الحكومة تُصادق على مشروع قانون متعلق بنظام الضمان الاجتماعي    تراجع حركة المسافرين بمطار الحسيمة خلال شهر مارس الماضي    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    بعد خسارته ب 10 دون مقابل.. المنتخب الجزائري لكرة اليد يعلن انسحابه من البطولة العربية    الحكومة الإسبانية تعلن وضع اتحاد كرة القدم تحت الوصاية    اتحاد العاصمة الجزائري يحط الرحال بمطار وجدة    بايتاس: مركزية الأسرة المغربية في سياسات الحكومة حقيقة وليست شعار    الزيادة العامة بالأجور تستثني الأطباء والأساتذة ومصدر حكومي يكشف الأسباب    المغرب يعرب عن استنكاره الشديد لاقتحام باحات المسجد الأقصى    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    المغرب يستنكر اقتحام باحات المسجد الأقصى    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    وزارة الفلاحة تتوّج أجود منتجي زيوت الزيتون البكر    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي : إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    عدد زبناء مجموعة (اتصالات المغرب) تجاوز 77 مليون زبون عند متم مارس 2024    تشافي لن يرحل عن برشلونة قبل نهاية 2025    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    الجماعات الترابية تحقق 7,9 مليار درهم من الضرائب    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    مدريد جاهزة لفتح المعابر الجمركية بانتظار موافقة المغرب    أبيدجان.. أخرباش تشيد بوجاهة واشتمالية قرار الأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأخلاق في الطب..تأسيس مقاصدي
نشر في التجديد يوم 11 - 03 - 2013

يقدم هذا الملف الدراسة التي قدمها الدكتور والفقيه المقاصدي أحمد الريسوني، في مؤتمر قبل أسابيع بقطر ضمن مؤتمر حول «أخلاقيات الطّب الحيوي»، من تنظيم مركز دراسات التَّشريع الإسلامي والأخلاق بقطر، الدراسة التي حملة عنوان «الأخلاق في الطب ..تأسيس مقاصدي» عرفت مشاركة نُخبة من علماء الشريعة الإسلامية وخبراء من مختلف التخصصات العلمية الأخرى، سعت إلى تحديد المبادِئ الرئيسية في مجال أخلاقيات الطب الحيوي.
وتنطلق الدراسة من مسلَّمةِ أن المبادئ والقيم الخُلقية كُلٌّ لا يتجزأ، وأنها لا تقبل قسمتها وتوزيعها على المجالات المختلفة للنشاط البشري، بحيث يكون لكل مجال أخلاقه أو حصته الخاصة به من الأخلاق... بل الحياة برمتها وبكامل مجالاتها، تحتاج إلى المنظومة الأخلاقية بمجموع مبادئها وفضائلها. فليس هناك أخلاق خاصة بالطب، وأخرى للسياسة، وأخلاق للمال والاقتصاد، وأخلاق للعلاقات الاجتماعية...الخ.
الدراسة البحثية تتناول عموما مكانة الأخلاق في الشريعة ومقاصدها، وتتحدث خصوصا عن الأخلاق في المجال الطبي. معتبرتا أن الثاني فرع عن الأول وهما المحورين الكبيرين اللذان يؤطران هذه الدراسة.
أستاذ أصول الفقه سابقا بجامعة محمد الخامس يخلص بدراسته إلى مرتكزات أساسية كثفها في أن رسالة الطب ومقصوده: تحقيق الصحة البدنية والنفسية والعقلية لعامة الناس. وأن المقاصد الأساسية الضرورية للطب تلتقي مع المقاصد الضرورية الشرعية في ثلاث ضروريات هي: حفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل. ثم يضيف مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث أن من الأخلاق الأساسية الضرورية الأكثر لزوما لكل من يسهرون ويؤتمنون على أرواح الناس وأبدانهم، وعلى حفظ الصحة العامة والخاصة للمجتمع وأفراده: خُلق التقوى، وخُلق الرحمة.
