بقلم : بيير بيكينين* في كل مكان، ينتهي"الربيع العربي" بالفشل النسبي للمعارضة، وفي كل مكان يظل استقرار الأنظمة قائما، بما فيها أنظمة كل من تونس ومصر، حيث وراء مظاهر التغيير، يظل الأسياد القدامى ممسكين بمقاليد الدولة ومجموع القطاع الاقتصادي بأكمله.
إن "الشباب"الذين كانوا المحرضين على هذه الثورات ورأس حربتها، يجدون أنفسهم عمليا، مستبعدين تماما من المفاوضات (عندما تكون هناك مفاوضات). ذلك أن شعارهم " ارحل "، وهو الشعار الذي تكرر في جميع أنحاء العالم العربي، لا يشكل مطلقا برنامج إصلاحات لدى هذه الحركات، بالإضافة إلى أنها حركات عفوية، وغير منظمة، وبدون تمثيلية. هذا هو ما يفسر السبب في كون، أن مخاوف الولاياتالمتحدة في البداية اختفت بسرعة لتفسح المجال لحالة ارتياح. ومن هنا لم نشهد أي تدخل من طرف واشنطن: فليس هناك ما هو ذو شأن قد تغير في واقع الحال على رقعة الشطرنج العربية الإسلامية، والتي تظل تحت السيطرة. "ما الذي كان يأتي مرارا لفعله هنا السيد جيف فيلتمان (نائب وزير الدولة الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى) لدى الحكومة المؤقتة؟ "تتساءل راضية نصراوي (رابطة حقوق الإنسان في تونس) التي التقيناها في تونس ،" لقد رحل الديكتاتور ، غير أن الديكتاتورية لم تتحرك بعد من مكانها. "
والموقف نفسه نجده لدى الحكومة الإسرائيلية، فعلى الرغم من الاستفادة من الوضع لتنبيه الجمهور وتعزيز الأمن لديها : فمصر "الجديدة"، على سبيل المثال، ستحتج لا محالة بخصوص القضية الفلسطينية وستعيد فتح الحدود مع قطاع غزة. لكنها لن تشن الحرب على أية حال...
في تونس، في الواقع، فإن المعارضة، المنهكة وغير المنظمة، كما هو الحال في كل مكان، بفعل عقدين من المنفى والسجن، لم تنجح في كنس منتسبي سلطة بن علي التنفيذية من إدارة الدولة. أكيد أن الديكتاتور غادر البلاد واستقال رئيس وزرائه. لكن هذا التنفيس لغضب الشعب، وذر الرماد في العيون، مكنا من العودة بهدوء واستعادة السيطرة على الشوارع من قبل الجيش... ذلك أن السكاكين الثانية، وغير المعروفة لدى عامة الناس، استطاعت أن تأخذ مكانها بذكاء. وكما أكدت لنا راضية نصراوي، وحمة الهمامي (حزب العمال الشيوعي التونسي) ومنصف المرزوقي (حزب المؤتمر من أجل الجمهورية)، وهم يشكلون أهم شخصيات المعارضة التونسية، فالمؤسسات التونسية التي كانت في خدمة الدكتاتورية لم يتم تفكيكها، ولا حتى الشرطة السياسية لدى الرئيس زين العابدين بن علي: فهي لا تزال نشيطة وتستمر في رصد وتخويف المعارضين، الذين يخافون على حياتهم..
