ائتلاف يدعو إلى وقف تهميش المناطق الجبلية وإقرار تدابير حقيقية للنهوض بأوضاع الساكنة    تخصيص 24 ملعبًا لتداريب المنتخبات المشاركة في كأس الأمم الإفريقية 2025 بالمغرب    قبل أيام من انطلاق الكان... لقجع يؤكد الإنجازات التي حققتها الكرة المغربية    دعم 22 مشروعًا نسويًا بالمضيق-الفنيدق بتمويل من المبادرة الوطنية    شغب رياضي بالدار البيضاء ينتهي بتوقيف 14 شخصاً وإصابة مواطن وخسائر في سيارات الشرطة    عامل إقليم الحسيمة يواصل جولاته التفقدية بعدة جماعات بالإقليم    مقتل 10 أشخاص في إطلاق نار خلال فعالية يهودية في سيدني    مجلس النواب والجمعية الوطنية لمالاوي يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون البرلماني    استقالات جماعية تهز نقابة umt بتارودانت وتكشف عن شرخ تنظيمي.    إسرائيل تندد ب"هجوم مروع على اليهود"    قتيلان و8 مصابين في إطلاق نار بجامعة براون الأمريكية    أستراليا: مقتل 10 أشخاص على الأقل في إطلاق نار خلال احتفال يهودي في سيدني    الجيش الموريتاني يوقف تحركات مشبوهة لعناصر من ميليشيات البوليساريو    إقبال كبير على حملة التبرع بالدم بدوار الزاوية إقليم تيزنيت.    "الفاو" ترصد إجهادا مائيا يتجاوز 50% في المغرب.. والموارد المتجددة للفرد تهبط إلى 776 مترا مكعبا    قتيلان في إطلاق نار بجامعة أميركية    مباراة المغرب-البرازيل بمونديال 2026 الثانية من حيث الإقبال على طلب التذاكر    كرة القدم.. إستوديانتس يتوج بلقب المرحلة الختامية للدوري الأرجنتيني    طلبة المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بأكادير يعلنون تصعيد الإضراب والمقاطعة احتجاجاً على اختلالات بيداغوجية وتنظيمية    زلزال بقوة 5,1 درجات يضرب غرب إندونيسيا    ألمانيا: توقيف خمسة رجال للاشتباه بتخطيطهم لهجوم بسوق عيد الميلاد    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    أخنوش من الناظور: أوفينا بالتزاماتنا التي قدمناها في 2021    جهة الشرق.. أخنوش: نعمل على جلب شركات في قطاعات مختلفة للاستثمار وخلق فرص الشغل    تعاون البرلمان يجمع العلمي وسوليمان    مسؤول ينفي "تهجير" كتب بتطوان        افتتاح وكالة اسفار ltiné Rêve إضافة نوعية لتنشيط السياحة بالجديدة    إطلاق قطب الجودة الغذائية باللوكوس... لبنة جديدة لتعزيز التنمية الفلاحية والصناعية بإقليم العرائش        إسرائيل تعلن قتل قيادي عسكري في حماس بضربة في غزة    البنك الإفريقي للتنمية يدعم مشروع توسعة مطار طنجة    مونديال 2026 | 5 ملايين طلب تذكرة في 24 ساعة.. ومباراة المغرب-البرازيل الثانية من حيث الإقبال        نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية وأمطار قوية أحيانا رعدية مرتقبة اليوم السبت وغدا الأحد بعدد من مناطق المملكة    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    محمد رمضان يحل بمراكش لتصوير الأغنية الرسمية لكأس إفريقيا 2025    بورصة البيضاء .. ملخص الأداء الأسبوعي    تعاون غير مسبوق بين لارتيست ونج وبيني آدم وخديجة تاعيالت في "هداك الزين"    من الناظور... أخنوش: الأرقام تتكلم والتحسن الاقتصادي ينعكس مباشرة على معيشة المغاربة            المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    كأس أمم إفريقيا 2025.. "الكاف" ولجنة التنظيم المحلية يؤكدان التزامهما بتوفير ظروف عمل عالمية المستوى للإعلاميين المعتمدين    الممثل بيتر غرين يفارق الحياة بمدينة نيويورك    تشيوانتشو: إرث ابن بطوطة في صلب التبادلات الثقافية الصينية-المغربية    بنونة يطالب ب «فتح تحقيق فوري وحازم لكشف لغز تهجير الكتب والوثائق النفيسة من المكتبة العامة لتطوان»    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    يونيسكو.. انتخاب المغرب عضوا في الهيئة التقييمية للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    تناول الأفوكادو بانتظام يخفض الكوليسترول الضار والدهون الثلاثية    تيميتار 2025.. عشرون سنة من الاحتفاء بالموسيقى الأمازيغية وروح الانفتاح    منظمة الصحة العالمية .. لا أدلة علمية تربط اللقاحات باضطرابات طيف التوحد    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي عزت بيجوفيتش..الرجل والقضية
نشر في التجديد يوم 24 - 10 - 2014

أحيى أهالي البوسنة والهرسك الذكرى ال 11 لوفاة زعيمهم، الرئيس الأول لجمهورية البوسنة والهرسك، "علي عزت بيجوفيتش"، التي صادفت 19 أكتوبر 2014.