يذكر أن مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، الذي يرأسه المفكر طارق رمضان يعنى بالبحث في الرؤية الإسلامية للأخلاق والتشريع فكراً وتطبيقاً. إسهاما في تجديد الفكر الإسلامي في مجال الأخلاق بتقديم قراءة معاصرة تنطلق من القرآن والسنة، وتهتدي بمقاصد الشريعة الإسلامية من أجل صِياغة حُلول عملية أخلاقية قابلة للتطبيق في مختلف العلوم والمجالات، وقد ركز في مؤتمره حول الطب الذي قدمت فيه دراسة الخبير بمجمع الفقه الإسلامي بجدة بمدى انتشار مبادئ الطب الحيوي المتعارف عليها في أوروبا والدول الغربية، بهدف تعميق النِّقاش حول الإشكالات المعاصرة وطرح مقاربات أخلاقية لمعالجتها.
المبحث الأول: مكانة الأخلاق في الشريعة ومقاصدها
المكانة الرفيعة للأخلاق في الإسلام وشريعته تظهر بجلاء من خلال الجوانب الآتية:
الأخلاق والعقيدة هما أساس الشريعة
وهذا أمر واضح قريب المنال لمن تدبر القرآن المكي خاصة؛ فمعظمه - كما هو معلوم - ينصب على التأسيس العقدي والخلقي للرسالة المحمدية والشريعة الإسلامية، وذلك ما سماه الإمام الشاطبي «القواعد الكلية». فهي إما قواعد عقدية أو قواعد خلقية. قال الشاطبي رحمه الله: «اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً... وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة كالصلاة وإنفاق المال( )وغيرِ ذلك، ونُهيَ عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله وللشركاء الذين ادَّعوهم افتراء على الله، وسائر ما حرموه على أنفسهم، أو أوجبوه من غير أصل، مما يخدم أصل عبادة غير الله. وأُمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها: كالعدل والإحسان، والوفاء بالعهد، و أخذِ العفو، والإعراض عن الجاهل، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر والشكر، ونحوها. ونُهي عن مساوئ الأخلاق: من الفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنا، والقتل، والوأد، وغيرِ ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية...»( ).
وعند تفسير الآية المكية:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: 13]، قال القاضي أبو بكر بن العربي: «المعنى: ووصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والتزلفُ بما يرُدُّ القلب والجارحة إليه، والصدقُ، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل، والإذايةِ للخلق كيفما تصرفت، والاعتداءِ على الحيوانات كيفما كان،( ) واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات...»( ).
وإذا اقتصرنا - فقط - على ما جاء في كلام الشاطبي وابن العربي من المأمورات والمنهيات الخلقية التي نزل بها القرآن في المرحلة التأسيسية للرسالة الإسلامية، نجد أنها فد تضمنت:
من المأمورات: العدل، والإحسان، وصلة الرحم، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، و أخذ العفو، والإعراض عن الجاهل، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف من الله وحده، والصبر، والشكر، والصدق، والتقرب إلى الله تعالى بكل عمل صالح.
ومن المنهيات: الفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول بغير علم، والتطفيف في المكيال والميزان، والفساد في الأرض، والزنا، والقتل، والوأد، والإذاية للخلق، والاعتداء على الحيوانات، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات.
كل ما هو خلُق فهو دين، وكل
ما هو دين فهو خلُق
في تفسير قوله تعالى}وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{القلم - 4، يرى عامة المفسرين أن هذا الخلق العظيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجمل ما في الإسلام ومجمل ما في القرآن الكريم، فكأنّ مجملَ الإسلام والقرآن، إنما هو (خلق عظيم). وهذا ما أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها، عندما جاءها بعض الصحابة يسألون عن مضمون الخلق النبوي العظيم المنوه به في الآية، فقالت: كان خُلُقه القرآن ( )وقال الإمام الطبري: «القول في تأويل قوله تعالى:}وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدَّبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل... « ( ).
وقال ابن عاشور: «فلا جرم عَلِمنا أن الإسلام هو مكارم الأخلاق، وجماع مكارم الأخلاق يعود إلى التقوى»( )ومن هنا قال بعض العلماء: «الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين»( ). فمعيار الجودة والمفاضلة في الدين والتدين هو حسن الخلق، فمن كان أحسن خلقا فهو أقوم دينا وأرقى تدينا، والعكس بالعكس.روى البيهقي بسنده ... عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن رجلا من بني سلمة كان يحدثه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسْنُ الخلق»، ثم راجعه الرجل، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حسن الخلق» حتى بلغ خمس مرات( ). وقد بين عليه الصلاة والسلام أن مقصود بعثته في مجملها إنما هو تتميم مكارم الأخلاق، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم بقوله «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»( ).
