الخط : إستمع للمقال شهدت العاصمة الرباط، اليوم الثلاثاء فاتح يوليوز الجاري، انطلاق فعاليات اليوم الأول من المناظرة الوطنية الأولى حول الذكاء الاصطناعي، المنظمة تحت الرعاية السامية للملك محمد السادس، بمبادرة من وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، حيث تحولت المناظرة على امتداد هذا اليوم الافتتاحي، إلى فضاء حيوي لتقاطع الرؤى والخبرات، جمعت مسؤولين حكوميين، وخبراء دوليين، ومبتكرين من داخل المغرب وخارجه، في لحظة وطنية تضع الذكاء الاصطناعي في صلب النقاش حول السياسات العمومية والتحولات الرقمية الكبرى. وقد حمل اليوم الأول زخما دالا على مستوى الحضور والنقاش، حيث انطلقت الجلسات بلغة تؤسس لتحول مفاهيمي أعمق من مجرد تحديث إداري، وتوحي بإرادة سياسية واضحة لتوظيف الذكاء الاصطناعي كرافعة استراتيجية لإعادة بناء الثقة، وتوسيع نطاق العدالة الرقمية، وتعزيز تموقع المغرب قاريا ودوليا. وفي هذا السياق، افتتحت الوزيرة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، أمل الفلاح السغروشني، أشغال اليوم الأول من المناظرة، حيث شكّل هذا الحدث لحظة فارقة في مسار النقاش العمومي الوطني حول التحول الرقمي، وذلك من حيث نوعية الخطاب الذي أطلقته الوزيرة، والذي حمل أبعادا استراتيجية تتجاوز الإطار التقني التقليدي، لتصل إلى عمق الأسئلة السيادية التي يطرحها الذكاء الاصطناعي على الدول والمجتمعات. في كلمتها الافتتاحية، لم تتعامل السغروشني مع الذكاء الاصطناعي كمنتوج تقني أو فرصة اقتصادية فحسب، بل كمفهوم مركزي في إعادة رسم علاقة الدولة بالمجتمع وإعادة توزيع السلطة داخل الفضاء العمومي، إذ وصفت اللقاء بلحظة تأسيسية، وأكدت أن الرهان على الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفا تقنيا، بل خيارا سياديا، حيث يعكس هذا الطرح فهما عميقا لطبيعة التحول الجاري على الصعيد العالمي، فيما لم تعد التكنولوجيا مسألة تكميلية داخل السياسات العمومية، بل أضحت القوة المحركة لأنماط الإنتاج والمعرفة واتخاذ القرار. ومن هذا المنطلق، بدا واضحا أن خطاب الوزيرة يسعى إلى ترسيخ منظور وطني يضع الذكاء الاصطناعي في قلب النقاش حول مشروع الدولة، لا على هامشه. اللافت في الخطاب أيضا أنه لم يكتف بإبراز الفرص، بل ذهب بعيدا في التنبيه إلى المخاطر البنيوية التي يطرحها هذا التحول الرقمي، حيث حذّرت الوزيرة السغروشني من التعامل مع الذكاء الاصطناعي كأداة محايدة، مبرزة أنه يشكّل نظاما معرفيا جديدا يعيد صياغة موازين القوة، سواء بين الدول، أو حتى المجتمعات ذاتها. ومن خلال هذا التأطير المفاهيمي، تجلّت بوضوح إرادة المغرب في تجاوز مجرد إدماج التكنولوجيا في الخدمات العمومية، نحو تبنّي مقاربة شاملة تسعى إلى تأطير استخدامها وتقنين شروطها، بما يضمن أن تظل التكنولوجيا في خدمة الإنسان والمجتمع، لا أن تتحول إلى أداة للرقابة أو الإقصاء أو تعميق الفوارق الاجتماعية. وفي سياق متصل، تحدثت الوزيرة بلغة واضحة عن التحولات التي يعيشها العالم، مدعّمة خطابها بأرقام ومعطيات صادرة عن مؤسسات مرجعية، لتوضح أن الذكاء الاصطناعي واقعا زاحفا يعيد تشكيل الاقتصاد والسياسة والإدارة في العمق. وإذا كان كثيرون ما زالوا ينظرون إليه كترف نخبوي، فإن خطاب الوزيرة حسم في كونه أولوية وطنية لا يمكن تأجيلها، بل يجب تأطيرها قانونيا ومؤسساتيا وأخلاقيا. ومن هذه النقطة، جاء إعلانها عن إعداد مشروع قانون جديد للرقمنة، بتعاون مع مؤسسات وطنية مختصة، بهدف وضع أسس "عقد اجتماعي رقمي" جديد، يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن في العصر الرقمي، على قاعدة الشفافية، والمسؤولية، والحق في الفهم والاعتراض. لم تتوقف السغروشني عند حدود التأطير القانوني، بل انتقلت إلى سؤال جوهري يتعلق بإعادة التفكير في النموذج الإداري ذاته، معتبرة أن الذكاء الاصطناعي يفرض علينا الخروج من التصورات الكلاسيكية للإدارة، وإعادة توجيه السياسات العمومية وفق منطق جديد يضع الذكاء الاصطناعي كرافعة عرضانية لكافة القطاعات، كما يعتبر هذا التوجه شرطا ضروريا لضمان الفعالية والإنصاف في آن واحد، كما أنه يمثل جوابا على مفارقة جوهرية: كيف نحقق التحول الرقمي دون المساس بمبادئ العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الهشة؟ الوزيرة لم تُخفِ هذه الإشكالية، بل جعلتها في قلب النقاش، مؤكدة أن الذكاء الاصطناعي قد يعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية إن لم يُوجَّه ضمن إطار تشاركي ومنصف. من جهة أخرى، حمل خطاب السغروشني بُعدا دبلوماسيا واضحا، تمثل في استحضارها لموقع المغرب داخل إفريقيا. فالذكاء الاصطناعي، وفق تصورها، فرصة لبناء استقلالية القرار على أسس التعاون جنوب-جنوب، كما أشارت إلى انخراط المغرب في إعداد الاستراتيجية الإفريقية للذكاء الاصطناعي، ومساهمته في صياغة إعلان اليونسكو حول أخلاقيات هذه التكنولوجيا، مما يعكس رغبة المملكة في أن تكون فاعلا لا مفعولا به داخل ساحة رقمية عالمية لا تزال غير متكافئة. وهذا الطرح، ينسجم مع توجه سياسي أوسع للمغرب في العقود الأخيرة، يقوم على تحويل التكنولوجيا إلى أداة للتموقع الاستراتيجي، ورافعة للريادة الإقليمية، ومصدرا للنفوذ الناعم. بعد كلمة الوزيرة السغروشني، انطلقت المداخلات القطاعية التي استعرضت أبعاد الذكاء الاصطناعي من زوايا متعددة، جمعت بين التعليم، والصحة، والسياحة، والتشغيل، وغيرها من القطاعات الحيوية، حيث شكّلت هذه المداخلات فرصة لإبراز كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُسهم في تحسين الخدمات، ورفع جودة الأداء، وتوجيه الموارد بكفاءة، شرط توفر الحوكمة المؤسسية والوعي بالمخاطر. بالموازاة مع ذلك، أُطلقت المنصة الخاصة بالشركات الناشئة، التي فتحت المجال أمام مجموعة من المقاولات والمبتكرين المغاربة، من داخل وخارج الوطن، لعرض مشاريعهم أمام جمهور متخصص ومهتم، حيث منح هذا التمكين العملي للشباب والمقاولات الصاعدة للمناظرة بعدا تطبيقيا وملموسا، عكس إرادة سياسية واضحة في ربط الرؤية الوطنية بدينامية ميدانية. وفي هذا الصدد، قامت الوزيرة السغروشني بجولة تفقدية داخل الأروقة، حيث تفاعلت مع العارضين، وأعطت إشارات قوية عكست التزاما مؤسساتيا بتثمين الابتكار المحلي، ودمج نتائجه في صلب التصور الاستراتيجي للسياسات العمومية. وفي هذا الإطار، أضفى الحضور الوازن للكفاءات المغربية المقيمة بالخارج، التي قدّمت مشاريع متقدمة مبنية على الذكاء الاصطناعي لحل تحديات مغربية، على الحدث بُعدا مزدوجا: وطني في خصوصياته، ودولي في خبراته، مما يعزز فكرة أن المغرب لا يراهن فقط على بنياته الداخلية، بل على رأسماله البشري العابر للحدود، وعلى تحالفات معرفية قادرة على تعزيز الاستقلالية التكنولوجية. فيما تميزت الفترة المسائية بانعقاد جلسات موضوعاتية كبرى، كان من أبرزها الجلسة التي انعقدت تحت عنوان "الذكاء الاصطناعي، الصناعة والاستدامة: بناء منظومات المستقبل للمغرب"، وقد طرحت هذه الجلسة تساؤلات دقيقة حول كيفية توجيه الذكاء الاصطناعي نحو تطوير منظومات اقتصادية مستدامة، تكون قادرة على تعزيز التنافسية والابتكار، دون التضحية بالعدالة البيئية أو التماسك الاجتماعي. هذا ويظهر أن كل ما جاء في خطاب الوزيرة وفي فقرات اليوم الأول من المناظرة يُبرز أن المغرب لا يخوض غمار الذكاء الاصطناعي من باب التجريب أو المواكبة، بل من موقع الفاعل الذي يعي الرهانات، ويطمح إلى قيادة مسار رقمي ينسجم مع طموحاته التنموية، ويُبنى على سيادة القرار، وصيانة القيم، وتحقيق الإنصاف. وجدير بالذكر أن المناظرة ستتواصل في يومها الثاني، حيث يُرتقب أن تتبلور توصيات عملية تترجم هذا الزخم الفكري إلى خطوات ملموسة على طريق إرساء استراتيجية وطنية مندمجة للذكاء الاصطناعي، تجعل من المغرب فاعلا قاريا ومخاطبا دوليا في هذا المجال الحيوي. الوسوم الذكاء الاصطناعي اليوم الأول وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة