل الديني، ومعامل التربية على السلوك المدني، والرهان أكثر على المدى المتوسط والبعيد لبناء شخصية مغربية محصنة من عناصر الثقافة التي تبرر الرشوة تسلما وقبضا ومشاركة. معنى ذلك، أن الكرة اليوم، في ملعب كل الفاعلين السياسيين والمدنيين، وفي مقدمتهم الدعاة والخطباء والمثقفون والحركات الإصلاحية المجتمعية التي نذرت نفسها للمهمة التربوية والدعوية والتثقيفية للمجتمع. السؤال الذي ينبغي أن يطرح اليوم، ليس هو كيف نحارب المفسدين والمرتشين، فهذا السؤال هلامي مضبب وانتظاري لا يحدد من هم المفسدون والمرتشون وما هي مواصفاتهم، ولذلك فالجواب عنه، لا يتعدى وضع الآليات القانونية والشريعية التي تتنظر وقوع الصيد في الشبكة. أما السؤال المركزي العملي الذي يمكن أن نبدأ به، هو كيف لا أكون مرتشيا، وكيف أحصن نفسي كمواطن مغربي من الوقوع في أي مستوى من مستويات عملية الرشوة؟ هذا هو السؤال الحقيقي، الذي يؤسس الجواب عنه لثقافة جديدة يمكن أن تأخذ مساحتها وتتوسع تدريجيا حتى تصير حالة ونفسا عاما يعطي للآليات التشريعية والقانونية فاعليتها وإجرائيتها. أما أن تكون الحالة العامة في البلد، هي ثقافة تبرر الرشوة وتشجعها، فإن الآليات القانونية التي يمكن الانتهاء إليها لن تكون أكثر من سلاح يتم اللجوء إليه لمعاقبة المغفلين من الرشاة والمرتشين ممن لم يحيطوا جريمتهم بما يكفي من الاحتياطات. بكلمة، إن السبب الذي يجعل مبادرات الحكومة، والمنظمات المختصة، والهيئات السياسية والمدنية، محدودة في مخرجاتها ونتائجها، تعود بالأساس إلى عدم تحويل قضية الرشوة إلى قضية وحالة مجتمعية ثقافية تربوية يحس فيها كل فاعل مجتمعي بالدور الذي ينبغي أن يقوم به، ويضع الإعلام العمومي المساحات والفضاءات الكافية للنقاش العمومي في هذا الموضوع، وللخطاب المواطن، والخطاب الديني، وكل أنواع الخطابات الأخرى التي يمكن المراهنة عليها كمداخل أساسية لمحاربة الرشوة وتخليق الحياة العامة.