نصوص غزيرة ومساحة شاسعة للأخلاق
المعاني والتوجيهات الخلقية لم تنحصر في القرآن المكي ونصوصه التأسيسية، بل ظلت تتردد وتمتد في عامة النصوص الشرعية بجميع أصنافها وفي جميع مراحلها. وإن أي نظرة في التصنيف الموضوعي لمضامين الآيات والأحاديث، لَتُظهر بوضوح ويسر النصيبَ الوافر فيها، بل الأوفر، للموضوعات والتوجيهات ذات الطبيعة الخلقية.
ولعل أكبر دليل يظهر حجم المساحة التي تحتلها الأخلاق في الإسلام، هي تلك الموسوعة الأخلاقية الكبرى التي أشرف على إعدادها وإخراجها كل من الدكتور صالح بن حميد، والأستاذ عبد الرحمن بن ملوح، وصدرت في أحد عشر مجلدا بعنوان: (موسوعة نضرة النعيم في مكارم وأخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم). وقد تناولت هذه الموسوعة اثنين وأربعين وثلاثمائة من الصفات الأخلاقية الواردة في القرآن والسنة، وهي تشمل الأخلاق الباطنة والظاهرة (أي النفسية والعملية)، وتشمل كافة مجالات الحياة الخاصة والعامة. فمن يلقي نظرة فاحصة على فهرس موضوعات هذه الموسوعة، يدرك بسهولة مكانة الأخلاق ومقدار انتشارها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومقدار الآيات والأحاديث الواردة في التوجيهات الخلقية.
الأصول الجامعة للأخلاق في الإسلام
لعل أجمع مقصد تربوي خلقي في جميع الرسالات المنزلة هو مقصد تزكية الإنسان قلبا وقالبا. وتزكية الإنسان هي تنقيته من الرذائل ظاهرها وباطنها، وتحليته بالفضائل ظاهرها وباطنها. فهذا هو ملتقى الشرائع المنزلة كلها.
وقد ذُكر مقصدا التزكية والتعليم صريحا في عدة آيات هي:
1. قوله تعالى: }هوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسولاً مِّنْهُمْ يَتْلو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ{[الجمعة: 2]
2. قوله تعالى: }رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ{ [البقرة: 128].
3. قوله تعالى: }كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ{[البقرة: 151].
4. قوله تعالى: }لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ{[آل عمران: 164].
قال العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله: «ذكر الله تعالى مقاصد البعثة المحمدية الرئيسية وفوائدها الأساسية في عدة آيات من القرآن الكريم...(يقصد الآيات السابقة وما في معناها)، ثم قال: «ومهمة تهذيب الأخلاق وتزكيةِ النفوس تشغل مكانا كبيرا في دائرة الدعوة النبوية ومقاصد البعثة المحمدية.»( ).
والخصال النفسية والسلوكية التي تشكل عناصر التزكية الخلقية كثيرة ٌ ومتنوعة جدا، ويمكن أن تعدَّ بالمئات، وهي متداخلة متشابكة. لذلك حاول الفلاسفة وعلماء الأخلاق إرجاعها إلى أصول مركزية جامعة وحاكمة. وعلى هذا الأساس شاع عندهم تحديد أربعة أصول يعتبرونها أمهات الفضائل كلها، مع اعتبار أضدادها أصولا للرذائل كلها. قال ابن مسكويه : «أجمع الحكماء أن أجناس الفضائل أربعة وهي: الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة»( ). ثم قال: «وأضداد هذه الفضائل الأربع أربعٌ أيضا، وهي: الجهل، والشَّرَهُ، والجبن، والجور»( ). ثم أورد ما يدخل تحت هذه الأصول الأربعة وأضدادها، من الفضائل والرذائل المنضوية تحتها ...
وقال الغزالي: «الفضائل وإن كانت كثيرة، فتجمعها أربعة تشمل شُعَبها وأنواعها، وهي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة . فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة فضيلة القوة الشهوانية، والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب، وبها تتم جميع الأمور، ولذلك قيل: بالعدل قامت السماوات والأرض.