و قال بكر عزت بيجوفيتش عضو مجلس الرئاسة الثلاثي لجمهورية البوسنة والهرسك، ت ل "الأناضول": "والدي كان يسعى لتسهيل حياة المواطنين العاديين، ومداواة جراحهم، ولتحقيق السلام بين الشعوب عن طريق الإصلاح الاقتصادي"، مضيفا: "نحن أيضا نعمل حاليا على تقوية دولتنا عبر تقوية مؤسساتنا، وقوانينا، لو كان والدي على قيد الحياة لما عمل بشكل يختلف كثيرا عن أسلوب عملنا، ولسلكنا معا نفس الدرب، ولكن ربما بسرعة أكبر، لأن الشعب كان يثق به".
فيما صرح وزير الدفاع الأسبق لاتحاد البوسنة والهرسك، "حسن جينكيتش" عن الراحل: "إن بيغوفيتش استعان بالشجاعة، والصبر على الفترة التي قضاها في السجن، وبنى علاقات جيدة مع بقية المسجونين، وكان يقوم بتجهيز شكواهم، واعتراضاتهم لكونه محاميًا".
قاد علي عزت بيغوفيتش شعبه خلال سنوات الحرب، ورغم سوء وضعه الصحي، استمر في قيادة بلاده خلال فترة تعافيها من آثار الحرب، إلى أن خرج من رئاسة البوسنة والهرسك عام (2000)، وتوفي بيغوفيتش يوم (19) أكتوبر عام (2003)، ودفن بناء على وصيته في قبر بسيط بين قبور الشهداء في مقبرة "كوفاتشي"، بعد أن رفض خطة كانت تعدها الحكومة لبناء ضريح فخم له.
مولده ونشأته
ولد علي عزت بيجوفيتش عام 1344ه = 1925م في مدينة بوساناكروبا شمال غربي البوسنة في أسرة عريقة في إسلامها. والمعروف أن الإسلام دخل إلى منطقة البلقان على يد العثمانيين بعد معركة "كوسوفا" الشهيرة سنة 792ه = 1389م بعدما انتصروا على الصرب. ثم دخل الإسلام البوسنة سنة 868ه = 1463م، واعتنق البوسنويون الإسلام، وعُرف مسلموها بالبوشناق، وظلوا خاضعين للدولة العثمانية حوالي 415 عاما، وبعد زوال الحكم العثماني تعرض المسلمون فيها لاضطهاد ديني وعرقي متكرر؛ أدى إلى نزوح عدد كبير من السكان إلى تركيا، ولم يُسمح للمسلمين لعقود طويلة بممارسة حقهم في إدارة شئونهم، فضلا عن المذابح والانتهاكات الرهيبة التي تعرضوا لها في فترات متعاقبة لمحو إسلامهم وهويتهم.
نشأ علي عزت بيجوفيتش في أسرة عريقة في إسلامها، وتعّلم في مدارس مدينة سراييفو التي أمضى حياته فيها، وفيها أكمل تعليمه الثانوي عام 1943 والتحق بجامعتها، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1950، ثم نال شهادة الدكتوراه عام 1962، وعلى شهادة عليا في الاقتصاد عام 1964، ويقرأ ويتحدث ويكتب باللغات الأجنبية: الألمانية، والفرنسية، والإنكليزية، مع إلمام جيد بالعربية.
