يهتز إقليم الشاون دائما على وقائع الانتحار، الذي ما زال يعرف تزايدا بوتيرة متسارعة ومقلقة، يعصف بأشخاص من مختلف الفئات العمرية، في ظروف قد تكون معروفة أو مجهولة، ولأسباب تنتقل سرا مع صاحبها إلى مثواه الأخير، بحيث يمكن أن تسجل في بعض الأحيان، ثلاث حالات انتحار أو أكثر في اليوم أو في الأسبوع الواحد، هذا الوضع حمل مدينة شفشاون لقب عاصمة الانتحار بالمغرب، وإزالة هذه الصفة أضحت شبه مستحيلة في ظل تفاقم الظاهرة. الفقر وضغوط الأسر.. دوافع للإنتحار محمد، حوالي 40 سنة، ناج من الانتحار، يحكي في لقاء مع كاب 24 تيفي، وعلامات القلق النفسي تبدو على محياه وكأنه يعيش حالة اضطراب نفسي بسبب الصدمة التي تعرض لها بعد وفاة زوجته السنة الماضية لظروف صحية تاركة ورائها طفلين، قائلا: "وقع لي هذا المشكل لما كانت زوجتي على قيد الحياة بسبب دخول أمي معها في صراع مستمر، لكن وفاتها فاقم حالتي وجعلني أفكر في الانتحار". "لفت انتباهي، يوما، حبل معلق بشجرة قرب منزل عائلتي، ففكرت أن أنهي حياتي شنقا لأرتاح من الصراعات بين أمي وزجتي"، يضيف محمد متأثرا وهو يسترجع تلك اللحظة التي كاد أن يرفع فيها عدد الانتحارات بالإقليم لولا يقظة الأسرة والساكنة، لقد كانت رسالته إلى أسرته أن يعيش بدون مشاكل ويبحث لها عن لقمة عيش من عرق جبينه، معبرا في حديثه مع كاب24 تيفي عن ندمه على محاولته الانتحار التي نجا منها بأعجوبة، مؤكدا على أن إقدامه على ذلك كان فوق طاقته. حالة محمد ليست كحالات الأشخاص الذين قرروا وضع حد لحياتهم، ربما كان محظوظا؛ رغم الفقر والضغوطات النفسية والعائلية، حين تدخل الجيران والأهل في فك وسيلة الانتحار من عنقه، لكن المعطيات تشير إلى أن أغلب المنتحرين بالإقليم أنهوا حياتهم في ظروف غامضة، رغم التأويلات التي تحوم حول الظاهرة، لكن كل من يتحدث عن الانتحار بالإقليم يربطها بالفقر والضغوط الاجتماعية التي تعيشها معظم الأسر بقرى وبوادي الإقليم. الانتحار ليس حلا عادل الغمري، فاعل جمعوي، وواحد من بين الأشخاص الذين ساهموا في إنقاذ محمد من موت محقق، قال في لقاء مع كاب24 تيفي متحدثا عن حالة هذا الأخير أنه يعاني من اضطرابات نفسية ناتجة عن ضغوطات أسرته، التي تطالبه بالبحث عن العمل من أجل إعالة زوجته المريضة وابنيه، وكما يعرف الجميع أن فرص الشغل قليلة جدا بالإقليم، وكثير من الأحيان تنتهي رحلة بحثه عن العمل بالفشل، ويعود خاوي الوفاض وهو ما زاده قهرا، الأمر الذي دفعه إلى التفكير في وضع حد لحياته، معتبرا أن الانتحار هو الحل، لكن بفضل يقظة ساكنة الحي والمتطوعين ومجهوداتهم أنقذوه في الوقت المناسب. "وحالة محمد يجب أن تخضع للعلاج النفسي، لكن للأسف إن المستشفى بالرغم من توفره على قسم للصحة النفسية، إلا أنه يفتقر إلى الموارد البشرية المتخصصة في العلاج النفسي"، يقول الفاعل الجمعوي، الذي أشار إلى أن معظم الحالات التي تأتي