فلنشرح آحاد هذه الأمهات، ثم لنشرح بيانها وما ينطوي من الأنواع تحتها ... « ( )
ثم أعاد ذكرها بشكل أكثر توضيحا، فقال: « الفضائل النفسية...أربعة أمور: العقل وكماله العلم، والعفة وكمالها الورع، والشجاعة وكمالها المجاهدة، والعدالة وكمالها الانصاف، وهي على التحقيق أصول الدين ... «( )
أما العلامة شاه ولي الدهلوي فيرى أن تحصيل السعادة البشرية مرجعه إلى أربع خصال أيضا، لكنها عنده مغايرة في تسمياتها لما حدده الفلاسفة وعلماء الأخلاق، وإن كان يلتقي معهم في الجوهر والنتيجة، وخاصة في العناصر: الثاني والثالث والرابع. وهذه هي الخصال الخلقية الجامعة عنده:
الطهارة،
والإخبات لله تعالى،
والسماحة،
والعدالة.
وهو يرى أن الأنبياء جميعا إنما بعثوا للدعوة إلى هذه الخصال الأربع، وأن الشرائع الإلهية إنما هي تفصيل لها وراجعة إليها ومنشعبة منها ( ).
وأما صاحب (دستور الأخلاق في القرآن) - الدكتور محمد عبد الله دراز - فيرى أن خُلق (التقوى) هو العنصر المركزي والفضيلة الأم في الشريعة الإسلامية، وأن بقية الفضائل هي صفات أحادية المجال والمضمون، بخلاف التقوى التي تدخل في جميع المجالات. قال رحمه الله: «قد جرى العرف على تسمية القوانين الأخلاقية، بحسب العنصر الغالب في مضمونها، فرديًا أو اجتماعيًا، صوفيا أو إنسانيًا: شريعةَ عدل، أو شريعةَ رحمة، وهكذا ... وليس شيء من هذه الصفات ذاتِ الجانب الواحد بمناسب هنا فيما يبدو لنا. إن هذه الشريعة توصي بالعدل والرحمة معًا، وتتوافق فيها العناصر الفردية والاجتماعية، والإنسانية والإلهية، على نحو متين. بيد أننا لو بحثنا في مجال هذا النظام عن فكرة مركزية، عن الفضيلة الأم التي تتكثف فيها كل الوصايا، فسوف نجدها في مفهوم (التقوى)، وإذن، فما التقوى إن لم تكن الاحترام البالغ العمق للشرع»( ).
وهذا ما أكده العلامة ابن عاشور بقوله: «جماع مكارم الأخلاق يعود إلى التقوى»( ).
ومن المعاصرين الذين اهتموا بموضوع الأخلاق الجامعة، الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها) . فقد عمل على استقراء الصفات الخلقية المحمودة والمطلوبة، وإرجاعِها إلى أصول كلية لها، ثم عالج من خلالها الأخلاق التفصيلية المندرجة تحتها، وكذلك أضدادها من مساوئ الأخلاق . قال موضحا طبيعة عمله ونتيجته: «ولدى سبر مفردات الأخلاق في استقراء لا ندعي له التمام والكمال، وبعد إجراء تصنيف لها، انكشفت لنا الأصول أو الكليات التالية:
الأصل الأول: حب الحق وإيثاره.
الأصل الثاني: الرحمة.
الأصل الثالث: المحبة.
الأصل الرابع: الدافع الاجتماعي.
الأصل الخامس: قوة الإرادة.
الأصل السادس: الصبر.
الأصل السابع: حب العطاء.
الأصل الثامن: علُوُّ الهمة.
الأصل التاسع: سماحة النفس.
ولهذه الأصول التي تنطوي فيها مفردات مكارم الأخلاق، أضدادٌ تنطوي فيها مفرداتُ الرذائل والنقائص الخلقية ... ( ). وبعد هذه الأصول التسعة، التي عالجها في فصول تسعة، أضاف في فصل عاشر فضيلتين أخريين، اعتبرهما منبثقتين عن « أكثر من أساس خلقي»، وهما: العفة (مع ضدها)، والشجاعة (مع ضدها) ( ). ومعلوم أن هاتين الفضيلتين هما من ضمن الأصول الأربعة المتفق عليها عند علماء الأخلاق.
