لم يكن خبر شحنة المساعدات المغربية إلى غزة، في 31 يوليوز 2025، مجرد خبر إنساني عابر في شريط الأنباء، بل كان فعلا سياسيا محسوبا، يعكس توازنات القوة، ومعادلات التحرك في واحدة من أعقد ساحات الصراع في العالم. فالأمر الملكي بإرسال نحو 180 طنا من المساعدات الإنسانية والطبية، في وقت تتفاقم فيه أزمة الغذاء والدواء بفعل الحصار الطويل، حمل أكثر من رسالة في آن واحد. أولى هذه الرسائل أن المغرب يريد أن يكون حاضرا في قلب المشهد الفلسطيني، لا كصوت بعيد، بل كفاعل يضع على الأرض ما يتجاوز الخطاب إلى الفعل الملموس: مواد غذائية أساسية، وحليب وأغذية للأطفال، وأدوية ومستلزمات جراحية، وأغطية وخيام، جميعها جرى تنظيم إيصالها عبر مسار وصف بأنه آمن ومباشر، بعيدا عن تعقيدات الممرات الدولية التي كثيرا ما تتحول إلى مسارح للتجاذبات السياسية قبل أن تكون معابر للمساعدات. على المستوى الإجرائي، لم يكن اختيار المسار اللوجستي تفصيلا ثانويا، بل كان عنصرا أساسيا في المعادلة. فقد تحدثت تقارير عدة عن هبوط طائرات شحن مغربية في مطار بن غوريون، ثم نقل المساعدات برا عبر معبر كرم أبو سالم إلى داخل غزة، وهو مسار يختصر الوقت، لكنه يتطلب ترتيبات سياسية وأمنية دقيقة. وهنا يبرز البعد الذي يتقنه المغرب في تحركاته الإقليمية: العمل بهدوء، وتجنب استعراض النزاع على الممرات، مقابل ضمان وصول الشحنة إلى حيث يحتاجها الناس. وليست هذه المرة الأولى التي يتدخل فيها المغرب بهذا الأسلوب؛ فقد سبقت ذلك شحنة مماثلة عام 2024، نقلت فيها نحو 40 طنا مباشرة إلى غزة عبر المسار نفسه، في خطوة وصفت حينها بالجريئة في ظل تجمد قنوات الإغاثة. غير أن وراء هذه التفاصيل التقنية سؤالا أعمق: لماذا الآن؟ فالتوقيت في السياسة لا يقل أهمية عن الحدث نفسه. جاءت هذه الدفعة في لحظة تتكثف فيها الضغوط الدولية لإعادة تفعيل الممرات الإنسانية، بينما تتحرك أطراف إقليمية لترسيخ مواقعها في ملف إعادة الإعمار المستقبلي. وبإرسال هذه الشحنة في قلب الصيف، وضع المغرب نفسه على خريطة الفعل الإنساني في غزة، موجها إشارة للأوروبيين والعرب على حد سواء، بأنه يمتلك القدرة على التحرك العملي في الميدان، من دون انتظار توافقات بطيئة أو قرارات لمجلس الأمن، التي كثيرا ما تختطف في أروقة الفيتو. إنها سياسة الخطوة المحسوبة: فعل يراه أهل غزة على أرضهم، ويلتقطه الآخرون كرسالة في لعبة أوسع. أما الأثر المباشر، فقد بدا واضحا في مناطق مثل المواصي قرب خان يونس، حيث تتكدس آلاف الأسر النازحة في ظروف قاسية. صور توزيع السلال الغذائية والمواد الطبية حملت وجها إنسانيا خالصا، لكن صداها السياسي لم يكن أقل وضوحا. فقد أشادت شخصيات فلسطينية، من بينها مدير المسجد الأقصى، بالمبادرة واعتبرتها امتدادا لدعم مغربي متواصل للقضية، فيما وجه طلبة فلسطينيون في المغرب رسائل شكر أضافت بعدا وجدانيا للعلاقة. هكذا، امتزج الإنساني بالسياسي، وأصبح مشهد الشاحنات المغربية وهي تعبر إلى غزة جزءا من سردية أوسع عن دور الرباط في واحدة من أعقد ملفات الشرق الأوسط. حين ننظر إلى هذه الخطوة من منظور أوسع، ندرك أنها ليست مجرد استجابة لحاجة إنسانية عاجلة، بل جزء