إنذار جوي يدفع تطوان إلى استنفار شامل    افتتاح كأس إفريقيا للأمم 2025.. فتح أبواب ملعب مولاي عبد الله من الثانية ظهرًا وإحداث مكاتب قضائية بالملاعب    المغرب يفتتح العرس الإفريقي بتنظيم محكم ورسائل حازمة للجماهير    "الأحرار" يعزّي في ضحايا آسفي وفاس    تدخل إنساني واسع لمواجهة التساقطات الثلجية الاستثنائية بورزازات    فتح الله ولعلو يوقّع بطنجة كتابه «زمن مغربي.. مذكرات وقراءات»    غزة.. وفاة أكثر من ألف مريض وهم ينتظرون إجلاءهم الطبي منذ منتصف 2024    حموشي يمنح ترقية استثنائية لشرطي وافته المنية في حادثة سير بأكادير    توقيف الشخص الذي ظهر في شريط فيديو يشكك في الأرقام الرسمية الخاصة بحصيلة ضحايا فيضانات أسفي    المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان تنظم ورشة تحسيسية للصحفيين بالشمال حول تغطية التظاهرات الرياضية الكبرى واحترام حقوق الإنسان    تنظيم الدورة السابعة عشر من المهرجان الوطني لفيلم الهواة بسطات    بلمو يحيي امسيتين شعريتين بسلا    افتتاح «كان» المغرب... عرض فني باهر يزاوج بين الهوية المغربية والروح الإفريقية    8 ملايين دولار القيمة الإجمالية لمشاريع وكالة بيت مال القدس الشريف برسم سنة 2025    هل تنجح فرنسا في تقنين وصول القاصرين إلى شبكات التواصل الاجتماعي؟    توقيف هولندي بميناء طنجة المدينة بموجب مذكرة بحث دولية    مجلس الحكومة يتدارس الدعم الاجتماعي ومشاريع مراسيم جديدة الثلاثاء المقبل    هاتوا الكأس للمغرب    الشجرة المباركة تخفف وطأة البطالة على المغاربة    الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والدولة الاجتماعية    تساقطات ثلجية وأمطار قوية أحيانا رعدية وطقس بارد من اليوم الجمعة إلى الاثنين المقبل بعدد من مناطق المملكة (نشرة إنذارية)    أخبار الساحة    جلالة الملك يهنئ أبطال العرب ويشيد بالجماهير المغربية    تكريم الوفد الأمني المغربي في قطر    رئاسة النيابة العامة تؤكد إلزامية إخضاع الأشخاص الموقوفين لفحص طبي تعزيزا للحقوق والحريات    إحباط محاولة تهريب كمية مهمة من "المعسل" ومكملات غذائية بميناء طنجة المتوسط    إنفانتينو يهنئ المغرب بلقب كأس العرب    بعد جدل منصة التتويج.. لاعب المنتخب الأردني سليم عبيد يعتذر لطارق السكتيوي    ترامب: لا نستبعد خيار العملية العسكرية ضد فنزويلا    في أداء مالي غير مسبوق.. المحافظة العقارية تضخ 7.5 مليارات درهم لفائدة خزينة الدولة        تقلبات جوية وأجواء باردة تهم عدة جهات    لحسن السعدي يترأس اجتماع مجلس إدارة مكتب تنمية التعاون    وجدة .. انخفاض الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك    توقيف الأستاذة نزهة مجدي بمدينة أولاد تايمة لتنفيذ حكم حبسي مرتبط باحتجاجات "الأساتذة المتعاقدين"    الكاف يعلن عن شراكات بث أوروبية قياسية لكأس أمم إفريقيا    أسماء لمنور تضيء نهائي كأس العرب بأداء النشيد الوطني المغربي    العاصمة الألمانية تسجل أول إصابة بجدري القردة    كالحوت لا يجتمعون إلا في طاجين !    