تبدو خطة الحكومة الإسرائيلية للسيطرة الكاملة على مدينة غزة، بعد قرابة عامين من العدوان السافر، تتويجًا لنهج عسكري قائم على الإلغاء: إلغاء الإنسان، وإلغاء الذاكرة، وإلغاء الحق. فأن يُقرّ مجلس وزاري أمني احتلال مدينة يعيش على أنقاضها مليون نازح، وتُقابل الخطة بتحذيرات دولية وتحفظ عسكري داخلي، ثم يُصرّ رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو على المضي فيها، فذلك ليس قرارًا سياديًا بقدر ما هو إعلان صريح بانفصال المنظومة الحاكمة في إسرائيل عن الواقع، وعن القانون، وعن كل مفاهيم العدالة الإنسانية. ليست غزة مدينة محايدة على رقعة شطرنج، هي مركز لحياة محاصرة منذ أكثر من ثمانية عشر عامًا، تُسحق اليوم تحت وطأة المجاعة، والمرض، والتشريد، والقصف المستمر.. ومع ذلك تصر إسرائيل على أن الحسم لا يكون إلا بإخضاع الجغرافيا بالكامل وكأن السيطرة على الركام توازي استعادة الرهائن أو إنهاء الحرب. خطة السيطرة العسكرية على المدينة تُطرح وسط إدانات دولية واسعة، وتحذيرات أممية، وقلق متزايد من أن يؤدي هذا التوسع إلى كارثة إنسانية جديدة، لا إلى حل سياسي أو أمني. ما يثير القلق أكثر أن هذا القرار جاء خلافًا لتوصيات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ذاتها، التي نبّهت إلى الإرهاق المتزايد في صفوف جيش الاحتلال، وإلى خطورة تحميله مسؤولية إدارة ملايين المدنيين في ظروف أمنية متفجرة. ومع ذلك يبدو أن الحسابات السياسية داخل الحكومة الإسرائيلية، ومزايدات اليمين المتطرف، غلبت الحسابات الميدانية وحتى أمن الرهائن أنفسهم. ثمّة مفارقة مؤلمة: يسوّق نتانياهو القرار بوصفه ضمانًا لأمن الإسرائيليين، بينما يرى ذوو الرهائن في الداخل أنه تضحية مباشرة بأبنائهم، ويعتبره معارضون إسرائيليون "كارثة أخلاقية وعسكرية واقتصادية". أما في غزة فالأهالي لا ينتظرون توضيحات لأنهم يعرفون جيدًا ما تعنيه عبارة "السيطرة على المدينة": موجات نزوح جديدة، وتجويع منظم، ودماء تُسال باسم أمن الدولة العبرية. لا تكشف هذه الخطة فقط عن مأزق الاحتلال الإسرائيلي في إدراك حدود القوة، بل تعكس أيضًا انسدادًا سياسيًا كاملاً. فبدل أن تستثمر إسرائيل في مخرج تفاوضي، عبر صفقة شاملة أو وقف إطلاق نار طويل الأمد، تلوّح بخيارات صفرية: إما الخضوع التام أو الإبادة الكاملة. وهذا منطق لا يُنتج سلامًا، بل يراكم الحقد، ويؤسّس لجولات قادمة من العنف. التحكم بغزة من خلال القصف والجوع والتهجير قد يمنح جيش الاحتلال نقاطًا على خارطة فارغة، لكنه لا يصنع أمنًا، ولا يحقق نصرًا، ولا يعيد رهائن، ولا يؤسس لحكم مستقر. لا بد أن تعي إسرائيل، كما العالم، أن التقدم نحو حل في غزة لا يكون بالدبابات، بل بفتح أفق سياسي يضمن الكرامة للفلسطينيين، والأمن للإسرائيليين، والسلام للمنطقة. أما استمرار الاحتلال، تحت أي مسمى، فهو وصفة مؤكدة لانفجار أكبر.. آتٍ لا محالة.