والوضع مشابه في مصر، حيث يضمن الجيش الحفاظ على النظام، في حين أن جهاز مبارك، الذي لا يزال يمسك بقوة بدواليب الدولة وأدوات التمويل، أعاد تنظيم ذاته من خلال خلق أحزاب جديدة. في مصر أيضا، أسقطت المعارضة التي تناضل من أجل الفوز من الحساب وركنت على هامش السلطة (مع استثناء ملحوظ للإخوان المسلمين، الذين استقبلونا في المقر الرئيسي في القاهرة، فهم الحركة السياسية الوحيدة المهيكلة، التي انضمت بسرعة إلى وزراء الرئيس مبارك السابقين، من أجل تشكيل حكومة معهم، والذين تظل نواياهم على المدى الطويل نوايا غير واضحة و لا مؤكدة). لا تختزن الانتخابات التشريعية المقررة في سبتمبر إذن أية مفاجأة، وهي الانتخابات التي تأتي مبكرة جدا بالنسبة لمعارضة هي بالكاد في بدايات إعادة تشكيل الذات في مصر، كما في وتونس. هكذا ففي تونس، تعتبر "السلطة العليا من أجل تحقيق أهداف الثورة"، وهي الهيئة التي أنشئت لتعويض عدم تمثيلية الحكومة المؤقتة (التي لا تزال تتألف من وزراء اختارهم محمد الغنوشي، رئيس الوزراء السابق المستقيل) مجلسا فوضيا، غير منتخب، بمثابة قوة ضامنة، حريصة على الإسراع في انتخاب "الجمعية الوطنية التأسيسية" المكلفة بوضع مشروع دستور جديد لتونس قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بشكل يسحب البساط من تحت أقدام المعارضة حتى لا يتوفر لها أي وقت لتنظيم الذات في أفق هذه الانتخابات.
لقد تم أخيرا تأجيل انتخاب هذه الهيئة التأسيسية التي كان من المقرر أصلا انتخابها في شهر يوليوز إلى شهر أكتوبر، بناء على طلب المعارضة (وليس بناء على مبادرة من الحكومة المؤقتة التي من شأنها أن تكون حريصة على الاحتفاظ بالسلطة لأطول فترة ممكنة، على عكس ما يفترضه العديد من المراقبين "النابهين"). ولكن هل ستكفي هذه الفترة القصيرة من الوقت الإضافي لتتمكن المعارضة من تنظيم ذاتها والقيام بحملة لمواجهة هذه المؤسسة القوية ( أتباع بن علي )، والتي، كما هو الحال في تونس أيضا، حولت ذاتها واختفت تحت تسميات جديدة؟
ومن المفارقات، فإن "البن عليين" في الحكومة المؤقتة في تونس، وهي البلد الذي ينهار ويغرق في حالة من الفوضى الاقتصادية واستفحال الجريمة، سمحوا لأنفسهم بالإعلان عن برنامج واسع لتنمية التشغيل في المناطق الأكثر حرمانا : أسموه"خطة البوعزيزي " من اسم الشاب الذي كان انتحاره حرقا بالنار سببا في قيام الثورة الشعبية؛ وكما هو الحال دائما، فإن النظام يقوم باسترداد الرموز وتشغيلها ...
في مصر، على العكس، فقد تمت صياغة الدستور"الجديد"في لحظتين وثلاث حركات، من قبل لجنة صغيرة من "الخبراء" عينوا من قبل الحكومة، بمشاركة مكون واحد من مكونات المعارضة تمثل في الإخوان المسلمين، ودعوا إلى التصويت عليه من خلال استفتاء تم تنظيمه هو بدوره بسرعة فائقة يوم 19 مارس2011 : فالمصريون الذين كانوا لا يزالون حينها مشدوهين بفعل سقوط مبارك وواثقين في "الثورة" صادقوا بكثافة على محتوى النص بنسبة 77% من الأصوات. القضية إذن مضمونة بالنسبة لأنصار النظام القديم الذين أصبحوا يستفيدون منذ ذلك الحين، علاوة على ذلك، من التأييد "الديمقراطي"الذي منحهم الاستفتاء إياه...
في الجزائر والأردن أيضا، للغاية، دامت الحركات الاحتجاجية المدة التي تدومها الورود، أي مدة "ربيع عربي". فقد أمكن السيطرة عليها من قبل السلطة، وذلك بفضل وعود غامضة وفضفاضة وكذا بعض التنازلات الطفيفة وانطفأت بذلك تدريجيا.
