غالبا ما كانت تتم الإشارة إلى الصحافة الأمريكية كمثال لحرية التعبير. أما الآن فهي تراكم الكبوات والإخفاقات. ذلك أن الصحفيين لم تعد لهم الشجاعة لمواجهة السلطة وأصبحوا يوافقون دون اعتراض على كل كذبها. أكد ذلك إ.إيف. سطون الصحفي الشهير الذي ندد دائما بالماكارتيسم وبالتدخل الأمريكي في الفييتنام، فإن جميع الحكومات تكذب. إنها تكذب عن طريق الإنكار أو خلط الأمور. إنها تدفن أو تخنق الوقائع التي تضايقها. وتفعل ذلك بشكل منهجي، ودائم، وبدون حياء. وهذا ليس فيه ما هو مفاجئ. فلماذا لا تحاول السيطرة على محيط المعلومة، وعلى مصادر الخبر؟ حسب تعبير الليوتنانت كولونيل، ريتشارد لونغ ضابط الاتصالات العامة في البحرية الأمريكية؟ لقد أمكن للسلطات العمومية في الآونة الأخيرة أن تعتمد على دعم متحمس لوسائل الإعلام. ذلك أن هذه الأجهزة الإعلامية أصبحت تردد دعاية السلطات لدرجة مخجلة. أسباب هذا الخنوع متعددة.فالمحققون والمحررون هم منذ البداية خوافون وسذج طيعون. إنهم يسمحون لأنفسهم بأن ينخدعوا دون أدنى رد فعل للتأكد.وخشية الذهاب بعيدا في مواجهة رأي عام يحترمونه عندما يكون محافظا (بمعنى رجعيا بالكامل) أكثر مما يحترمونه عندما يكون من اليسار؛ فهم مستعدون لكل التنازلات حتى يلبوا رغبات صناع الرأي العام. ويلتمسون للمصادر الرسمية كل الأعذار عند الشك في صحة الخبر. ثم هم يخشون كل ما يشبه رأيا مستقلا، وهو ما أصبح يعتبر مع كامل الأسف مؤشرا على الصلف والعجرفة مهنيا. إنهم مرعوبون من مجرد التفكير في إمكانية فقدان ولوجياتهم المحظوظة إلى مصادر الخبر، إنهم يخشون إذا فضحوا بالتفاصيل انحرافات الرسميين أن ينفروا المشاهدين والقراء على السواء.مُشغلوهم من أصحاب الأجهزة الإعلامية الذين يستجدون فضائل كبراء هذا العالم يرغمونهم على التخفيف من غلواء انتقاداتهم. وهكذا فإن وسائل الإعلام استسلمت أمام الإغراءات وصمتت مع استعمال مكبرات الصوت للتعبير بصمت. وبهذا أمكن للكذب بكثرة ترديده أن ينتهي به الأمر إلى أن يصبح مستساغا. ومع ذلك وحتى في أيامنا هذه لا زال قطاع الإعلام رافضا القبول والاعتراف بفشله الذريع وبأسباب هذا الفشل.إن غياب القدرة على النقد الذاتي لدى وسائل الإعلام لا يدعو إطلاقا إلى الاعتقاد بأنهم في المرة القادمة سوف يرفضون ابتلاع دعاية الدولة.فالانتظار لازال مستمرا منذ مدة بأن يعترف أو حتى يتقبل المدراء الجدد للقنوات التلفزية ولو جزءا من المسؤولية في دفعهم بالبلاد داخل أتون حرب كارثية. فالواقع أن الاختلالات قد تجاوزت بكثير مسألة أسلحة الدمار الشامل وذهبت حتى أبعد من الهذروالكلام الفارغ الذي عودنا عليه جورج وولكر بوش.إن آلة قول الحقيقة أصبحت معطلة. وقد كانت أخذت تصرصر منذ مدة. والحقيقة أن العصر الذهبي للصحافة الأمريكية، عصر الكشوفات الكبرى لحرب الفييتنام والووترغيت لم يكن في حقيقته ذهبيا بالفعل. فقد احتاج الأمر إلى سنوات قبل أن يتم الكشف عن الكذب حول النجاحات العسكرية الأمريكية في الفييتنام.