ساهمت تربية الملك الراحل في بناء شخصية معقدة، جالس صاحبها منذ السنوات الأولى من عمره كبار شخصيات العالم، وكان له تأثير كبير على مجريات الأحداث الدولية. غدا: لماذا هذا الكتاب عن الحسن الثاني؟ المثير للاستغراب أكثر، ربما، هو أن اليمين الفرنسي، أو على الأقل اثنيْن من بين ممثليه الأقرب إلى الملك الراحل، هما اللذان لخصا بصورة أفضل ما قدمه هذا الأخير للمغرب: الأول هو شارل باسكوا الذي اعتبر أن الحسن الثاني «قام بأعمال كبيرة، واستطاع أن يمكن بلاده من مؤسسات قوية»؛ والثاني هو فاليري جيسكار ديستان، «صديقه» الذي صرح بأنه «رجل استثنائي أعطى للمغرب شكلا ودورا ونظاما سياسيا».وبالفعل، فلا أحد يجادل في كوْن الحسن الثاني قد قام بتعزيز المؤسسة الملكية معتمدا، خلال المرحلة الأولى من حكمه، على الحظ و«البَرَكَة»، وفي المرحلة الثانية على لعبه بالطبقة السياسية التي عرف كيف يستعملها، في الوقت الذي كانت فيه هي راضية، إلى هذا الحد أو ذاك، داخل ملكية مطلقة ليست لقواعد اللعبة فيها أية علاقة بالقواعد المعمول بها في الديمقراطيات. ومن باب المفارقة أن هذا الرجل، الذي طالما تصرف بطريقة قاسية، سواء مع معتقلي تازمامارت، أو عائلة أوفقير، أو ضحايا آخرين منسيين من طرف الجميع، قد نجح في الحفاظ على صورة جيدة داخل المغرب وخارجه. فبعد مرور عشر سنوات على رحيله، هناك أعداد متزايدة من المغاربة والأجانب الذين يتأسفون لكون المغرب لا يقوده رجل دولة يمكن أن يؤثر على بعض القرارات التي تعرفها السياسة الدولية والجهوية، أو أن يلعب دور الوسيط بما يعود بالنفع. ذلك لأن الحسن الثاني، وخلافا لطاغية دموي لا يرحم، مثل صدام حسين، أو لدكتاتوريين قصيري النظر كثيرين عرفهم العالم، كان شخصية مركبة. فقد كانت مرحلة طفولته وشبابه كأمير مدلل، والاهتمام الكبير الذي أولاه والده لتربيته، وكذا اللقاءات المثيرة التي كان يعقدها الأمير الشاب مع كبار العالم، ومع هيئة تدريس ذات مستوى عال، كل هذا ساهم في تشكيل شخصية غنية، تتجاوز بسنوات ضوئية شخصية واحد مثل زين العابدين بنعلي الأمي. فبفضل الرعاية المتناهية التي أولاها إياه وزير داخليته الأسبق، إدريس البصري، بات الملاحظ، سواء أكان مؤرخا أو كاتبا أو صحافيا، ل«سجل العبقرية الحسنية»، أنه يحتوي، في صفحاته التي تبلغ 10.000 صفحة، مجموع خطب الحسن الثاني وحواراته منذ أن كان وليا للعهد إلى أن بات ملكا للمغرب طيلة 38 سنة. والمتصفح لهذا السجل «الفريد والغني» لا يمكنه بالفعل إلا أن يبتسم، وهو يكتشف، في بدايته، ألبوما لصور الأمير وهو «يمتطي دراجته وتصدر عنه ضحكة تعكس براءة الطفولة»، أو صورة الأمير المراهق الذي يعترف بأنه ينظم قصائد شعرية كان يعمد إلى «تمزيقها» لأنها لم تكن «تعجبه». ومع ذلك، فإن هذا السجل ينطوي على قيمة معلوماتية كبيرة. فمنذ سنة 1947، بمدينة طنجة، عبر الأمير الشاب عن طموحات نبيلة في خدمة الأسرة العلوية الحاكمة قائلا:«إذا كان هناك من بين الملوك من ينصرف لملذات الحياة، تاركين رعاياهم يغرقون في الجهل وينغمسون في أغلال البؤس، فإن ملككم يعمل لتنعموا بحقكم في الحياة، باعتباركم شعبا مسلما وعربيا، ولا يرضى بديلا عن الإسلام والعروبة». وفي يوليوز من سنة 1948، وبمناسبة نجاحه في الشطر الثاني من شهادة الباكالوريا، أشاد بالحداثة التي عبر عنها والده الذي جعل من أخته للا عائشة مثالا يُحتذى به للفتاة المغربية المتحررة، واضعا بذلك قضية تعليم البنات في سياقها الحقيقي، ومنبها إلى أن مبادئ الشريعة الإسلامية لا تمنع نصف الأمة المحمدية من اكتساب المعرفة والاستنارة بنور العلوم والمعارف. وبقدر ما تمضي السنوات، وإذا لم تكن تتبدى للمرء ملامح مذهب حقيقي بناه الحسن الثاني، فإنه على الأقل يرى الخطوط الكبرى لمشروع سياسي بالنسبة إلى المغرب. وقد أجملت كتبه الثلاثة الرؤية الحسنية: «التحدي»، سنة 1976، «ذاكرة ملك»، سنة 1993، و«عبقرية الاعتدال»، الصادر بعد وفاته. غير أن هذه الخطب والحوارات، المجموعة بعناية من طرف موثقي سي إدريس لا تعكس سوى جزء من الحقيقة. أما الأرشيفات التي تتوفر عليها إدارة الدولة الأمريكية، والتي كان بالإمكان الاطلاع عليها إلى حدود سنة 1974، ورغم أنها مبتورة من العديد من الوثائق التي لها صلة بالقضايا «الحساسة»، فإنها تزخر بمعلومات غنية تهم القواعد العسكرية الموجودة بالمغرب