إلى قسم الصحة النفسية بالمستشفى من البوادي والقرى المجاورة للإقليم، لا تجد من يقدم لها العلاج أو حتى من يقدم لهم جرعة من الدواء، وحالة محمد تستدعي التدخل لمساعدته لإيجاد عمل قار يدر عليه دخلا إلى جانب العلاج النفسي. "إن اغلب حالات الانتحار التي تم تسجيلها هي من بوادي الإقليم بسبب البطالة لتراجع فرص العمل في المجال الفلاحي مع توالي حملات محاربة نبتة "الكيف" التي كانت مصدر رزق لمعظم الأسر، إضافة إلى العزلة التي تعيشها معظم الدواوير"، يوضح عادل الغمري، مبرزا أن هذا الوضع أفرز مشاكل اجتماعية أخرى، من بينها حث الأسر لأبنائها على البحث عن عمل خارج الإقليم، ما يدفعهم إلى وضع حد لحياتهم أمام هذه الضغوطات. وطالب الفاعل الجمعوي ذاته الجهات المسؤولة والمجتمع المدني على تكثيف الجهود من اجل الحد من نزيف الانتحار الذي بات أمرا عاديا بالإقليم، وخلق فرص شغل لهم، ووضع حد لمعاناتهم لكون معظمهم يأتون من البوادي للبحث عن عمل وسط المدينة. أرقام مقلقة تستنفر فاعلين وباحثين وفي الوقت الذي اختارت منظمة الصحة العالمية في تخليد اليوم العالمي للصحة النفسية في العاشر من أكتوبر من السنة الجارية التحسيس بظاهرة الانتحار عبر العالم، والتي قالت بأن الانتحار يعد ثاني الأسباب الرئيسية للوفاة في أوساط من تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً، يظل إقليمشفشاون من بين الأقاليم التي حطمت الأرقام القياسية للانتحار بحيث سجل به خلال الأربع سنوات الماضية سنويا ما بين 28 إلى 30 حالة وفق معطيات غير رسمية، آخرها 34 حالة انتحار خلال السنة الجارية، وهو رقم مرشح للارتفاع كما يتوقع عدد الفاعلين المحليين بالإقليم والجهة، في ظل توالي الضغوط النفسية الناجمة عن الفقر والمشاكل الأسرية. وقال الباحث المتخصص في علم النفس، إدريس رفيع، إن ظاهرة الانتحار تعتبر من الظواهر النفسية الاجتماعية المقلقة التي تعرفها المجتمعات، والارقام و المؤشرات العالمية تفسر ان الظاهرة باتت مقلقة ومزعجة وهو ما دفع منظمة الصحة العالمية إلى إعلان "منع الانتحار" شعارا لليوم العالمي للصحة النفسية، وعلى المستوى الوطني احتل إقليمشفشاون المرتبة الأولى على الصعيد الوطني في معدلات الانتحار بأرقام مقلقة وصادمة تطرح اسئلة شائكة. وأضاف الباحث نفسه أنه بناء على هذه المعطيات، يمكن القول أن تفسير هذه الظاهرة بقراءات متعددة ومداخيل متعددة، فالحقل السيكولوجي ولا سيما علم النفس المرضي الإكلينيكي يربط دائما الانتحار بحالة الاكتئاب والسوداوية، حيث أن الاكتئاب الحاد يؤدي إلى هيمنة وسيطرة أفكار الموت عليه وبالتالي الانتحار بطريقة مباشرة حتمية. "ومن هنا نقول أن تفاقم المرض النفسي والعقلي وغياب الصحة النفسية وسيادة الهشاشة النفسية، غياب المناعة النفسية، عوامل تتشكل وتتفاقم لدى الفرد حتى تتكون له حالات سوداوية وبالتالي الانتحار"، يضيف إدريس