وكذلك مرت شهور نسيت خلالها أغلب الأجهزة الإعلامية أهمية العمليات الإجرامية للبيت الأبيض على عهد نيكسون. ومنذ ذلك الزمان ظلت السلطة الثالثة في أغلب الأوقات في حالة شرود. صحفيون خجولون أمام البيت الأبيض لقد أضاع الصحفيون أكثر من فرصة وفاتهم أكثر من قطار. ولكن المشكل في السنوات الأخيرة أن وسائل الإعلام إضافة إلى ذلك فهي عوض أن تضيع القطارات أصبحت ترافقها كما الدراجات النارية للخفرحتى في كذبها، لقد أصبحت أبواقا لتأكيدات لئيمة وكاذبة، وأصبحت تخفف من الشكوك وتنكر حتى الاختلافات. إن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي أصبحت تتخبط في أهوال حالة الطوارئ هي أكثر من أي وقت آخر في حاجة إلى صحافة صلبة وقوية وإلى صلابة في التحري عن الصدق. ولكن عوض ذلك ساهمت وسائل الإعلام في جعل العديد من الناس يعتقدون أن منفذي عمليات 11 شتنبر 2001 كانوا عراقيين، وأن صدام حسين كان متورطا في ذلك الهجوم وأن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد عثرت بالفعل في العراق على أسلحة الدمار الشامل. وليس من المبالغ فيه أن نؤكد أنه في كل واحد من المواضيع الحيوية في زماننا تخلت الصحافة عن الرأي العام، بل وخانته. ولنبدأ بتلك الأيام الخمسة والثلاثين التي لا تنسى من سنة 2000 في فلوريداعندما سمح الصحفيون للجمهوريين بالتفوق عن طريق رواية حكايا تم إعدادها من قبل:والتي تفرض أن بوش هو الفائز الحقيقي وآل غور كان يبحث عن أن يغصبه حقه المستحق في الفوز. فعلى شاشةالإن.بي.سي. لم يتوقف منشط النقاش تيم روسير عن دعوة آل غور إلى التصرف بنبل وروح رياضية ويتقبل فشله. ولم يحدث أبدا ولا مرة واحدة أن سمعت أي صحفي أو منشط في أجهزة التلفاز يقترح على بوش أن يتحلى بالنخوة نفسها وينسحب. فقد كان يتم تقديم بوش على أنه الرجل الذي في طريقه إلى أن يصبح رئيسا وآل غور على أنه مغتصب ومشوش.ثم بمجرد أن دخل جورج بوش إلى البيت الأبيض تم إعفاؤه من كل سؤال دقيق أو محرج. فقد كان يبدو جد مزعج وجد بئيس ومحرج التساؤل حول رئيس كان يبدو أنه ليس له ما يكفي من الهيبة.وعلى كل حال معروف منذ مدة أن هذا البيت الأبيض الحالي متعود على إغلاق الباب في وجه كل صحفي يطرح أسئلة ملحاحة. بعد الحادي عشر من شتنبر وجد السيد الرئيس نفسه وقد منحت له كل الصلاحيات والضوء الأخضر ليفعل مايشاء. واستمر ذلك على الأقل حتى أخذت جثث أمريكية تتراكم في شوارع العراق، وحتى تم اكتشاف ما حدث في سجن أبو غريب. فقد كان الصحفيون يخشون بشكل ظاهر من التعبير عن فقدان الوطنية لو أنهم ألقوا ببعض التشكيك في قائد القوات المسلحة. وهكذا تحولت تصريحات البيت الأبيض في وسائل الإعلام إلى حقائق لا غبار عليها. والشهور التي سبقت الحرب كانت مسرحا لمسلسل فضائحي من السذاجة. فعندما أكدت الحكومة أن شراء أنابيب من الأليمينيوم من طرف صدام حسيبن أمر يعطي الدليل على أنه يسعى إلى تطوير أسلحة نووية، وضع الصحفيون أنفسهم في حالة تأهب لترديد الكذبة ثم ترديدها حتى تصدق وتكتموا عن الشكوك التي أبداها المحققون. وعندما ادعى بوش بأن صدام حسين قد