المؤرخ أحمد بن خالد الناصري شاعرًا منذ أن شغلني الأدب المغربي القديم، خاصة الفترة (القرن العاشر الهجري وأوائل القرن الحادي عشر/السادس عشر الميلادي) التي استطعمتُ فيها دفقًا شعريًّا منزويا بين ثنايا مخطوطات غميسة، إذ لم يُلتفت إلى هذه المخطوطات ولم تحظَ بعناية الباحثين في فترة قد نسميها – أو سماها البعضُ – فترة النهضة الحديثة إلا القليل، فإنني بحكم عملي التراثي – وعمل غيري من الزملاء الذين خاضوا معي لُجَّةَ هذا التراث الأدبي المغربي – أعود اليوم لأفتح موضوع الحديث عن التراث الأدبي المغربي الذي رصع تاريخنا المغربي بجواهر كتابات ومدونات لا يستطعمها إلا من خاض غمارها فأحبَّها وأرهف السمع للإنصات إلى بُوحها والنظر إلى مكنوناتها بإعجاب وتقدير. قراءتي مؤخرًا لمجموعة من أشعار المؤرخ أحمد بن خالد الناصري (1835–1897) – وإن كنتُ قد قرأتُ الكثير من مؤلفاته سابقًا – بخط يده في ورقات تتضمن قصائده الشعرية التي حفظتها الظروف من الضياع، واستنتجتُ من خلالها بعض آرائه في الكتابة شعرًا ونثرًا، وكذلك في مؤلفه «زهر الأفنان من حديقة ابن الونان»، وهو ما شجعني على الحديث في موضوع التراث الأدبي المغربي. إنَّ الاهتمامَ بالتراث الأدبي المغربي ووجوبَ الالتفات إليه شعرًا ونثرًا ونقدًا، والاستظلالَ بظلاله، وتشجيع الطلاب على النهل من حياضه رغبةً في تجويد الكتابة وارتقائها، وتنبيه الكتاب والباحثين وحملة الأقلام إلى التهيُّب من الكتابة شعرًا ونثرًا إلا إذا توفرتِ الآلياتُ والأدواتُ؛ فهو على الرغم من طول باعه في الكتابة والتدوين تهيَّب من تعاطي الشعر خوفًا من المزالق، إذ على متعاطي الشعر أن تكون بضاعتُه متوفرةً مادةً ولغةً وآلةً وغيرها، مؤكدًا أنه لا يتوفر على هذه المعطيات، لذلك لم يركب مطيَّته ولم يجرؤ على مجاراة غيره من الشعراء إلا نتفًا حفظتها وريقات بخطه في خزانته العامرة. ولعل المؤرخ الناصري استشعر منذ عصره الخيبة التي يعيشها الشعر، فيصرح بعزوفه عن قرضه تكريمًا له وخوفًا عليه من الركاكة والابتذال. لكن قراءة ما جاد به قلمه من مؤلفات في اللغة والبلاغة وأساليب الكتابة تدعو إلى الاعتراف له بالتمكن من كتابة الشعر وغيره بلغة رصينة وأساليب فنية بديعة، ومن ثمَّ ما علينا إلا العودة إلى ما صنَّفه التراثيون من أشعار للارتواء منها واتباع دروبها ومسالكها. الحديث عن العلامة المؤرخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي حديث لذيذ وممتع، عرفته منذ أكثر من ثلاثين سنة وطرقتُ باب معارفه بمحبة وصبر، وقراءة وحسن تأنٍّ، استفدتُ من بحر علومه ورائق لغته وأساليبه، وتلفَّعتُ بدرره وجواهره لغةً وأدبًا وبلاغةً وتاريخًا. كان الولوج إلى باب حضرته عن طريق كتابه الأشهر والأهم «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى». إنه مؤرخ الدولة المغربية منذ البدايات، فأسعفني بمغاليق تاريخ الدولة السعدية التي كانت محكَّ عملي الجامعي. لم يكتف بالأحداث التاريخية والبطولات العسكرية والحياة الاقتصادية والاجتماعية فقط، بل كان النافذةَ الجميلةَ المطلة على الحياة الثقافية في الفترات التاريخية المختلفة التي تحدَّث عنها، وأنقذ أشعار أبنائها من الضياع؛ فأورد في كتابه التاريخي مجموعة من الأشعار التي كانت بين يديه دون شك للتدليل على الحظوة التي كانت للشعر والشعراء في تلك الفترات، خاصة فترة حكم السلطان أحمد المنصور الذهبي. من ساعتها وأنا من حين لآخر أعود إلى كتابات المؤرخ الناصري لأستفيد منها وأقطف من ثمارها ما يفسح لي المجال لتطوير معرفتي بهذه الشخصية العالمة. فالناصري