المبحث الثاني : الأخلاق والطب
إذا كانت مجالات الحياة كلُّها تحتاج إلى الأخلاق، وتتزكى وترتقي بالأخلاق، فإن العمل الطبي هو في أصله وجوهره عمل أخلاقي، ولا تقوم له قائمة إلا بالأخلاق. وإذا كان علماء الشرع يقولون: «الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين»، فحري بعلماء الطب أن يقولوا لبعضهم: «الطب كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الطب». وإذا كان مقام الطبيب ومكانته يتحققان ويُقَدَّران بحسب ما له من علم وخبرة وتجربة ومهارة، فإن النجاح الفعلي في ذلك كله يتوقف كذلك على مقدار ما له من محاسن الأخلاق؛ من سمو ضمير، ومن رأفة ورحمة وشفقة، ومن رقة ورفق ولين، ومن صبر وأناة وتواضع...
مقاصد الشرع ومقاصد الطب
من المعلوم أن مقاصد الشرع مدارها على حفظ الضروريات الخمس؛ وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
ولو أردنا أن نتحدث عن مقاصد الطب لوجدنا أنها لا تخرج عن حفظ النفس والنسل والعقل. فهي تشترك مع مقاصد الشرع في ثلاثة من خمسة.. ثم نجد أن حفظ هذه الضروريات الثلاث المشتركة يساعد على حفظ الدين والمال. وعلى هذا فمقاصد الطب مندرجة في مقاصد الشرع متلاحمة معها إلى حد كبير. ومعلوم أن حفظ النفوس - سواء في الشرع أو في الطب - لا يقف عند الحفظ المادي، بل يشمل الحفظ المعنوي، بما يعنيه من سلامة وصحة وتوازن في الحالة النفسية. ثم يتقدم الشرع - فينفرد أو يكاد - بحفظه للصحة والعافية الروحية للإنسان. ولذلك نجد علماءنا يقررون أن «الشرع هو الطبيب الأعظم» .
المهم أن مقاصد الشرع ومقاصد الطب تلتقي في أن الموضوع هو الإنسان، وأن المقصود هو تحقيق الصحة البدنية والنفسية والعقلية للإنسان، وأن الغاية هي سعادة الإنسان. رسالة الطب هي نشر الشفاء والرحمة، ورسالة الدين هي نشر الشفاء الأوسع والرحمة الأعم. }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ{ [الإسراء : 82. فالشفاء والرحمة مقصدان مشتركان بين الرسالتين الطبية والشرعية، وإن تفاوتت الساحة والمساحة بينهما....
ولعلماء الشريعة تعبير آخر يختصر مقاصد الشريعة وضرورياتها في كلمتين جامعتين هما: حفظ الأديان، وحفظ الأبدان. فمصالح الخلق مدارها على حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وأساس السعادتين (الدنيوية والأخروية) حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وعمدة الثقافات والحضارات حفظ الأديان وحفظ الأبدان. وأساس كل تنمية وترقية حفظ الأديان وحفظ الأبدان.
وعادة ما يتوقف المفسرون للتنبيه على المغزى فيما تضمنه قوله تعالى }هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ {غافر : 13]، حيث تم الجمع والربط بين آيات الله ومعجزاته الدالة عليه وعلى رسله من جهة، وبين الامتنان بإنزال الرزق من السماء من جهة أخرى. وسر ذلك عندهم هو أن هذين الأمرين يشكلان جماعَ مقاصد الشرائع؛ فأحدهما فيه حفظ الأديان، والآخر فيه حفظ الأرزاق والأبدان.
قال الفخر الرازي: «واعلم أن أهم المهمات رعايةُ مصالح الأديان ومصالح الأبدان، فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء. فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان. فالآيات لحياة الأديان، والأرزاق لحياة الأبدان. وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات»
ونقرأ في تفسير القرطبي قوله: «قوله تعالى: }هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ{أي دلائل توحيده وقدرته، }وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً{ جمع بين إظهار الآيات وإنزال الرزق؛ لأن بالآيات قوامَ الأديان، وبالرزق قوام الأبدان» .
وقد استقر في الثقافة الدينية - الإسلاميةِ وغيرِها - أن العلوم كلها تتمحور حول حفظ الأديان وحفظ الأبدان، مع العلم أن جزءا كبيرا من الأديان مخصص أيضا لحفظ الأبدان...
ويروى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد «كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال قوله عز وجل: }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا{. فقال النصراني : ولا يؤْثَر عن رسولكم شيء من الطب، فقال علي : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: «المعدة بيت الأدواء والحِمْية رأس كل دواء، وأعط كل جسد ما عودته» . فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا» .