البورصة تبدأ التداولات على وقع الأخضر    الشرطة الأمريكية تعثر على جثة المشتبه به في تنفيذ عملية إطلاق النار بجامعة براون    تقرير: المغرب من أكثر الدول المستفيدة من برنامج المعدات العسكرية الأمريكية الفائضة    زلزال بقوة 5.7 درجات يضرب أفغانستان    انخفاض الذهب والفضة بعد بيانات التضخم في الولايات المتحدة    استمرار تراجع أسعار النفط للأسبوع الثاني على التوالي    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    هياكل علمية جديدة بأكاديمية المملكة    حمداوي: انخراط الدولة المغربية في مسار التطبيع يسير ضد "التاريخ" و"منطق الأشياء"    الدولة الاجتماعية والحكومة المغربية، أي تنزيل ؟    السعودية تمنع التصوير داخل الحرمين خلال الحج    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    7 طرق كي لا يتحوّل تدريس الأطفال إلى حرب يومية    سلالة إنفلونزا جديدة تجتاح نصف الكرة الشمالي... ومنظمة الصحة العالمية تطلق ناقوس الخطر    التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العدالة الانتقالية في المغرب: من تدبير الماضي إلى هندسة المستقبل السياسي


عبد السلام بوطيب *
استهلال:
يأتي هذا المقال في سياق مسار فكري ومؤسساتي متواصل، انشغلتُ خلاله، كتابةً وممارسةً، بمساءلة الأسئلة العميقة التي أثارتها التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية، سواء داخل فضاءات النقاش العمومي أو من خلال المسؤوليات التي اضطلعتُ بها ضمن هيئات ومؤسسات متخصصة.
وقد أتاح المهرجان الدولي للسينما والذاكرة المشتركة بالناظور، ولا سيما في دورته الأخيرة، بما راكمه من نقاشات نوعية ومداخلات رفيعة، وبما وفّره من حوارات معمّقة مع فاعلين وخبراء دوليين، لحظةً تأملية مكثفة، استدعت إعادة طرح أسئلة قديمة بصيغ جديدة، والنظر في التجربة المغربية خارج منطق الاكتمال أو الإغلاق.
ومن هذا المنطلق، وباستحضار منطق التراكم الضروري لبناء ديمقراطية قائمة على المساءلة والمؤسسات، يسعى هذا المقال إلى الإسهام في تعميق القراءة السياسية والفكرية للتجربة، عبر تفكيك شروط انتقالها من تدبير ماضي الانتهاكات إلى أفق أوسع لهندسة المستقبل السياسي، بما يعزّز دولة الحق والقانون ويُرسّخ المكتسبات الديمقراطية.
======
بعد ما يقارب اثنين وعشرين سنة على انطلاق تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، يتيح السياق السياسي والمؤسساتي الراهن الانتقال من منطق التدبير الظرفي لماضي الانتهاكات إلى منطق التثبيت الاستراتيجي لمكتسبات التجربة ضمن هندسة الدولة الحديثة.
فقد تأسست التجربة المغربية على خيار الإصلاح في إطار الاستمرارية، لا على منطق القطيعة أو الانهيار المؤسساتي، وهو ما أضفى عليها خصوصية منهجية ومرونة مؤسساتية مكّنت من معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في سياق يحافظ على استمرارية الدولة ويواكب متطلبات التحول الديمقراطي.
ومن هنا، لم تكن العدالة الانتقالية في المغرب مجرّد آلية استثنائية مرتبطة بزمن هيئة الإنصاف والمصالحة ، بل شكّلت منهجية سياسية وحقوقية أوسع، اضطلعت بثلاث وظائف مترابطة: كشف الحقيقة وجبر الضرر، إصلاح المؤسسات بما يضمن عدم التكرار، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، في أفق دعم مسار دمقرطة الدولة والمجتمع معًا.
