بعيدا عن المدن الكبرى، وعن المركبات السياحية المصنفة، وعن زحمة المرور للوصول إلى مكان لتناول العشاء، وقع اختياري على مدينة صغيرة في الاسم على المحيط الأطلسي، وكلنها كبيرة الهامة في الضيافة للباحثين عن مهرب من زحمة سنة كاملة من التعب في العاصمة الرباط، المدينة الكبيرة الحجم وكبيرة المعاناة مع المرور يوميا خلال التنقلات. في زقاقات أصيلة لا يزال بالإمكان الاستماع إلى أم كلثوم بالقرب من خطاط الحي العتيق في أصيلة، وإلى فيروز لدى بائع الأشرطة قرب الجدار التاريخي، وإلى وردة غير بعيد عن مقهى علي حيث لشرب الشاي على الطريقة المتبعة في شمال البلاد لإعداد الشاي الأخضر مذاق خاص، ولا تستيقظ المدينة إلا متأخرا لأنها لا تنام إلا عندما يأتي الصباح، فالليل في هذه المدينة الأطلسية هدوء يغري بالسمر في نسج خيوط الحكايات على الكورنيش.
من خلال قربي الذي أصفه بالروحي من أصيلة، تعرفت إلى أصدقاء أرفع الرأس فخرا بكوني صديق لهم، يملئون الجلسة حديثا شيق المذاق خاصة إذا السمك الطري متوفرا والطباخ ماهر الصنعة، فمولاي محمد العربي لا يتوانى في سرد محكيات أصيلة من القديم إلى الجديد، ليؤكد أنه الماهر في الحكي على إيقاع مختلف عقارب الأزمنة وإن تغيرت فالرجل لا يزال صداح الصوت وكثير البوح، ومع تجاوز الساعة العاشرة ليلا بتوقيت أصيلة، يلتحق السيد المتخصص في السرديات من الشعر للرواية فالتعليق على أحداث مدينة أصيلة وتحليل الحراك الذي وصلت حماه إلى المدينة الصغيرة المتطلعة بدورها للتغيير على إيقاعها الخاص.
وفي جلسات أصيلة التي من الممكن أن تمتد لأوقات متفرقة خلال النهار، يمارس الزيلاشي الفرانكفوني، رشيد مرون، صمته قبل الحديث أو التعليق أو الدعوة لتغيير الموضوع، فالوقت صيف والتوقيت إجازة، ويجب إعادة تدوير الرأس بعيدا عن هموم السنة ورهاناتها، خاصة عندما يطيل السيد الجوردي في استعراض عضلاته بين شعراء الأمس العتيق واليوم القريب، ليقدم النادل بقية الطلبية من طازج السمك المحلي، وشخصيا لا تتوقف مطالباتي للحلزون البري والبحري.
الباحثون عن إجازة للاستراحة وممارسة التمشي والتحديق بين العابرين والعابرات والتخلص ولو مؤقتا من الحواضر الكبيرة، مدينة أصيلة تنتمي إلى المصطافات الصيفية التي تلبي الغرض على إيقاع من الأصالة، فهي الفاتحة للأبواب أمام الداخلين إليها بأمان للاستمتاع بجدارياتها ومنازلها المصبوغة في الغالب بالأبيض والأزرق الزيلاشي المتفرد، وبين زقاقاتها الملتوية مهرب للقاصدين طريقا صوب "القريقية" وهي برج بحري يطل مباشرة على أمواج المحيط الأطلسي، وللعائلات التقليدية في أصيلة طقوس مرعية خلال يوميات المدينة، ففي كل صباح لا بد أن ترفع رجليك للهروب من مياه التنظيف، ولا بد أن تهاجم أنفك روائح طهي السمك، ولا بد أن تغرق في زحمة شارع الحسن الثاني حيث محلات البيع والشراء والنساء البدويات بشاشية الصيف المحلية الصنع، يقدمن لسكان أصيلة البيض البلدي والجبن والتين ولبن يفوز به المبكرون في الاستيقاظ باكرا صباحا.
وأصيلة تنتمي إلى المدن التي لا يزال الحي العتيق فيها لم يكشف كل أشراره بالرغم من الحاجة الماسة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التفاتة لترميم الجدار التاريخي وإعادة فتح الأجزاء التي لا تزال مغلقة منذ عقود، ومدينة أصيلة كما يقول أهلها ليست الحي العتيق فقط، ولكنها الأحياء الجديدة التي لم تستكمل إعادة تهيئتها وسكان أحياء صفيحية يعيبون جمالية المدينة، وللمدينة محبوها الكثر من كل مكان قصي في المغرب أو في خارجه يريدونها كل سنة أكثر تأنقا وأنا واحد منهم أريد أن تتوجه أصيلة صوب المستقبل أكثر أصالة، فهي المدينة القريبة من الموصوفة بعاصمة البوغاز مدينة طنجة، إلا أن لأصيلة صيت عالمي أكبر على مقياس السمعة.