رفيع، مشيرا إلى أن المقاربة البيولوجية تؤكد على أن غالبا ما تتردد حالات الانتحار في العائلات التي عاشت حالات انتحار من قبل، كما أن الإدمان على المخدرات يجعل الشخص يعيش اضطرابات نفسية وبالتالي التفكير في محاولة الانتحار. وأشار المتحدث ذاته إلى أنه إلى جانب الوضع النفسي هناك عوامل سوسيولوجية لا يمكن أن نستهين بها، مرتبطة بالهشاشة والوضع المزري والبطالة للكثير من الأشخاص من مختلف الفئات العمرية الأمر الذي يدفعهم إلى إنهاء حياتهم بطرق مختلفة، لأنهم غير قادرين على التأقلم مع وضعهم الاجتماعي وخاصة داخل أسرهم، عكس الذين يعيشون حالة استقرار مادي واجتماعي. وأمام تفاقم هذه الظاهرة، اعتبر الباحث في علم النفس، أن الحل يجب أن لا يكون فرديا، بل ينبغي أن يكون جماعيا بإشراك جميع الفاعلين، وجميع القطاعات الحكومية عبر سن برامج للحد من هذه الآفة المقلقة، وذلك من خلال تقريب خدمات القرب تهتم بالصحة النفسية وخلق مراكز للعلاج النفسي بالمستشفيات وقوافل للصحة النفسية من شانها تقريب الخدمات للمواطنين والشباب بالقرى والبوادي، فضلا عن توفير فرص للشغل عبر خلق مراكز اقتصادية تمكنهم من التغلب على المشاكل المادية التي غالبا ما تكون سببا مباشرا في إقدام الأشخاص على الانتحار. ومن جهته، فإن عبد السلام الدامون، رئيس الاستشارية لمقاربة النوع وتكافؤ الفرص بجهة طنجةتطوان، أكد في لقاء مع كاب24 تيفي، على هامش اللقاء الذي نظمته الهيئة الاستشارية مؤخرا بمدينة شفشاون حول النوع والتكافؤ الفرص بالجهة، "ان الهيئة إلى جانب تحدي النوع الجهة والإعاقة، أخذت على عاتقها تحدي آخر هو "النوع – الجهة – الانتحار"، في إطار الورشة الثانية للجهوية المتقدمة، وهي محاور نعتبرها من الأولويات الأساسية، لأن ظاهرة الانتحار بالشمال، تحطم الأرقام وخاصة بمدينة شفشاون إلى جانب مدينة تطوانوطنجة، ولا يعقل أن ننتظر أبنائنا وشبابنا يضيعون من أيدينا بهذه الطريقة". ودعا المتحدث ذاته، أنه لابد من فتح نقاش حقيقي، بإشراك ذوي الاختصاص، بعيدا عن التأويلات التي تفسر بها أسباب الانتحار والتي عادة ما يتم ربطها بعوامل البطالة والقدر والإدمان والفقر، لكن في الحقيقة أن الأمر مرتبط بجميع الحلقات. وأمام تنامي هذه الظاهرة، تساءل الدامون، عن ما هو الحل؟ مجيبا في الوقت نفسه، قائلا: أن الحل يكمن في فتح نقاش حقيقي بحضور الشباب والمدمنين منهم قصد العلاج ، وكما لا يخفى على الجميع بان المدارس اليوم معرضة لنشر ظاهرة الإدمان، ولهذا الغرض فتحنا ورشات في جميع الأقاليم من أجل تحسيس المجتمع المدني والأطفال بالمدارس، والمدبر الترابي له مسؤوليته في محاربة هذه الآفة؛ وذلك بإحداث تصورات في برامج عمله وتخصيص جزء من الميزانية العامة لإحداث مراكز للإنصات والمصاحبة، علما أن مدينة شفشاون لا تملك مثل هذه المراكز، نريد مراكز صحية نفسية، ومجلس الجهة له من الإمكانيات لإحداثها.