لم يكن وقفًا على المؤرخين، ولكنه كان وقفًا لعامة المثقفين والأدباء واللغويين والباحثين عامة، فينهل الجميع من ينابيع فيضه وعطائه، مما لم يوفَّق آخرون لذلك من طلاب المعرفة. أذكر أنني في إحدى الندوات العلمية التي كانت تعقدها جمعية أبي رقراق بمدينة سلا عن الحركة الأدبية في سلا، شاركتُ ببحث عنوانه «أحمد بن خالد الناصري شاعرًا» وذلك من خلال ما استطعت الحصول عليه من شعره، وهو ما أثار سؤال الأستاذ محمد عواد رحمه الله (ت 2007): «من أين أتيتِ بهذه التخريجة؟ لا نعرف الناصري إلا مؤرخًا؟». لم يكن الحديث ميسرًا عن الناصري شاعرًا لأشارك به في هذه الندوة العلمية، إذ استدعى ذلك البحث عن مدوَّنات الناصري ومعرفة مؤلفاته وكتاباته المختلفة. لذلك اتصلتُ بالأستاذ أحمد الناصري حفيد المؤرخ، الذي لم يبخل عليَّ بجلسة علمية أطلعني خلالها على الخزانة الناصرية المتعددة الموضوعات والمؤلفات والمجلات، وضمنها ورقات تضم شعر الناصري المؤرخ. وبما أن هذه الورقات لا يمكن أن تخرج من هذه الخزانة، فقد أتاح لي الأستاذ الناصري مشكورًا استنساخ ما ارتأيتُ أنه مسعفِي لكتابة بحث عن شعر الناصري، وبذلك كانت تلك الدراسة موضوع التساؤل. وخوفًا من ضياع بعض دراساتي كنتُ أحرص على جمعها وطبعها لتُنشر في كتاب. ومن ثم وردت دراستي عن شعر الناصري في كتاب «تأملات أدبية في نصوص مغربية». وبإهدائي هذا الكتاب للأستاذ أحمد الصبيحي محافظ الخزانة العلمية الصبيحية بسلا، كما جرت عادتي، وإطلاعه على دراستي عن هذا الشعر، جرى الحديث بيننا عن هذا العلامة الكبير – الموسوعي الذي كان قلمه سيالًا ومعارفه متنوعة – فلم نحظ إلى اليوم بعالم له من القدرات على التأليف والكتابة من يجاريه ويعتلي كرسيَّه اليوم إلا القليل القليل من علماء القرن العشرين. طلب مني السيد المحافظ النظر في وريقات تضم هذا الشعر تُحتفظ بها الخزانة الصبيحية (وهي مستنسخة من الأصل الموجود بالخزانة الناصرية)، متسائلاً عن إمكانية نشرها باعتبارها ديوانًا شعريًا يُتوِّج أعمال المؤرخ الناصري المختلفة الموزعة بين التاريخ واللغة والأدب والنقد والشرح وغيرها. والطريف أن هذه الأشعار بخط المؤرخ نفسه، حرص على شكلها والإشارة إلى موضوعها، وعمل ابناه امحمد وجعفر فيما بعد على جمع هذه الوريقات لحفظها من الضياع، وعنوناها بالآتي: «ديوان سيدنا الوالد الشيخ أبي العباس أحمد بن خالد الناصري قدس الله روحه». كان هذا التساؤل أو السؤال عن إمكانية نشر هذه الوريقات (من طرف السيد المحافظ) حافزًا لي من جديد إلى الاحتكاك بعمل الناصري كمبدع: كلغوي، كناقد، كشاعر، وعن كل موضوع خاضه بتقنية وعلم. تساءلت حينها: كيف لهذا الرجل المسؤول في الدولة المغربية، والذي كان ينتقل من مدينة إلى أخرى للقيام بمهماته الإدارية ثم رعاية أسرته الصغيرة، أن يتوفر له الوقت للكتابة والدرس والتأليف، بل وإلى نشر مؤلفه التاريخي لأول مرة بالقاهرة؟ إنه لم يكن حبيس تخصص واحد في الكتابة كما يُتحدث اليوم عن التخصصات وغيرها، بل كان له في كل تخصص جولات ومطارحات وعطاءات. استرعى انتباهي علم هذا العلامة، وحضوره الفاعل في أسواق متعددة: لغةً وتاريخًا ونقدًا وشرحًا وغيرها من الموضوعات. فزكَّيت الاقتراح – أي اقتراح السيد المحافظ نشر هذه الوريقات – فما كان منه إلا أن طلب مني القيام بتحقيق هذه الأشعار ليتمَّ نشرها ضمن منشورات الخزانة العلمية الصبيحية بسلا؛ وهي ذات إشعاع وحضور في مدينتنا سلا، بل في المغرب قاطبة، ولما لها في مراتع البحث والدرس في العالم. فلم أتردد في إنجاز هذا العمل، وقد حرصتُ على أن