البوسنةوفي عام 1940م كان عمر بيجوفيتش 16 عامًا، وبالرغم من حداثة سنه، فقد كان من المشاركين في تأسيس جمعية "الشبان المسلمين"؛ وهي جماعة دينية وسياسية أسست على غرار جماعة "الإخوان المسلمين" بمصر. وبعد ست سنوات، قامت الحكومة الشيوعية باعتقاله هو وصديقه نجيب شاكر بيه بسبب مساعدتهما في إصدار جريدة "المجاهد". وبعد خروجهما من المعتقل، شَنَّ الشيوعيون حملة أخرى من حملاتهم الضارية ضد "الشبان المسلمين". ففي عام 1949م، قدموا أربعة أعضاء من الجماعة إلى المحاكمة التي قضت في النهاية بإعدامهم. هذا بالإضافة إلى اعتقال عدد – غير قليل – من "الشبان المسلمين" بسبب نشاطهم الإسلامي الملحوظ. وفي عام 1983م تَمَّ اعتقال عزت بيجوفيتش مرة أخرى بسبب نشره "دعاية إسلامية"، ثم أطلق سراحه أخيرًا في عام 1988م.
كفاح علي عزت بيجوفيتش السياسي
لم يكن الدكتور علي عزت رئيساً عادياً كسائر رؤساء الجمهوريات الذين تسلموا هذا المنصب في العالم الإسلامي، بل كان: سياسياً داهية، ومناضلاً عنيداً، ومفكراً عميقاً، وذا نظرة إسلامية بعيدة جعلته يتجاوز حدود البلقان، إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليحمل هموم المسلمين حيث كانوا، ويعمل مع العاملين لنهوض المسلمين، بعد تخليصهم من أوضار التخلف الذي أطمع الغرب والشرق بهم.
كان الفتى علي عزت ذا شخصية متميزة بالجدّ والاجتهاد، والتأمل في أحوال المسلمين في بلاد البلقان، وهي أحوال متردية مادياً ومعنوياً، فالحكم الشيوعي الذي جاء بعد انهيار الحكم الملكي، كان إلحادياً، شديد الوطأة على الإسلام والمسلمين، كما كان الحكم الملكي من قبل، بل كان أشدّ وأقسى وأمرّ، وقد سمعنا من الشيخ علي يعقوب الذي أنجاه الله من مذابح الملكيين والشيوعيين وهو طفل صغير، سمعنا منه في استانبول عن بعض المذابح والأهوال التي كان يلقاها مسلمو البلقان على أيدي أولئك المجرمين من الملكيين المتعصبين لنصرانيتهم، الحاملين أحقادهم التاريخية على الإسلام والمسلمين، فهؤلاء كانوا يتفقون مع الشيوعيين على حرب المسلمين.
فكّر الفتى علي عزت فيما يمكن أن يقوم به من أجل المسلمين، فهداه تفكيره إلى إنشاء جمعية أسماها (جمعية الشبان المسلمين) ودعا إليها نفراً من زملائه الطلبة، وكان في السادسة عشرة من عمره، وكانت الجمعية أشبه بنادٍ مدرسيّ يعمل لجمع الطلبة المسلمين، وتوعيتهم، وتثقيفهم ويتحاور فيه الطلبة، ثم انتقل بالطلبة من الكلام إلى العمل، فقامت بأعمال خيرية، وثقافية، وأنشأت قسماً للفتيات المسلمات، وقدمت خدمات ومساعدات للمحتاجين إبّان الحرب الكونية الثانية، وسعت إلى بناء الشخصية المسلمة السوية الواعظة التي تفهم زمانها، وتستقيم طريقة تعايشها مع الوسط الذي تتعامل معه.
قرأ علي عزت ما وصل إليه من كتب الإخوان، وتأثر بأفكارهم، وتجاربهم، كما اطلع على تجارب الحركات الإسلامية الأخرى في الهند، وباكستان، وإندونيسيا، وقرأ بعض كتب المودودي والندوي، ورئيس وزراء إندونيسيا الأسبق الدكتور محمد ناصر، وتفاعل معها، وهو ما يزال طالباً يدرس القانون في جامعة سراييفو، وكان يتحرك في أوساط الطلبة البوشناق في الجامعة، ويحاورهم، ويقنعنهم بما اقتنع به من تلك الأفكار التي ألهمته الكثير، ودلّته على الطريق اللاحب الذي يجب أن يسير فيه، من أجل النهوض بشعبه البوشناق، وبسائر مسلمي البلقان، لتخليصهم من أتون الشيوعية الملحدة التي تريد أن تطمس هويتهم، وتقضي على دينهم الإسلامي الحنيف، وتجعلهم قطيعاً يعيش على هامش الحياة، كما تسير سائر القطعان الأخرى التي رزحت تحت وطأة الحكم الشيوعي الدموي.