وقد أفرز هذا الاختيار الذي تجاوبن معه كل الحركة الحقوقية المغربية، وعلى راسها حركة الضحايا، أثرًا تراكميًا تجلّى، على الخصوص، في تعزيز أدوار المؤسسات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان، وفي ترسيخ مبدأ عدم التكرار كمرجعية مؤطرة للسياسات العمومية. كما تُرجم هذا التوجه في جملة من الإصلاحات الأمنية والمؤسساتية التي استلهمت توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وهمّت إعادة تأطير العقيدة الأمنية، وتعزيز آليات الرقابة القانونية والمؤسساتية على عمل الأجهزة، وتوسيع ضمانات الحقوق والحريات، بما أسهم في إدماج مبدأ عدم التكرار ضمن الممارسة المؤسساتية.
وفي المقابل، أبانت التجربة أن الاعتراف بالحقيقة، على أهميته الرمزية والسياسية، لا يكفي بمفرده لإنتاج ذاكرة ديمقراطية مستقرة، إذ تظل هذه الذاكرة قابلة لإعادة التوظيف داخل منطق المظلومية أو الصراع، بما قد يؤثر في منسوب الثقة وفي استدامة الاستقرار، ما لم تُواكب ضمن إطار مؤسساتي تعددي يضمن حكامتها كسياسة عمومية مستدامة.
وفي هذا السياق، يكتسي الخطاب الملكي السامي الموجَّه سنة 2024 إلى المشاركات والمشاركين في الندوة الدولية المنعقدة بمناسبة الذكرى العشرين لانطلاق تجربة العدالة الانتقالية دلالة استراتيجية خاصة، إذ أكّد الانتقال من منطق الآلية الاستثنائية إلى منطق المرجعية المندمجة داخل الدولة الحديثة، وأعاد تثبيت العدالة الانتقالية باعتبارها اختيارًا مؤسساتيًا مستمرًا، مرتبطًا بترسيخ دولة الحق والقانون وضمان عدم التكرار.
أولًا: العدالة الانتقالية – من الإجراء إلى المنهج السياسي:
في الأدبيات الدولية، تُعرَّف العدالة الانتقالية باعتبارها إطارًا من السياسات العمومية والآليات المعيارية التي تعتمدها الدول لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال فترات التحول السياسي. وهي، بهذا المعنى، لا تُختزل في لجان أو هيئات ظرفية، بل تُفهم بوصفها منهجية سياسية وحقوقية، واختيارًا معياريًا يعيد تعريف علاقة الدولة بماضيها، وبمشروعية سلطتها، وبمواطنيها.
وعليه، لا تُعدّ العدالة الانتقالية غاية في ذاتها، ولا مرادفًا للمصالحة، بل تشكّل منهجية من بين مناهج بناء المصالحة وتأطيرها. فهي الإطار الذي تُدار من خلاله عملية مواجهة الماضي وبناء المستقبل في آن واحد. كما أن اعتماد هذا المنهج، بدل غيره من مقاربات تدبير الماضي، لا يُمثّل اختيارًا تقنيًا محايدًا، بل رهانًا سياسيًا على الأثر المبتغى، يتمثل في دمقرطة الدولة والمجتمع معًا، وإعادة تأسيس قواعد الشرعية والثقة على المدى المتوسط والبعيد.
ثانيًا: المصالحة والعدالة الانتقالية – تمييز مفاهيمي ضروري:
يُعد الخلط بين المصالحة والعدالة الانتقالية من أبرز مصادر الالتباس في النقاش العمومي. فالمصالحة فعل سياسي سيادي، محكوم بزمن محدد، وتغالبا ما تُدار عبر هيئة أو إطار مؤسساتي مؤقت. أما العدالة الانتقالية، فهي منهجية ممتدة، تُعتمد لبناء المصالحة في مراحلها الأولى، وتستمر بعدها في مواكبة تنفيذ توصياتها، وإدماج خلاصاتها داخل السياسات العمومية والمؤسسات، ضمن مسار طويل لدمقرطة الدولة والمجتمع معًا. فالذي ينتهي هو زمن الإجراء، لا زمن المنهج.