تُنشر صورة المدوَّن من أشعاره بخطه في هذه الوريقات تأكيدًا لكل ما يُشار إليه من براعة وهو يخوض عالم الشعر، وإن لم يكن فيه – كما يقول – بارعًا ولا قادرًا على مجاراته: «وأما تعاطي الشعر فقد كنت أنتحله أيام الشبيبة ثم أعرضت عنه». يؤكد المؤرخ الناصري إلى أن التمكن من اللسان العربي وأساليبه من ضروريات العمل... إذ المطلوب أن يعرف الإنسان آلته ومادته، وكيفية قرضه ونقده حتى تتجود ملكته، ويتمَّ ذوقه ويصير بصيرًا باللسان العربي وأساليبه وفنونه، ثم يتفرغ لما هو أهم من ذلك». (الورقة 23 من المخطوط، الورقة 11 من المطبوع). هكذا، حرصتُ على إنجاز تحقيق هذه الأشعار، وأضفت إليها ترجمته بقلمي كما وردت في معلمة المغرب (العدد 22، 2005)، ثم دراسة حول أغراضه الشعرية سميتها: «نظرات في ديوان المؤرخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي» تقريبًا للقارئ من جهود مؤرخ لغوي أبان عن براعة في الكتابة على تنوُّعها وعلى مسايرة عصره ومجايليه في نظم الشعر بروية وحسن أداء. وقد صدرت هذه الباقة من الأشعار سنة 2023 ضمن منشورات الخزانة العلمية الصبيحية. إننا اليوم في حاجة ماسَّة إلى النظر في تراثنا الأدبي المغربي نظرة ثاقبة، وإلى التعريف به والاستفادة منه، وإلى التمكن من أدواته وآلياته سواء في الكتابة النثرية أو الشعرية، كما نبَّه إلى ذلك نقاد الأدب عبر العصور مُلِحِّين إلى ما أشار إليه المؤرخ الناصري. ففي ظلال هذا التراث الأدبي المغربي الوارفة؛ تستعيد اللغة العربية إشراقها، والأسلوب العربي بريقه، والشعر بهاءه ونضارته. ولن يتمَّ ذلك إلا بالاستفادة من آراء هذا المؤرخ العلامة أحمد بن خالد الناصري وبعض العلماء النقاد المبحِرين في عوالم البحث والدرس والتنظير. ×××××××× وأخيرًا، فإلى مهندسي برمجة أنشطة المعرض الدولي للكتاب في دورته الثلاثين، أطرح السؤال الآتي: أين حظُّ المؤلفات الأدبية المغربية التراثية شعرًا ونثرًا من هذا الكم الهائل من البرامج والأنشطة التي تحفل بها أيام المعرض صباحًا ومساءً؟ كتابات كثيرة صدرت في الأدب المغربي التراثي القديم في هذه السنوات الأخيرة لم يُلتفت إليها ولم يُتحدث عنها ولم تحظَ بالعناية والاهتمام. إن ما خلَّفه التراثيون من أعمال أدبية رائدة متعددة وكثيرة تبعث على الافتخار بالتراث الأدبي المغربي على مر العصور. أذكر منها: * «زهر الأفنان في حديقة بن الونان» في جزأين. * «شرح رائية اليوسي». * تحقيق «ديوان اليوسي». * «المحيط بالمهم من أخبار المغرب وشنقيط» في جزأين. * الغزل والزجل والمدائح التراثية. * الشعر المغربي في زمن الموحدين. * الشعر المغربي في العصر المريني. * شعر الجهاد في الأدب المغربي. * وغير هذه الإصدارات كثير. كما ألفت الانتباه إلى إغفال ذكر من غادرنا مؤخرًا إلى دار البقاء، وكان له القدح المُعلَّى في العطاء وفي إرساء دعائم نهضة أدبية وتاريخية وسياسية وفلسفية وقضائية، وهم كثير لم يحظوا في هذا المحفل العلمي والأدبي الكبير (المعرض الدولي للكتاب في دورته 30) بعناية وترحيب للاحتفاء بهم والافتخار بعطاءاتهم، وهم ممن يُشار إليهم بالبنان في حياتنا وفي أوساطنا العلمية والأدبية وغيرها. منهم: * المؤرخ العلامة أحمد بن خالد الناصري. * المؤرخ العميد محمد حجي. * المؤرخ العميد إبراهيم بوطالب. * المؤرخ محمد زنيبر. * المحقق النحرير محمد بن شريفة. * الموسوعي عباس الجراري. * الفيلسوف الطاهر وعزيز. * الفيلسوف محمد سبيلا. * القاضي ذو الكفاءة العالية عبد المجيد غميجة. * وغير هؤلاء ممن لهم صولات وجولات في عوالمنا عطاءً وحضورًا وتألقًا.