ومن القواعد المعروفة في الفقه ومقاصد الشريعة، قاعدة «تُقَدَّمُ المصلحةُ العامة على المصلحة الخاصة». وفي تطبيقات هذه القاعدة نجد الاقتران والمقارنة بين حفظ مقاصد الطب وحفظ مقاصد الشرع، أو بين حفظ الأبدان وحفظ الأديان، حيث يقرر الفقهاء وجوب الحجر على الفقيه الماجن، وعلى الطبيب الجاهل، لكون الأول يفسد الأديان، والثاني يفسد الأبدان. ولذلك قيل: «يُفسد الأديانَ نصفُ متفقه، ويفسد الأبدانَ نصفُ متطبب».
والذي أراه أن الطبيب الذي لا خَلاق له - مهما كان علمه بالطب ودرجته فيه - ليس أقل خطرا وضررا على الناس من الطبيب الجاهل. وإذا كان الطبيب الجاهل يحجر عليه، فإن الطبيب الفاسد ينبغي أن ينكل به.
ولكي ندخل أكثر في المقاصد الخلقية للشريعة، وما هو منها أكثرُ التصاقا بالعمل الطبي وأبلغ أثرا فيه، أتناول في الصفحات الآتية أصلين كبيرين من أصول الأخلاق الإسلامية، وهما:
- خُلُق التقوى،
- وخُلُق الرحمة.
وسيظهر جليا ما يتفرع عن هذين الأصلين من أثر بليغ في السلوك البشري عامة، وفي المجال الطبي والصحي بصفة خاصة.
التقوى منبع الأخلاق
التقوى في استعمالات الشرع تعبر عن حالة خلقية، قلبية نفسية، تجعل صاحبها مرهف الشعور بالمسؤولية ومحاسبة النفس، مقدرا لعواقب الأفعال وآثارها، فيتصرف بناء على ذلك، من تلقاء نفسه، سواء تعلق ذلك بنفسه، أو بربه، أو بأي كان من خَلْق الله.
فالشخص المتقي: يستشعر مدى فضل الله ونعمه عليه فيتقيه، وهو يَهَابُ ربه ويخاف مقامه فيتقيه، وهو يستحيي من ربه الذي يراه - وقد أمره ونهاه - فيتقيه، وهو يخاف غضب الله وعقابه فيتقيه. وهو يرى ويدرك قبح الأفعال السيئة وعواقبها عليه أو على غيره، فيعتبر بها ويتعظ منها فيتقيها ...
فالتقوى انضباط وارتقاء ذاتيان، كما قال عمر بن عبد العزيز « التقيُّ ملجَم، لا يفعل كل ما يريد « ( )، لكنه ملجم بتقواه، بإرادته واختياره وحسن تقديره . كما قال طلق بن حبيب رحمه الله: «التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله، رجاء رحمة الله . والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله، مخافة عذاب الله «( ).
والتقوى يقظة وتبصر وحذر، في كافة التصرفات والحركات والخطوات . كما نبه على ذلك أبو هريرة رضي الله عنه، حين جاءه رجل يسأله عن معنى التقوى، فقال له: «هل أخذتَ طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم . قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيتُ الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصُرت عنه. قال: ذاك التقوى . «( ).
التقوى في القرآن والسنة
النصوص الشرعية المتعلقة بخُلُق التقوى غزيرة ومتنوعة، وخاصة في القرآن الكريم . وهي كلها تعكس ما سبق ذكره من كون التقوى قضية مركزية ومحورية في الإسلام وشريعته. بل هي كذلك في دعوات كافة الأنبياء والمرسلين، مثلما نجد في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. وقد جاءت هذه الآية بلفظها على لسان عدد من المرسلين ، مما يعني أن (التقوى) هي غاية مشتركة وقاعدة ثابتة في جميع الشرائع المنزلة.
وفي حديث طويل عن أبي ذر رضي الله عنه قال، قلت يا رسول الله أوصني، قال: «أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله» ( ). فالتقوى هي منبع الخير كله، والوقاية من الشر كله.