وهكذا في الأردن، إذا كان الملك عبد الله الثاني قد تعهد بإصلاح المؤسسات، فلم يفعل سوى إعادة ذكر التزامات قطعت في عام 2000، ولم تعرف أبدا أي امتداد على مستوى التطبيق بعد ذلك. وعلى العكس، منذ بداية أعمال الشغب، عين معروف البخيت رئيسا للوزراء، وهو مستشاره العسكري السابق، الذي أشرف على انتخابات عام 2007، وهي أكثر الانتخابات التي عرفها البلد تزويرا، انتخابات لم يفز في نهايتها أي مرشح من المعارضة بمقعد في البرلمان. رئيس الوزراء الجديد، المسؤول عن تنفيذ "الإصلاح السياسي الحقيقي" صرح على الفور أن العملية ستكون "بطيئة وتدريجية" وستكلف زمنيا "زمن جيل بأكمله"..
أما بالنسبة لممالك شبه الجزيرة العربية، فيبدو أنها سلمت من "الموجة الثورية." البحرين وحدها شكلت استثناء. وقد تم سحق المعارضة في الدم، بمساعدة الجيش السعودي والموافقة الضمنية للولايات المتحدة التي تشغل في البلاد قاعدة عسكرية تؤوي الأسطول الخامس وأكثر من ثلاثة آلاف جندي (وبطبيعة الحال، فقد احتج البيت الأبيض بفتور، لكن مثل هذه الاحتجاجات لا تغير مسار الأحداث، بل تساهم في زيادة "القوة الناعمة" للولايات المتحدة في المنطقة ...).
في اليمن، وفي مواجهة خطر "صوملة" البلاد، حاول مجلس التعاون لدول الخليج وسعى لجلب بعض مظاهر الاستقرار وراهن على صرامة الرئيس علي عبد الله صالح (أو، بدلا من ذلك،على النظام الذي أقامه)، غير أن حرب العشائر انزلقت في مستنقع خصومات الخلافة التي حلت محل الثورات التي تلاشت فيها المطالب الاجتماعية وانتقلت منذ ذلك الحين إلى المرتبة الثانية.
الحرب القبلية تم استدعاؤها أيضا في ليبيا، حيث اختارت فرنسا وحلفاؤها، في إطار منطق استعماري جديد واضح وشبه انتهاك كلي للقانون الدولي (على الأقل إطار قرار مجلس الأمن بالأمم المتحدة لسنة 1973)، اختارت دعم قادة التمرد، الذين هم مع ذلك وزراء "قذافيين" سابقا، و الذين بالكاد وبصعوبة يمكن اعتبارهم ديمقراطيين، بدءا من رئيس المجلس الوطني الانتقالي ذاته، مصطفى عبد الجليل : وزير العدل لدى القذافي، فهو الذي حكم بالإعدام على خمس ممرضات بلغاريات في القضية التي نعرفها ... لقد اختار حلف شمال الأطلسي إذن هذا الطرف ضد الطرف الآخر، وشارك في حرب مدنية فعلية مدعما فيها أحد الطرفين بطريقة فعالة، وذلك من خلال القصف الكثيف، الذي تسبب بالفعل في وفاة العديد من المدنيين (وتجدر الإشارة هنا إلى أن القرار 1973 أذن باستخدام القوة لحماية المدنيين، وليس لمساعدة التمرد المسلح لإسقاط واستبدال حكومة دولة ليبيا). هل هذا هو "الربيع العربي"؟ سوريا فقط، وربما، في الوقت الذي ننشر فيه هذا التحليل، تبدو في وضعية غير مؤكدة، على الرغم من أن حكومة الرئيس بشار الأسد، الذي يتمتع بالدعم التام والكامل للجيش، قد اختارت الغلظة والصرامة، ويبدو أنه في الطريق لسحق الاحتجاجات، دون أن يجد أحد ما في ذلك، مع ذلك، ما يمكن أن يقوله...وربما كانت عودة دمشق وتقاربها مع المملكة العربية السعودية (حليف رئيسي للولايات المتحدة)، وهذا بتحريض من هذه الأخيرة. *أستاذ التاريخ والعلوم السياسية بالمدرسة الاوربية ببروكسيل.