علي عزت بيجوفيتش في مواجهة النازيين
اجتاح هتلر بجيشه النازي يوغسلافيا واحتلها في نيسان (أبريل) 1941 وسارع بعض أبناء البلقان المتأثرين بالفكر النازي إلى تأسيس حزب (الأشتاشا) النازي، وحاول الشبان النازيون التأثير في الطلاب المسلمين، فتصدّى لهم الطالب علي عزت وزملاؤه في جمعية الشبان المسلمين وأفهموا الطلاب المسلمين أن الفكر النازي معادٍ للإسلام، وأن الحركة النازية ضدّ المسلمين، ويحرم على المسلم أن ينتسب إلى الحركة النازية تحت أي ذريعة.
واستطاع علي عزت وزملاؤه في الجمعية التأثير في الطلبة، فاستاء النازيون الألمان من الجمعية، وحاربوها، ولم يسمحوا لها بالترخيص والعمل الحر.
وعندما تحررت يوغسلافيا، ورحلت عنها الجيوش الألمانية، واتخذت الشيوعية مذهباً وديناً أواخر عام 1945تصدّى الطالب الشاب علي عزت للشيوعية، كما كان يتصدّى للنازية، فاعتقله الشيوعيون مراراً، وهو طالب في الجامعة.
لقد كان الشيوعيون أقسى على المسلمين من النازيين والملكيين، فقد أغلقوا المساجد، ومدارس المسلمين وحوّلوها إلى ملاهٍ ومتاحف وبارات وحانات ومراقص، ومنعوا اقتناء المصاحف، وفعلوا الأفاعيل بعلماء المسلمين وبالمتدينين، قتلاً، وسجناً، وتعذيباً، ومطاردة..
لم يفتّ هذا في عزيمة الشاب، بل زاده صلابة وتصميماً على الكفاح، والعمل بأساليب شتى، فاعتقله الشيوعيون أكثر من مرة فما يزيده الاعتقال والتعذيب إلا إيماناً بصحة الطريق الذي يسير فيه، وتمسكاً به.
وكان عهد ( تيتو) صديق عبد الناصر الأثير، من أشدّ العهود قسوة على المحامي علي عزت، حتى هلاكه سنة 1980، فقد كان هذا الديكتاتور الدموي يكره علي عزت، وعندما زاره عبد الناصر، سأله عن علي عزت، فأجابه تيتو: إنه رجل خطير.. أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، فهو يطالب ويرى أن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في كل بلد تكون لها الأكثرية فيه.
وقد حكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات مع الأشغال الشاقة عام 1949 وكانت تهمته، أن له علاقة بجمعية الشبان المسلمين، مع أن هذه الجمعية ما كانت تتعاطى مع العمل السياسي، وكانت اهتماماتها مقتصرة على تعليم العلوم الشرعية، وعلى أعمال الخير.
وفي غشت 1983 حكموا عليه في محكمة سراييفو، مع أحد عشر شاباً من زملائه- بينهم شاعرة مسلمة – حكموا عليهم بالسجن أربعة عشر عاماً، بتهمة الانحراف نحو الأصولية، وكان من الواضح أن الحكام الشيوعيين هناك، رأوا أن فلسفة علي عزت، وما يدعو إليه، خطر عظيم على فكرتهم الماركسية الموغلة في الهمجية والتوحش.
علي عزت بيجوفيتش والكفاح الدامي
بعد تصدّع الأنظمة الشيوعية في أوربا الشرقية، وفي الاتحاد السوفيتي عام 1410ه – 1990م وعدم قدرة تلك الأنظمة المنخورة الفاسدة على كبح جماح الشعوب التي بدأ تململها يظهر على السطوح، بعد عشرات السنين من القمع والاستبداد، اضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعددية السياسية، فاهتبل الدكتور علي عزت هذه الفرصة، وبادر إلى تأسيس حزب العمل الديمقراطي، وشارك في الانتخابات الرئاسية، وفاز فيها، وصار رئيساً لجمهورية البوسنة والهرسك، في جمادى الأولى 1411ه الموافق لتشرين الثاني/ نوفمبر 1990.