ثالثًا: الخصوصية المغربية – عدالة انتقالية بإرادة سيادية وتوافق تاريخي:
تكتسي التجربة المغربية خصوصيتها من كونها لم تُبنَ على منطق القطيعة أو الانهيار المؤسساتي، بل على خيار الإصلاح في إطار الاستمرارية. فقد أُطلق مسار العدالة الانتقالية بإرادة سيادية، واعية بحساسية الملف وكلفته السياسية، وأُدير ضمن مؤسسات الدولة، في تفاعل مع الحركة الحقوقية وحركة الضحايا، وفي سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد.
وقد شكّل هذا الخيار قرارًا سياسيًا محفوفًا بالمخاطر، واجه مقاومات داخلية ومنطقًا تقليديًا كان يفضّل تدبير الماضي بالصمت أو بالمقاربة الأمنية. غير أن الرهان لم يكن على إغلاق ملف، بل على إعادة تأسيس علاقة جديدة بين الدولة وذاكرتها، تقوم على الاعتراف دون تقويض، والإنصاف دون انتقام، والإصلاح دون فوضى.
وفي هذا السياق، شكّلت هيئة الإنصاف والمصالحة إحدى الصيغ المؤسسية لمرحلة المصالحة، دون أن تختزل أفق العدالة الانتقالية في وجودها الزمني أو في ولايتها المحددة.

رابعًا: الوظيفة – ماذا أُريد للعدالة الانتقالية أن تفعل؟
يمكن تلخيص الوظائف التي اضطلعت بها العدالة الانتقالية في التجربة المغربية في ثلاثة مستويات مترابطة: كشف الحقيقة وجبر الضرر بما يضمن الاعتراف والإنصاف؛ إصلاح المؤسسات بما يحدّ من إمكان تكرار الانتهاكات؛ ودمقرطة الدولة والمجتمع معًا عبر إعادة تأسيس الثقة.
ولا تُفهم هذه الوظائف في بعدها الحقوقي الصرف، بل بوصفها خيارًا سياسيًا ومؤسساتيًا يندرج ضمن تصور شامل لتدبير التحول وبناء الشرعية على المدى المتوسط والبعيد.

خامسًا: الأثر – من الآلية إلى المرجعية المندمجة:
إذا كانت الوظيفة تُقاس بما سعت العدالة الانتقالية إلى تحقيقه، فإن الأثر يُقاس بما تغيّر فعليًا داخل بنية الدولة. ولا يُقصد بالأثر هنا علاقة سببية خطية، بل مسارًا تراكميًا أسهمت فيه العدالة الانتقالية بوصفها إطارًا مرجعيًا موجّهًا، من خلال إدماج مبادئها في النصوص الدستورية، والهندسة المؤسساتية، والاختيارات العمومية ذات الصلة بحقوق الإنسان والحكامة.
وقد بلغ هذا الأثر إحدى لحظاته المفصلية بدسترة عدد من التوصيات الجوهرية الصادرة عن هيئة الإنصاف والمصالحة، بما شكّل انتقالًا نوعيًا من منطق التوصية الحقوقية إلى منطق الإلزام الدستوري. فقد كرّس دستور 2011 سمو حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليًا، وحظر التعذيب والاعتقال التعسفي، وضمان قرينة البراءة والمحاكمة العادلة، بما يجعل مبدأ عدم التكرار التزامًا دستوريًا لا مجرّد إعلان نوايا.
كما نصّ الدستور على استقلال السلطة القضائية، ومنع التدخل في القضايا المعروضة على القضاء، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وهي عناصر تلتقي في جوهرها مع توصيات الهيئة المتعلقة بإصلاح منظومة العدالة والحدّ من الإفلات من الانتهاكات البنيوية. وإلى جانب ذلك، تم تعزيز حكامة الدولة عبر دسترة مؤسسات وطنية لحماية حقوق الإنسان والحكامة، وفي مقدمتها المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة الوسيط، وترسيخ الحق في الوصول إلى المعلومة، بما يسهم في تفكيك منطق السرية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
وفي السياق نفسه، تجلّى الأثر التراكمي للعدالة الانتقالية في إصلاحات متدرجة همّت مجال التدبير الأمني، لم تتخذ شكل تفكيك الأجهزة أو إعادة تأسيسها، بل انصبت على إعادة تأطير العقيدة الأمنية ضمن منطق دولة الحق والقانون. وقد تم الانتقال تدريجيًا من مقاربة تُغلّب منطق أمن الدولة إلى مقاربة تُعيد مركزية أمن المواطن، عبر تعزيز الضمانات القانونية المؤطرة للعمل الأمني، وتكثيف الرقابة القضائية على إجراءات الحرمان من الحرية، وتقوية دور النيابة العامة في تتبع شروط الحراسة النظرية والشكايات المرتبطة بسوء المعاملة.