فاعلية التقوى وآثارها
التقوى كما تقدم تنبعث من رقابة ذاتية يمارسها كل واحد على نفسه ومن داخل نفسه. ولذلك فهي حاضرة مع صاحبها في كل وقت وحين، وفي سره وعلانيته. فالإنسان في حياته يمكن أن يغيب عن الناس ويغيب عنه الناس، فيتخلص من رقابتهم ومحاسبتهم ولومهم وضغطهم، ويمكن أن يكون مقامه فوق الناس، بسلطانه وسطوته، أو بعلمه ومرتبته، أو بجاهِه ومنصبه، ولكن تقواه - إن كان من أهل التقوى - تظل حاضرة معه رقيبة عليه موجهة لسلوكه، في سره كما في علنه، وفي سفره كما في حضره، وفي ليله كما في نهاره، وفي انفراده بنفسه كما في اجتماعه مع غيره.
وإذا ظهرت معاني التقوى وآثارها الإيجابية الشاملة على سلوك الإنسان في كل أحواله، فلا شك أن أحوج الناس إلى التحلي الدائم بخلق التقوى ومقتضياتها، هو مَن يضع الناسُ أرواحهم وأبدانهم وأسرارهم وأعراضهم أمانةً بين يديه. إن ما يمكن أن يقدمه ويحققه الطبيب التقي بتقواه وإخلاصه،من حفظ لأرواح الناس وأبدانهم، وتخفيفٍ لآلامهم ومعاناتهم، وتوفير لأموالهم وحهودهم، لا يقل حجما ولا أهمية عما يقدمه من ذلك بعلمه وحنكته. فالطبيب التقي - بفضل تقواه وأمانته - يصبح رقيبَ نفسه وحسيبَ نفسه، فيستقيم باطنه وسِرُّهُ، قبل ظاهره وجَهْرِه. فنزاهةُ الطبيب التقي وأمانته لا تتوقف على القَسَم الطبي، مثلما أن نزاهة الحاكم التقي وأمانته لا تتوقف على القسم الدستوري. وأما من حُرم فضيلة التقوى وفقدَ محاسبةَ نفسه بنفسه، فلا ينفع معه قسم يوناني ولا إسلامي.
الطب والشرع رأفة ورحمة
من الأخلاق التي لا يستقيم بدونها شرع ولا طب: خُلُق الرحمة. وقد لخص بعض العلماء تكاليفَ الشرع ومقاصدَه كلها في كلمتين هما: «تعظيم الحق، والشفقة على الخلق».
إجمالا يمكن القول: إن لفظ (الرحمة) يشتمل على معاني: الرقة، والرأفة، والعطف، والحنان، والمغفرة، والشفقة، والمودة، وما يتبع ذلك من دفع ضر أو أذى، أو جلب نفع، أو إسداء نصح، أو دفع ألم، أو تخفيفه، أو تقديم مساعدة أيا كانت ... ويشتمل كذلك على نفي أضداد هذه الصفات، مثل القسوة والشدة والغلظة والإذاية ...
الرحمة في القرآن والسنة
ورود لفظ الرحمة ومشتقاته في القرآن والسنة النبوية، يبلغ مئات المرات، تغطي مختلف مجالات الحياة البشرية، وهو ما يظهر لنا بوضوح أن خُلُق الرحمة أصل كبير من أصول الدين ومقصد عام من مقاصد شريعته. وهذه نماذج من تلك النصوص:
● أولا: من القرآن الكريم
1.الكتب المنزلة كلها رحمة:
- }يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {يونس-57، 58
- }قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{ الأعراف-203، 204
- }وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{ [الأعراف-52]
- }فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ{ الأنعام-157
-}ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ{ الأنعام -154
- } أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً {هود -17
2.وفي نظام الزوجية والقرابة الذي جاءت به الفطرة والشريعة رحمة ومودة وسكينة، كما في هذه الآيات:
}وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{ الروم -21
}وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ{ الأنبياء -83، 84
}وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ{ ص-43
وفي كل ما شرعه الله وكلفنا به رحمة وطريق إلى الرحمة {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { التوبة - 71
● ثانيا من السنة النبوية:
1.عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}( )
2.عَنْ جَرِير بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – «لا يرحم اللهُ من لا يرحم الناسَ»(
3.خصص الإمام البخاري عدة أبواب من صحيحه للأحاديث الواردة في الرحمة، ومنها الباب السابع والعشرون من كتاب الأدب، وهو (باب رَحْمَةِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ) . وفيه أورد – مما أورده - حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: «بينما رجل يمشى بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له». قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً ؟! فقال: «في كل ذات كبد رطبة أجر» ( )
وعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها (أي خفها) فغفر لها»
قال أبو الحسن بن بطَّال في تعليق عام له على أحاديث الباب من صحيح البخاري: «في هذه الأحاديث الحضُّ على استعمال الرحمة للخَلْق كلهم، كافرِهم ومؤمنِهم، ولجميع البهائم، والرفقُ بها. وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفِّر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعمَلها في أبناء جنسه وفي كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا. وكلُّ أحد مسئول عما استُرعِيَه ومُلِّكه من إنسان أو بهيمة لا تقدر على النطق وتَبيينِ ما بها من الضر. وكذلك ينبغي أن يرحم كل بهيمة وإن كانت في غير ملكه، ألا ترى أن الذي سقى الكلب الذي وجده بالفلاة، لم يكن له مِلكًا، فغفر الله له بتكلفه النزولَ في البئر وإخراجه الماء في خفه وسقيه إياه. وكذلك كل ما في معنى السقي من الإطعام، ألا ترى قوله عليه السلام: «ما من مسلم غرس غرسًا فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة» ( ). ومما يدخل في معنى سقي البهائم: إطعامُها والتخفيف عنها في أحمالها وتكليفُها ما تطيق حمله، فذلك من رحمتها والإحسانِ إليها . ومن ذلك ترك التعدي في ضربها وأذاها وتسخيرها في الليل وفى غير أوقات السخرة، وقد نُهينا في العبيد أن نكلفهم الخدمة في الليل، فإن لهم الليل ولمواليهم النهار، والدواب وجميع البهائم داخلون في هذا المعنى»( )
وقال عز الدين بن عبد السلام في بيان كيف يحقق للعبد التحلي والتخلق بصفتَي الرأفة والرحمة - من صفات الله -: «والتخلق بهما، برحمة كل من قدرتَ على رحمته بأنواع ما تقدر عليه من الرأفة والرحمة، حتى تنتهي رحمتك إلى الذباب والذر ...» ( )
الرحمة ومسألة القتل الرحيم !
من القضايا الطبية ذاتِ الصلة بخُلُق الرحمة، قضية ما يسمى بالقتل الرحيم، وهو قيام الطبيب بالإجهاز على حياة المريض المعذب الميئوس منه طبيا، وذلك بطلب من المريض نفسه، أو بطلب من ذويه، إذا كان هو في غيبوبة تامة متواصلة. ويتم هذا القتل «الرحيم»، بداعي الرحمة والشفقة وإنهاء المعاناة.
وهذه القضية قد أخذت حظها من البحث الفقهي، وأجمع فقهاء الإسلام على تحريم هذا الفعل وأنه قتل للنفس لا يجوز بحال. ولذلك لا حاجة بي للاستطراد في هذا الاتجاه، كما أن ذلك ليس من طبيعة هذا البحث ولا هو من غرضه. ولكني أعرج فقط على الجانب الخلقي والمقاصدي، الذي تسوَّغُ به هذه القضية، على أساس أن فيها رحمة للمريض وتخليصا له من عذابه الذي لا فائدة ترجى من وراء تحمله.
والحقيقة أن هذه نظرة قصيرة وقاصرة...
فهي أولا تفتح باب المجازفة والاستهانة بالأرواح البشرية وحرمتها، خاصة وأن احتمالات الشفاء - مهما تضاءلت - تظل قائمة.
ثم إنه ليس هناك ألم يمكن أن يكون وزنه أرجحَ من حفظ الروح البشرية. ولو جاز تقديم رفع الألم على حفظ النفس، لجاز الانتحار والمساعدة عليه، لمن اشتدت بهم الآلام، وسدت في وجوههم الآمال.
كما أن فتح هذا الباب يفوت الفرصة على تقدم البحث الطبي، الذي لا ينبغي أن يستسلم لمنطق اليأس من العلاج، أو منطق نهاية التاريخ!.
كما أن الرحمة في العقيدة الإسلامية تشمل كذلك رحمة الآخرة وما يفضي إليها من توبة وصبر ومغفرة وثواب. وقد صح في الأحاديث النبوية أن الآلام فيها محو السيئات ورفع الدرجات، تخفيفا من ربكم ورحمة. فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما يصيب المسلمَ من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر اللهُ بها من خطاياه».
وقال أيضا: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» . وهذه رحمة أيُّ رحمة.
وكل هذا من أجل أن يصبر المصاب ويتَقَوَّى على محنته، ويتشبث بأمله، ويحافظ على حياته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.