وأجرى استفتاء شعبياً على الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي، كما استقلت كرواتيا وسلوفينيا، وصوّت الشعب المسلم على الاستقلال بأكثرية 63% ولكن الغرب الصليبي لم يرض بهذه النتيجة، فشنّ حملة إعلامية ظالمة ضد مسلمي البوسنة، الأمر الذي جعل الصرب الهمج ينقضون على البوسنة، في حرب عرقية دينية دموية، وحرب إبادة شاملة، وتطوع آلاف من نصارى أوربا للقتال في صفوف الصرب، ووقعت الدولة البوسنية الوليدة بين فكي كماشة، فالصرب من جهة، والكروات من جهة ثانية، استطاعوا تمزيقها، وكادوا يجهزون على شعبها الأعزل الآمن، بآلة الحرب اليوغسلافية الرهيبة التي كانت في أيدي الصرب المتوحشين..
جرى هذا على مرأى ومسمع من الأوربيين والأمريكان، وعلى مرأى ومسمع من الأمم المتحدة التي كانت اعترفت بجمهورية البوسنة والهرسك، بحيث غدت هذه الجمهورية عضواً في هيئة الأمم المتحدة.. لم يتحرك المجتمع الدولي الذي سبق له أن اعترف بهذه الدولة، ولا تحركت أمريكا، وتركوا الصرب والكروات، وعصابات (الشِّتْنك) الصربية الإرهابية، ومن انضمّ إليها من نصارى أوربا، يفتكون بالمسلمين، ويرتكبون المجازر الجماعية التي لم تُكتشف كل مقابرها الجماعية بعد، ويغتصبون حوالي مئة ألف امرأة وفتاة مسلمة، وهم (يتفرجون) عليهم، والمسلمون كالأغنام في الليالي المطيرة، لا حول لهم ولا طول، وكان على شعب البوسنة والهرسك، أن يختار بين الانضمام إلى الكروات أو الصرب، الخصمين اللدودين اللذين لا يجتمعان إلا على حرب المسلمين، وكان هذا الاختيار كالاختيار بين سرطان الدم، وسرطان الدماغ – كما قيل- والرئيس الداهية علي عزت- صاحب العين البصيرة، والفكر العميق، والنظرة البعيدة، واليد القصيرة – كان يسعى ويفكر في الطريقة التي تجنّب شعبه ما يمكن من الخسائر، فكان يتحرك هنا وهناك، ويعرض مقترحاته وأفكاره، ويضطر للتراجع أمام التواطؤ الغربي الأمريكي الذي لم يتحرك إلا عندما رأوا الصمود الأسطوري لذلك الشعب المسلم الذي بدت كفّته القتالية ترجح على الصرب الأوباش.
من أجل إنقاذ شعبه، تقدّم الرئيس علي عزت بحلّ وسط إلى قمة رؤساء الجمهورية في شعبان 1411ه – شباط 1991 يتمثل في إقامة (فيدرالية متناسقة).
كان هذا المشروع كفيلاً بإنقاذ يوغسلافيا من التمزق والانهيار، ومن الحرب الأهلية بين الجمهوريات والأعراق، لذلك حظي هذا المشروع بدعم الجماعة الأوربية، ولكن الصرب والكروات وسلوفينيا عارضوا المشروع، وكانت المحنة الرهيبة التي لن ينساها المسلمون لأولئك الحاقدين على مدى الزمان.. لن ينسوا ثلاث مئة وخمسين ألف شهيد، وحوالي مئة ألف عرض منتهك.. لن ينسوا المنازل التي هدموها على رؤوسأصحابها، ولا المساجد التي دمّروها، ولا الجرائم الكثيرة التي لا تخطر إلا على بال الأبالسة وعتاة المجرمين، ولن يقبلوا اعتذاراًَ من أوربا وأمريكا.
قالوا عن علي عزت بيجوفيتش
قال عنه (وود وورث كارلسن): "إن تحليله للأوضاع الإنسانية مذهل، وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعوراً متعاظماً بجمال الإسلام وعالميته".
قال عنه بعض طلبة البوسنة إن الدكتور علي عزت مثقف إسلامي كبير، يصفه العلماء والمفكرون بأنه سيد قطب أوروبا.
كان الديكتاتور الدموي تيتو الصديق الأثير لعبد الناصر يكره علي عزت، وعندما زاره عبد الناصر، سأله عن علي عزت، فأجابه تيتو: إنه رجل خطير.. أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، فهو يطالب ويرى أن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في كل بلد تكون لها الأكثرية فيه.