اقتنى الأورانيوم من إفريقيا، ردد الصحفيون كلامه بكل إخلاص، على الرغم من أن هذه الادعاءات كان قد تم تكذيبها من طرف الوكالة الدولية للطاقة النووية، وفي الوقت الذي كان مؤكدا بأن تلك الوثائق كانت مزورة. وعندما أرغم كولين باول الأممالمتحدة على تحمل مشاهدة حصة من الصور التي لا معنى لها وكان بجانبه في دور الكومبارس مدير المخابرات الأمريكية في ذلك الوقت جورج تينيت، تم إرغام الجميع على تصديقه ولو أن ما قدمه لا يمكن تصديقه إطلاقا. وخلال العمليات فإن التلفزات -التي جعلت كديكور للخلفية في نشراتها الإخبارية وفي جميع برامجها الأخرى العلم الأمريكي مصحوبا بالرموز الحربية- قامت بكل ما في وسعها للتدليل على أنها في المعسكر الصحيح. وعوض الاهتمام بالمعارك من وجهة نظر عراقية كذلك فقد جروا وراء الصحفيين العسكريين المرافقين للجيوش الأمريكية وطلعوا علينا برؤية معقمة للنزاع. لقد ركبوا بشكل هزلي عملية إسقاط تمثال صدام حسين وحولوا عملية إنقاذ الجندية جسيكا لانش إلى فيلم خيالي للحركة المتشنجة، كما كانت للجندية نفسها شجاعة التأكيد على ذلك فيما بعد.ولنا أن نتساءل هل صور سجن أبو غيرب كان لها أن تجد طريقها إلى الصفحات الأولى وإلى شاشات التلفزة الأمريكية لو لم يتم تسريبها إلى غيرهم؟ لو أن نقص المعلومات فيما يخص العراق كان استثناء لأمكننا أن نحافظ على بعض الثقة في وسائل الإعلام هذه فيما يخص مواضيع أخرى. ربما لم يفت بعد الوقت للاستدراك لقد أصبحوا متعودين بانتظام على أن يكون لهم كقاعدة التهافت والتزاحم على نفس الموضوع دائما. لقد منح التعديل الأول للدستور الأمريكي اهتماما وحماية خاصين للصحافة، ليس لأن الآباء المؤسسيبن للديمقراطية الأمريكية كان لهم إعجاب ما بصحف زمنهم؛ لا، ولكن لأنهم كانوا يعلمون بأن سلطة بدون قيود سوف تكون لها ميول طبيعية نحو تمجيد نفسها. لقد منحوا الحماية للصحافة ليس لأنهم كانوا يعتبرون الصحفيين محترمين أو علماء، ولكن لأنهم كانوا يعلمون أنه لابد من مذنبين يتم معاقبتهم للحد من طموحات المذنبين الكبار.. ولو أنهم قد تصوروا حربا على المستوى الدولي ولو أنهم تصوروا حدوث هذا الارتفاع المهول في حرارة الكوكب الأرضي لكانوا قالوا في أنفسهم: في مواجهة أخطار مماثلة فإن الدليل قائم اليوم على أننا كنا على حق في التعلق بقوة بحرية الصحافة. فأكيد أنه في هذه الأزمنة التي تضع عقل وروح الإنسان أمام الامتحان، فإن كلاب الحراسة في الصحافة سوف يكون من الأليق أن يُسمعوا نباحهم.ولكنهم لم يكونوا ليستسلموا بكل سهولة. فقد كانوا ربما سوف يرون أن الشغف الصحافي؛ الرغبة في حل عقدة الكذب أو كما كان سيقول الكاتبو.ه. أودنفإن الرغبة في وضع سد منيع أمام ما كان يسميه كاتب آخر هووات ويثمان بالجرأة اللامتناهية للأشخاص المختارين؛ هذه الرغبة قدخفتت أخيرا. وربما هذا البحث عن الحقيقة وعن المعقولية لن تستسلم للخضوع بسهولة. ربما سوف يرفض الرأي العام الاستمرار في المسير بدون عينين. طود جيتلان صحيفة موذر دجونس سان فر انسيسكو ترجمة إبراهيم الخشباني