كما شملت هذه الإصلاحات إدماج مبادئ حقوق الإنسان في التكوين الأساسي والمستمر لمختلف المتدخلين في المجال الأمني، وتطوير آليات الشفافية والتواصل، وفتح قنوات مؤسساتية لتلقي الشكايات والمساءلة، بما أسهم في تقليص منطق الحصانة المطلقة وإدخال العمل الأمني ضمن دائرة المحاسبة القانونية والمؤسساتية. وبهذا المعنى، لم يكن إصلاح القطاع الأمني مسارًا تقنيًا معزولًا، بل أحد تجليات ضمانات عدم التكرار، وركنًا أساسيًا في الانتقال من منطق الآلية الاستثنائية إلى منطق المرجعية المندمجة في بنية الدولة الحديثة.

سادسًا: الذاكرة – من الاعتراف إلى الحكامة:
أظهرت التجربة أن الاعتراف بالحقيقة، على أهميته الرمزية والسياسية، لم يظل في الحالة المغربية حبيس هذا البعد الرمزي، بل اتخذ أشكالًا مؤسساتية وقانونية أسهمت في إدراج الماضي ضمن أفق الإصلاح وضمانات عدم التكرار. غير أن هذا التحول، على أهميته، لا يكفي بمفرده لإنتاج ذاكرة ديمقراطية مستقرة، إذ يظل الانتقال من الاعتراف إلى بناء ذاكرة مشتركة رهينًا بقدرة مختلف الفاعلين على استيعاب مطالب الحق في الذاكرة ضمن منطق العدالة الانتقالية والمؤسسات.
فالمشكلة، في هذا السياق، ليست في الذاكرة ذاتها ولا في مشروعية مطالبها، بل في فصلها عن مسار التراكم الديمقراطي، وتحميلها رهانات تتجاوز وظيفتها الأصلية باعتبارها رافعة للإنصاف والتعلّم الجماعي. ومن هنا تبرز الحاجة إلى الانتقال من تدبير الذاكرة باعتبارها ملفًا حقوقيًا إلى حكامتها كسياسة عمومية مستدامة، قوامها التعليم، والإعلام العمومي، والسياسات الثقافية والترابية، بما في ذلك تفعيل توصية هيئة الإنصاف والمصالحة المتعلقة بتدريس ما اصطلح عليه بالتاريخ الراهن، وهو مسار أفرز اليوم أجيالًا من المتخصصين والخريجين المدعوين إلى الاضطلاع بأدوارهم بمسؤولية علمية ومنهجية، بما يعزّز إدماج الذاكرة في الفضاء العمومي على أسس معرفية رصينة، في أفق بناء إطار مشترك للذاكرة يحترم التعدد، ويُسهم في تعزيز الثقة، ويجعل من الذاكرة عنصرًا داعمًا للديمقراطية بدل أن تكون مجالًا للتوتر أو الانقسام.

سابعًا: دولة العدالة الانتقالية ومعالجة الملفات الحقوقية الراهنة:
في هذا الإطار، تبرز مسألة بالغة الدقة تتعلق بكيفية التعاطي مع الملفات الحقوقية التي يعتبر أصحابها أنها ما تزال تنطوي على تجاوزات قانونية أو قضائية أو سياسية. فاستمرار وجود مطالب أو ادعاءات من هذا القبيل لا يُعدّ، في حد ذاته، دليلًا على فشل العدالة الانتقالية، بل يعكس طبيعة هذا المسار بوصفه منهجية دولة ممتدة لمعالجة التوترات والاختلالات داخل منطق المؤسسات.
