نحو بلورة تصور مشترك لإغناء مضامين القانونين التنظيميين للغات والثقافة المغربية انطلاقا من أهمية الشأن الثقافي وحيويتهما في بناء الشخصية والمجتمع المغربيين، نظم مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية –مدى- بشراكة مع اتحاد كتاب المغرب، منتدى ثقافيا وفكريا تحت عنوان: «واقع اللغة والثقافة بالمغرب» يوم السبت الماضي بالدار البيضاء، وذلك للمساهمة في بلورة تصور فكري وثقافي مشترك لإغناء مضامين القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية. خلال الجلسة الصباحية التي تكلف بتسييرها الشاعر إدريس الملياني وبعد ذلك الصحفي محمد حفيظ، تم فتح النقاش حول وضعية اللغة والثقافة بالمغرب من خلال مداخلتي عبد الدين حمروش عضو المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب، والمختار بنعبدلاوي أستاذ الفلسفة بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بن مسيك ومدير مركز مدى. فخلال المداخلة الأولى، حاول حمروش ملامسة الإطار العام للواقع اللغوي والثقافي بالمغرب على ضوء وجود معطيين دستوريين هما: المجلس الأعلى للغات والثقافة المغربية، وتأسيس أكاديمية محمد السادس للغة العربية، حيث اعتبر أن فتح هذا النقاش الفكري هو محاولة استباقية لإدلاء المثقفين بآرائهم وتصوراتهم حول هذين المعطيين وذلك من خلال ثلاث محددات هي: تصور الثقافة كقضية لها أبعاد خاصة وعامة، والواقع المركب للممارسة الثقافية بالمغرب، وعلاقة الثقافة بمختلف القطاعات الوزارية. وأكد حمروش أن الإطار المرجعي لكل هذه المحددات هو تبني ثقافة الحداثة بكل ما تحمله من معاني التنوع والتعدد وحقوق الإنسان، والمواطنة مع التركيز على الإنسان والمراهنة عليه، كما ركز حمروش في مداخلته على أهمية الثقافة كاستراتيجية لتنمية الوطن والمواطن معتبرا أن التنمية الثقافية تحفظ للمغربي كرامته وهويته وثقافته من خلال الاستثمار الثقافي. وختم حمروش مداخلته بطرح مجموعة من الأفكار والاقتراحات للنهوض بوضع الثقافة واللغة بالمغرب، وهي: تخصيص حيز مادي وثقافي من طرف كل القطاعات الحكومية، وبلورة خارطة طريق للنهوض بالشأن الثقافي، وإكساب الجهوية بعدا ثقافيا، وتحقيق التكامل والتنسيق بين كل المؤسسات الثقافية، والاعتناء بثقافة العالم ولغاته دون مركب نقص حتى تتحول الثقافة من شأن عام إلى شأن خاص، من خلال انفتاح المجتمع على الثقافة، وتحقيق صناعة ثقافية والاستثمار الثقافي في الإنسان خدمة للثقافة المغربية. أما المداخلة الثانية فقد تكفل بها المختار بنعبدلاوي الذي ناقش من خلالها أسئلة اللغة والثقافة بالمغرب، حيث أكد في بداية مداخلته أن الورقة التي سيقدمها تسعى إلى النقاش حول سؤال مهم وجوهري هو: لماذا نناقش اليوم سؤال الثقافة ووضعية اللغة والمخاطر المحدق بها؟ خاصة مع وجود تهديدات والرغبة في البحث عن الفرص المتاحة لتجديد وحماية اللغة العربية. وأبرز بنعبدلاوي أهم المخاطر التي تواجه اللغة العربية وهي الثورة المعلوماتية، وانحسار اللغة إلى وظيفة استعمالية في إطار تداولي، وتحول اللغة العربية إلى متحف لأن المجالات المنفتحة على العلم وغيره غير قادرة على استيعاب هذه اللغة، وأخيرا الفصام الثقافي داخل المجتمع، ثم عرج بنعبدلاوي إلى الحديث عن المآلات التي من الممكن أن تفضي إليها هذه المخاطر وحددها في ضعف الاستثمار في اللغة العربية بسبب قيمتها في السوق، والفقر المعجمي والجفاف المخيالي عند التلاميذ، مما سيعطينا أجيالا بدون ذاكرة، والتطرف الديني.أستاذ الفلسفة بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بن مسيك، تناول بعد ذلك إشكالية اللغة العربية والانفتاح على الشباب واعتبر أن الإبداع في حاجة إلى النص ثم المبدع والقارئ، فلابد للمبدع أن يساهم استشاريا في الارتقاء بالنص الأدبي. وختم بنعبدلاوي مداخلته بالحديث عن دور اللغات الأجنبية داعيا إلى الانتقال من الأحادية إلى التعدد وفتح منافذ حول اللغات الأجنبية لتصبح مكملا للغة العربية لأن تعددها سيجعل اللغة العربية هي المستفيد والمنفتح عليها. كما تناولت الجلسة الزوالية موضوع أجرأة الأمازيعية، وقد ناقش الموضوع الأستاذان محمد أقوضاض عضو المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، حيت أشار في بداية مداخلته إلى مجموعة من التساؤلات التي كان من بينها: لماذا بقي المعهد الملكي يشتغل وحده على الأمازيغية؟ أليس من حق المواطن المغربي أن يعتز بلغاته خصوصا أن المغاربة دخلوا مشروع الجهوية؟ أليس للغات والثقافات الوطنية أهمية في التنمية البشرية وتطور البلاد؟ وعلى مستوى تعليم الأمازيغية؟ لماذا ذلك النوع من الارتجال والتسرع، خاصة في تكوين أطر تدريسها؟ ألا يمكن إنشاء فروع في مؤسسات التكوين التربوي لتهييء أساتذة الأمازيغية، خلال مدة سنة على الأقل، عوض الاقتصار على التكوين السريع في أيام معدودة؟ ألا يمكن، إلى جانب حرف تيفيناغ والحرف اللاتيني، استعمال الحرف العربي لتسهيل تدريس الأمازيغية؟ هل من الضروري الإسراع والتسرع في توحيد الأمازيغيات، أم أن هذه العملية تتطلب استعمال الأمازيغيات الجهوية مرحليا؟ ألا يمكن تشكيل هيئة وطنية لتوحيد الأمازيغية وتهييئها، حسب الدستور، ريثما يتأسس المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية؟.للإجابة على هذه التساؤلات قدم الأستاذ أقوضاض مجموعة من الاقتراحات كان من بينها: أنه لتدريس الأمازيغية لابد من أطر لهم تكوين متميز، فلا يكفي التكوين السريع خلال أيام معدودة، بل لا بد من مؤسسة لتهيء هؤلاء الأطر، كما في تكوين الأساتذة باللغات الأخرى. كما أنه لتوحيد الأمازيغية، لا يمكن فرض لهجة جهوية على باقي اللهجات، أو استراد نماذج أجنبية، لأن ذلك سيؤدي إلى النفور من تعلمها. ولأن الأمازيغية مكون يهم كل المغاربة، فلابد من هيئة وطنية موسعة ومتنوعة يشارك فيها باحثون في اللغة وفي الأنتربولوجيا والسوسيولوجيا والسيكولوجيا والديداكتيك ورجال الأدب، لبناء مشروع توحيد الأمازيغية. كما أنه لابد أن يكون للغة والثقافة الأمازيغيتين دور مهم في التنمية البشرية وترميم القيم، من خلال الاعتراف بهما وإحيائهما ومن خلال إعادة الاعتبار إلى الذات الفردية والذات الجماعية، المحلية والجهوية والوطنية، وتطوير حياتها وأساليب الإنتاج لديها، مع استثمار الطاقات البشرية وتطوير ملكاتها لتنمية المجال، تقول مداخلة أقوضاض. من جهته انطلق الباحث في التاريخ أسامة الزكاري في مداخلته، من ملاحظات مدخلية كان أهمها: هل يمكن تنزيل مقتضيات الدستور بخصوص الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بدون استحضار باقي المكونات اللغوية الوطنية وعلى رأسها اللغة العربية؟ فالنهوض باللغتين معا والارتقاء بهما يظل مطلبا محوريا في هذا الإطار، يقول الزكاري. وتساءل الباحث في التاريخ عن مدى إمكانية الانتقال إلى تفعيل مقتضيات التنزيل الإجرائي لقوانين ترسيم اللغة الأمازيغية، بدون إعادة تقييم رصيد المنجز على مستوى الإطارات الرسمية. وخص الزكاري بالذكر في هذا المقام تجربة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مبرزا أن هذا التقييم يجب أن يتحول إلى ورش جماعي ينخرط فيه الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم وعن مواقفهم تجاه التجربة، مضيفا فالبعد الوطني والنزاهة الفكرية يجب أن تشكل محورا لهذا التقييم، حتى لا نقع في «انزياحات بديلة» تفرغ العملية من بعدها النبيل.كما تساءل الأستاذ حول إمكانية تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بدون استحضار رحابة واقع التعدد اللغوي والثقافي الذي يميز الهوية الثقافية للمغرب، بمعنى أن مبادرات هذا التفعيل يجب أن تستقرئ الواقع المغربي في تنوع رصيده اللساني والإثنوغرافي، ثم في امتدادات هذا التنوع سواء نحو العمق الافريقي أو نحو العمق العربي أو نحو العمق المتوسطي. وأكد الزكاري على أن العمل المنتظر بهذا الخصوص لا يتأسس على المعارك الدونكشوتية ضد هذا أو ضد ذاك، بقدر ما أنه يحسن الإنصات لنبض الواقع المغربي ولآفاق التعدد داخله ولتكامل مكونات هذا التعدد وتجانسها التاريخي. كاتب مغربي