من هندسة سياسية عميقة يتقنها المغرب في محيطه الإقليمي. فإرسال المساعدات في توقيت بالغ الحساسية، وبحجم لافت يصل إلى 180 طنا، يمنح الرباط ورقة حضور مباشر في ملف غزة، في وقت يتنافس فيه اللاعبون الإقليميون على مواقع النفوذ قبل أن تتضح معالم التسوية أو إعادة الإعمار. مثل هذا التحرك يتيح للمغرب أن يرسخ صورته كفاعل قادر على الوصول إلى الميدان، ليس فقط عبر البيانات الدبلوماسية، بل من خلال أفعال ذات أثر فوري وملموس على الأرض. ومن هنا، يصبح الفعل الإنساني بوابة للفعل السياسي، وتتحول الشاحنات المحملة بالغذاء والدواء إلى رسائل مشفرة يقرأها كل طرف وفق موقعه ومصالحه. هنا، لا تقل اللوجستيات أهمية عن الرسائل السياسية. فاختيار مسار آمن ومباشر يختصر المراحل التقليدية لوصول المساعدات، ويتجاوز التعقيدات التي واجهتها مبادرات أخرى عبر الممرات البحرية أو القنوات الأممية. هذا المسار يتطلب بالضرورة تفاهمات غير معلنة، وضمانات على مستويات متعددة، بدءا من النقل الجوي، مرورا بالعبور البري، وصولا إلى نقاط التسليم داخل غزة. مثل هذه الترتيبات لا يمكن إنجازها بلا شبكة علاقات سياسية وأمنية متداخلة، وهو ما يعكس أن العملية لم تكن ارتجالية، بل ثمرة تخطيط دقيق وتنفيذ محكم. وفي الميدان، تضاعف أثر المساعدات بفعل ندرة الموارد، إذ تزامنت مع تقارير أممية تؤكد تفاقم أزمة الغذاء والدواء في القطاع. العائلات التي تلقت السلال الغذائية أو الأدوية في المواصي وخان يونس لم تنظر إليها كإعانة عابرة، بل كنافذة تنفس وسط الحصار الخانق. صحيح أن الأرقام الإجمالية لا تكفي لسد الفجوة الهائلة في الاحتياجات، لكن الأثر النفسي والسياسي لمشهد وصول هذه المساعدات، في ظل حصار محكم وانقطاع متكرر للممرات، هو ما يمنحها وزنا مضاعفا في ميزان السياسة. بهذا المعنى، لم تكن دفعة 31 يوليوز 2025 مجرد شحنة إنسانية، بل كانت عرضا حيا لقدرة المغرب على توظيف العمل الإغاثي كأداة استراتيجية. إنها سياسة تتجاوز رد الفعل، لتؤسس لقاعدة نفوذ تقوم على الحضور العملي في بؤر التوتر. فكما أدركت القوى الكبرى أن من يملك القدرة على الإغاثة يمتلك مفاتيح التفاوض، يدرك المغرب أن تقديم الدعم في اللحظات الحرجة هو استثمار طويل المدى في مكانته ودوره. وفي مشهد غزة المعقد، حيث تتشابك السياسة مع الإنسانية، تصبح هذه المبادرة فصلا من فصول الدبلوماسية الفاعلة، التي تكتب بلغة الأرقام والحمولات، لكنها تقرأ في سياق أوسع من مجرد الإغاثة. وتكتسب مبادرة 31 يوليوز 2025 بعدا أعمق حين تقرأ باعتبارها ترجمة عملية لموقف الشعب المغربي المتضامن مع غزة. فهذا الدعم الإنساني لا ينفصل عن المشهد الداخلي في المملكة، حيث تشهد مختلف الأقاليم، بشكل شبه يومي، خروج حشود من المتظاهرين في مسيرات ووقفات تضامنية، يرفعون الأعلام الفلسطينية ويهتفون ضد الحصار وسياسة التجويع التي يتعرض لها أهل القطاع. ويعكس هذا الحراك الشعبي، المتواصل منذ اندلاع الحرب، مكانة القضية الفلسطينية في الوجدان المغربي، ويضفي على المبادرة الملكية بعدا وطنيا جامعا، يجعلها امتدادا لإرادة شعبية راسخة ترى في نصرة غزة واجبا أخلاقيا وقوميا قبل أن يكون مجرد عمل إغاثي.