غير أن معالجة هذه الملفات لا تستقيم عبر الدعوة إلى إعادة إنتاج منطق الآليات الاستثنائية أو إحداث هيئات موازية جديدة للإنصاف والمصالحة، لأن من شأن ذلك إفراغ العدالة الانتقالية من بعدها البنيوي وتحويلها إلى مسار دائري لا ينتهي. فالدولة التي اختارت العدالة الانتقالية كإطار مرجعي، مدعوة إلى إدراج هذه الملفات ضمن منطقها المؤسساتي العادي، عبر القضاء، ومؤسسات الحكامة، وآليات الإنصاف المتاحة، في أفق الإصلاح والتصحيح، لا في أفق الاستثناء الدائم.
ومن هذا المنظور، لا تُقاس قوة دولة العدالة الانتقالية بعدد الهيئات التي تُنشئها، بل بقدرتها على استيعاب المطالب الحقوقية داخل بنيتها القانونية والمؤسساتية، وتحويلها من عناصر توتر إلى فرص لتعزيز الثقة وتكريس مبدأ عدم التكرار.

ثامنًا: من زمن معالجة الماضي إلى زمن منهج تدبير المستقبل:
ينشأ الالتباس حين يُنقل منطق الزمن الخاص بالمصالحة، بوصفها تدبيرًا سياسيًا محدّدًا زمنيًا، إلى العدالة الانتقالية باعتبارها منهجية ممتدة لبناء المستقبل الديمقراطي. فبينما تُدار المصالحة بمنطق البداية والنهاية، تُدار العدالة الانتقالية بمنطق الاستمرارية والتحول البنيوي، بما يجعلها إطارًا مرجعيًا مفتوحًا على التراكم والتصحيح وإعادة التثبيت.
ومن هذا المنظور، فإن الإصلاحات، وتدبير الذاكرة، وتلبية الانتظارات الحقوقية تظل مسارات بطبيعتها غير مغلقة، تتطلب تفاعلًا هادئًا ومسؤولًا بين المجتمع ومؤسسات الدولة، بعيدًا عن منطق الإغلاق أو إعادة إنتاج الصراع. وفي هذا السياق تحديدًا، تكتسب الإشارات المرجعية الكبرى، وعلى رأسها الخطاب الملكي الموجَّه بمناسبة الذكرى العشرين لانطلاق تجربة العدالة الانتقالية، دلالة تتجاوز منطق الاستذكار الرمزي إلى منطق التثبيت المنهجي، بما يبرّر مقاربته والاحتفاء به بالروح نفسها التي وسمت خطاب التأسيس، لا بوصفه إعلانًا لنهاية مسار، بل تأكيدًا على استمراريته وأفقه المستقبلي.

خاتمة :
تُبيّن هذه القراءة أن العدالة الانتقالية في المغرب لا يمكن اختزالها في زمن مؤسساتي منتهٍ، ولا تثبيتها كمرحلة مكتملة أو محصّنة من النقد، بل ينبغي إدراكها بوصفها اختيارًا سياديًا تراكميًا تشكّل داخل شروط تاريخية وسياسية معقّدة، وانتقل من منطق الهيئة والآلية الاستثنائية إلى منطق المنهج والمرجعية المندمجة في هندسة الدولة الحديثة.
فقوة هذه التجربة لا تكمن في الادّعاء بالكمال، ولا في إدامة هيئة أو مسار رمزي، بل في قدرتها على تحويل الماضي إلى مورد إصلاحي مستمر، يؤسّس للثقة، ويُحصّن المؤسسات، ويجعل العدالة الانتقالية إطارًا حيًا لتأطير المستقبل، لا مجرّد جواب عن الماضي.
(*) رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم،
نائب رئيس سابق للمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف-المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.