علي عزت مفكراً ومؤلفاً
الرئيس علي عزت مفكر عميق، يغوص في الأعماق، ويأبى أن يعوم فوق السطح، ومثقف أخذ نفسه وأحاطها بألوان الثقافة العصرية، كما ثقف العلوم الشرعية، وقرأ الكتب الفكرية الإسلامية المعاصرة، وجمع بين أصناف تلك العلوم التي حصلها من مصادرها الأمينة الموثوقة، غربية وإسلامية، فكان لنا منه مفكر عميق، ودارس واع للتيارات الفكرية المعاصرة، وثقفٌ لقفٌ قرأ فوعى، وكتب فأوعى، ولكنه لم يتفرغ للكتابة، لأن هموم الأمة الإسلامية عامة، وهموم مسلمي البلقان خاصة، والمحن والابتلاءات التي مرّوا بها، والمآسي والكوارث التي نزلت بهم. كان كل هذا يشغل الحيّز الكبير من حياته وحركته وتفكيره، فقد كان يكافح على عدة محاور، ولو تفرغ للقراءة والكتابة لكان لنا منه مؤلف كبير، ولزوّدنا بثقافة ثرّة، ولأغنى المكتبة الإسلامية بمؤلفات قيمة، ولكن الخير فيما يختاره الله، ولقد سدّ الرجل ثغرات في المسيرة السياسية والكفاحية لمسلمي البوسنة والهرسك، ما كان غيره ليقوى على سدّها، والله أعلم.
ومع ذلك، ألّف الرجل عدّة كتب، وكتب العديد من الأبحاث، وقدّم الكثير من المحاضرات، في ميادين فكرية وسياسية ودعوية. ومن هذه الكتب التي ألفها:
1- هروبي إلى الحرية. كتبه في السجن، عندما اعتقله الشيوعيون عام 1949 بسبب نشاطه السياسي، ولانتمائه إلى جمعية الشبان المسلمين، وحكموا عليه بالسجن مدة خمس سنوات.
2- عوائق النهضة الإسلامية.
3- الأقليات الإسلامية في الدول الشيوعية.
4- البيان الإسلامي. وهو مجموعة مقالات كان نشرها في مجلة (تاكفين) باسم مستعار. وهذه المجلة كانت تصدرها جمعية العلماء في البوسنة، وكان يقرؤها خمسون ألف مسلم، وقد جمعها ابنه الأستاذ بكر، وأصدرها في كتاب بعنوان (البيان الإسلامي) وهو شرح لأساسيات النظام الإسلامي، وقد أثار نشر هذا الكتاب ضجة كبيرة.
5 – الإسلام بين الشرق والغرب. وهذا الكتاب الكبير هو أشبه بموسوعة علمية، هزّ به أركان العالم الغربي، فقد خاطب به قادة الفكر هناك، وكان فيه عالما وفيلسوفا وأديباً وفناناً مسلماً تمثّل كلّ ما أنجزته الحضارة الغربية، ثم ارتقى بتلك العلوم عندما ربطها بهدي السماء الذي جاء به الإسلام.
وقد اتسق منهجه التحليلي في الكتاب في تقصي الحقائق، مع هدفه الذي عبّر عنه بقوله: "لكي نفهم العالم فهماً صحيحاً، لا بدّ أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم، وأن نعرف معانيها".
نال الرئيس المفكر الداعية علي عزت العديد من الجوائز، ولم يكن يتطلع إليها، ولا يسعى لنوالها، بل كانت هي التي تأتيه طوعاً، فقد عرفه البوسنيون، والعرب، والمسلمون، والمثقفون، والسياسيون من سائر الأجناس، وكان عارفو فضله ومقامه في ميادين السياسة، والفكر، والدعوة هم الذين يرشحونه، وهم الذين يمنحونه الجائزة تلو الجائزة، ومن هذه الجوائز:
1- جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1993م.
2- جائزة (مفكر العام) من مؤسسة علي وعثمان حافظ عام 1996.
3- جائزة مولانا جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام في تركيا.
4- جائزة الدفاع عن الديموقراطية الدولية، من المركز الأمريكي للدفاع عن الديموقراطيات والحريات.
5- جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم (رمضان 1422ه)، تقديراً لجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين.
وفاة علي عزت بيجوفيتش
لقي ربَّه راضياً مرضياً يوم الأحد 19 أكتوبر 2014 ، عن عمر ناهز الثامنة والسبعين. وقد أعلن راديو البوسنة وفاته، ولم يتمكن مسلمو البوسنة من إعلان الحداد الرسمي عليه، فقد اعترض على ذلك ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية، لأن الصرب الحاقدين يعدون الرئيس علي عزت عدوّهم اللدود الذي وقف بدهاء وجرأة وذكاء في وجه أطماعهم في ابتلاع البوسنة والهرسك، من أجل إقامة إمبراطورية صربية طالما حلموا بها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.