إذا كان هناك ما يميز الحضارة الإنسانية في العصر الحالي، فهو نظام التفاهة العالمي؛ الذي يقوم على السخافة والسطحية والوقاحة كمرتكزات أساسية، ويتجسد على شكل آلة عملاقة لتنويم المجتمعات المعاصرة وتدجينها. غير أن هذه القوة الظاهرية التي يبدو عليها نظام التفاهة ليست حقيقية، بل مجرد إبهار خارجي زائف بلا عمق. فهو نظام قابل للتحلل ومحدود المفعول، تمامًا كأثر المخدرات على الأفراد. فكل ما هو فارغ من الداخل ينتهي إلى العدم ومصيره الزوال، لا محالة. في البداية، سيُقبل الناس على استهلاك التفاهة بشراهة كأسلوب من الترفيه والتسلية، وقد يدوم ذلك لفترات تختلف مدتها باختلاف درجات الوعي الفردي والجماعي. لكن الملل سيتسلل إلى النفوس، عاجلا أم آجلا، وسيبدأ العقل الإنساني في رفض المحتويات التافهة في شكل دفاع مناعي ضد كل ما هو سطحي وضحل، فالتفاهة نظام يستهلك نفسه بهذا التكرار لا نهائي لنفس السيناريوهات المبتذلة والرديئة. ومع مرور الوقت، سيولد هذا القصف المستمر نوعًا من الاشمئزاز والسخط، مما سيدفع الناس إلى البحث عن بدائل تحقق الإشباع وتحميهم من الابتذال والإسفاف. وبما أن الحق ثابت ودائم، بينما الزيف زائل، فإن مفعول التخدير سينتهي لا محالة، وسيلجأ الناس إلى المحتويات الهادفة والبناءة القائمة على الحقيقة، المناقضة تمامًا لثقافة السطحية واللامعنى. فالتفاهة باطلة وزائلة وقوتها في غيرها، أما الحق فثابت بذاته وقوي بطبيعته، والطبيعة تقول أنه حينما يضجر المرء من شيء يبدأ في البحث عن بدائل وسط ما يناقضه. نحن نعيش الآن ذروة زمن التفاهة التي وجدت في مواقع التواصل الاجتماعي الجديدة تربتها الخصبة ومنصاتها العتيدة، باعتبارها إعلامًا بديلًا وإعلامًا للقرب. لقد استغل أصحاب مخططات التسطيح نوازع الإنسان الفطرية لاكتشاف كل جديد، فغمرت المنصات الرقمية بالمحتويات الهدامة، وحولوها إلى ماكينة هائلة للتضليل، بغرض خلق رأي عام استهلاكي مغيّب عن الواقع. لكن هذه المرحلة لن تدوم طويلًا؛ فمع تلاشي الانبهار الحالي بمحتويات التفاهة، سيبدأ الأفراد والمجتمعات في ابتكار آليات ذاتية لحماية عقولهم من هذا الخطر الذي يتهدد ثوابتها واستقرارها. حينها سيتضح الغث من السمين، والوهم من الحقيقة، وسندخل دورة جديدة: إما الانتصار للحق والمعنى، وإما إعادة إنتاج التفاهة وفق أنماط جديدة. هذا يتوقف على مستوى الوعي الجماعي المتحصل لدى مختلف شعوب العالم خلال مرحلة ما بعد نظام التفاهة.