ما تبينت حقيقة المشاعر التي انتابتني حين سمعت وقرأت عن خبر الفاجعة التي حلت مؤخرا بمدينتنا العجائبية (ضحايا الكحول المسمومة): حزن على غضب على حسرة...وما جبنت يوما عن تناول موضوع مثلما حدث معي هذه المرة. صدمتي كانت عنيفة وكأنه لم يسبق لي أن شاهدت بعض مدمني الكحول (لالكول) على قارعة الطريق وجنبات الشوارع، أو عرفت بعضهم عن قرب، لكن العادة تقتل الفضول الإنساني، تعودنا على مشاهدة ظاهر معاناتهم، فما عادت تثير انتباهنا إلى أن استيقظنا على ضجة إعلامية تهاطلت فيها التعليقات وانهالت على رؤوسنا عبارات النعي والإخبار، بين ما يحمل حزنا أو يضمر ارتياحا وتشفيا، وبين من اعتبرهم ضحايا ومن أدانهم كعصاة آثمين. ثم تقارع الناس في تحديد مصائرهم الأخروية، فهذا يراهم شهداء ويغبطهم على الجنة وذاك يستعيذ بالرحمان من كفرهم ويتوعدهم بنار جهنم خالدين فيها. ولا يخفى علينا أننا شعب يبدع في فن المحاكمات، ويتفوق في الإمساك بكل المهام، إذ نقوم بدور الخصم والحكم والجلاد. أما هم فقد رفضوا هذا المجتمع، واختاروا طوعا أو قسرا الشارع، ملاذا ومسكنا لهم.. افترشوا الأرض والتحفوا السماء، ربما لأن رحابة الشارع كانت أحن عليهم من جدران البيوت، وربما لأنه يؤمن لهم الحرية الوهمية المنشودة، ولو في تعاطي الكحول والمخدرات.. هابوا النهار واستأنسوا بالليل، فانقضت عليهم ذئاب بشرية، تقتات على أوجاعهم، تستغل حاجة بقايا أجسادهم لما يسكن آلامها وعوز عقولهم لما يخدر وعيا أشقاهم، كي يتمكنوا من البقاء وليس من العيش، فقد وقعوا في قبضة الإدمان الذي لا يفرج بسهولة عن أسراه، ويوصد في أوجههم أبواب النجاة. ثم رحلوا في ليلة، أتخيلها دهماء غير مقمرة، اختلط فيها عواء ذئاب شمت رائحة الموت بعويل صفارات الإنذار لسيارات الإسعاف التي كانت تركض هنا وهناك، تلتقط أجسادا بشرية منهكة يعتصرها الألم، لتلفظ أنفاسها الأخيرة، ربما غير آسفة على حياة لم تنصف أصحابها وعلى واقع هربت منه لهلوسة الإدمان. تجرعوا مرارة الحياة، ولم ترحمهم قسوة الموت.. طلبوا الحياة التي هزمتهم، وهم يغترفون ماء الحياة، فانتصروا عليها بالموت. في هذه المرة لم يتمكن الذئب البشري من ضبط الوصفة السحرية رخيصة الثمن لجلب السعادة، الراحة والثقة بالنفس المفتقدة... الوصفة التي تمنح المدمن في تيهه ما يفتقده في واقعه، وبين مطرقة الفقر وسندان الحاجة للمخدر افتقدوا الحق في العيش الكريم وضاع حقهم في الموت الكريم؛ وبين هذا وذاك تم اغتيالهم بماء الحياة، لتظل ذكراهم شاهدة على الأعطاب الاجتماعية التي تنخر واقعنا. وما استفز قلمي وأيقظني من سبات هول الصدمة هو مشهد أحدهم، كان يمر بجانبي في الشارع العمومي وهو يحشر أنفه داخل كيس بلاستيكي، فيبادره شخص على الرصيف الآخر ضاحكا: "صاحبي... زكلت الموت...". أدركت حجم الكارثة التي لم تكن تطوراتها تحت السيطرة، انضاف لها تداول نبأ إصابة بعض الناجين من الفاجعة بالعمى. فما ذنب هؤلاء المعذبين في الأرض، أذنبهم أنهم وجدوا في وطن لا يحمي أبناءه، والوطن قدر لا يختاره الإنسان؟ أم ربما إثمهم أنهم أبناء أسر لم تتمكن من احتوائهم وتتبع مساراتهم ضمن مجموع الإكراهات المتفاقمة؟ أم ربما أيضا أن معصيتهم هي تصرفات نزقة طائشة أو اختيارات خاطئة لوحت بهم لغياهب الضياع وجعلتهم يسقطون بين براثن الإدمان؟ هي إذن شبكة مركبة تتقاطع فيها الأدوار، لكن النتيجة كانت مأساوية لم يتمكن أحد من السيطرة على تطوراتها، موت جماعي، انتحار جماعي أو اغتيال جماعي. التسمية صعبة والتصنيف عصي، أما تحديد المسؤوليات فمغامرة تحسب عواقبها، لكن المؤكد أنها مشتركة بين المؤسسات، المجتمع المدني والأسرة. واليقين إن لكل واحد منهم حكاية، اختلفوا في تفاصيلها وتوحدوا في نهايتها المأساوية، كما اجتمعوا على تحويلها لأسطورة دراماتيكية، فاق عدد الضحايا فيها عدد شهداء غارة إسرائيلية على منطقة في قطاع غزة، ستذكر المدينة دوما بتقصيرها في حق أبنائها الذين رحلوا غصبا، وكأني بلسان حال بعضهم يردد مع الشريف قتادة ابو عزيز أمير مكة: بلادي وإن جارت علي عزيزة. وأهلي وإن ضنوا علي كرام. حتى رحيلهم بتلك الطريقة لا نتبين ماهيته، أظلم أم خلاص لهم. لكن المهم الآن هو الانتباه لحدث لم يكن عرضيا ولا اعتياديا، وحمله محمل الجد باعتباره ظاهرة اجتماعية تحتاج رصدا ودراسة، فإذا كان عدد الضحايا يفوق العشرين فما هو العدد الحقيقي للمدمنين والمشردين بمدينتنا؟. إنه مؤشر على حقيقة أوضاع مدن الشمال بصفة عامة، والمدن المهمشة، المتناثرة أشلاؤها بين الفقر والجهل والمخدرات، والنتيجة تفشي ظاهرة الانتحار بأساليب متعددة، شنقا أو احتراقا بماء الحياة. هنا تعطلت عندي لغة الكلام أو انتهى الكلام ولو أنني أكره هذه العبارة المشبوهة. فلطفا يا الله لم تندمل بعد جراح حرائق الغابات والأنعام لتندلع حرائق الأرواح. نسألك اللهم رحمة ومغفرة لأرواح الضحايا والصبر والسلوان لذويهم، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.