في السياسة، لا تُقاس الزيارات بالصور التذكارية، بل بما تتركه من موازين جديدة. حين حطّ علي لاريجاني في بغداد، كان يعرف أن توقيع مذكرة أمنية مع العراق سيُقرأ في طهران كخطوة لتثبيت نفوذ دام عقدين. وبعد ساعات، كان عليه في بيروت أن يستمع لا إلى الترحيب، بل إلى رسائل توبيخ من رأس الدولة نفسه. بين العاصمتين، ظهر الفارق بين بلد يشرعن الحضور الإيراني وآخر يحاول كسر أذرعه. في بغداد، جلس الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني إلى الطاولة الرسمية، ووقّع مذكرة تعاون أمني مع مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، بحضور رئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني. المشهد سياسي بامتياز، يضفي شرعية مضاعفة على المذكرة، في وقت تعيش فيه طهران أضعف مراحل نفوذها الإقليمي. لطالما استخدم السوداني تبريرا رخيصا نافيا وجود أي تدخل إيراني في شؤون العراق واصفا ذلك من قبيل المبالغة، من دون أن يستطيع إقناع نفسه بهذه الذريعة قبل إقناع العراقيين! لكنه اليوم حصل على إجابة مثيرة وصلته من بيروت وبعد ساعات من انتهاء زيارة لاريجاني إلى بغداد. يبدو المشهد للوهلة الأولى مجرد اتفاق ثنائي بين دولتين جارتين. عناوينه حول الحدود، مكافحة التهريب، تبادل المعلومات الاستخباراتية. لكن ما لم يُكتب في نص المذكرة هو الأهم: منح طهران اعترافًا ممهورًا بتوقيع عراقي، يشرعن استمرار حضورها الأمني في بلد ظل لعقدين ساحة نفوذ بلا منافس. واشنطن لم تتأخر في التعليق. المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، تامي بروس، قالت: "أي اتفاق أمني يمنح إيران دورًا مهيمنًا في الشأن العراقي يقوّض استقرار المنطقة ويتعارض مع مصالح الشعب العراقي نفسه". تصريح واضح، موجّه أكثر إلى بغداد منه إلى طهران، يذكّر أن العراق، بصفته دولة ذات سيادة (...)!، لا يمكن أن يكون ممرًا لمشروع أمني يخدم طرفًا واحدًا. بعد ساعات، كان الرجل ذاته على أرض بيروت، لكن الطاولة تغيّرت، واللهجة انقلبت رأسًا على عقب. لم يسمع عبارات الترحيب التقليدية، بل تلقى من الرئيس جوزاف عون جملة صريحة: لا مكان لسلاح خارج سلطة الدولة ولن نسمح لدولة أخرى التدخل في القرار السيادي اللبناني. رئيس الحكومة نواف سلام كرر الموقف بوضوح أكبر: انتهى زمن التسامح مع التدخل الخارجي في شؤون لبنان. في السياسة، كان ذلك أشبه ببيان سيادي مباشر، يوضح الفرق بين لبنان الدولة ولبنان الدويلة التي مثّلها حزب الله لعقود. علي لاريجاني ليس مجرد مبعوث سياسي أو أمني. خلفيته الفكرية تكشف طبيعة المهمة التي يحملها. فهو من أسرة تنظّر للهيمنة الإيرانية على المنطقة والده ميرزا هاشم آملي من مراجع الدين الشيعة في قم. شقيقه محمد جواد لاريجاني من منظري التيار المحافظ في السياسة الخارجية، شخصيته تمزج بين الثقافة القومية الفارسية، المذهب الشيعي، والبراغماتية السياسية. كتابه "مقولات في الاستراتيجية الوطنية" يوضح نظرية "قم أم القرى"، التي تُدرّس في المعاهد الأمنية والاستخباراتية الإيرانية، بهدف نقل مركز العالم الإسلامي من مكة إلى مدينة قم، وتوسيع النفوذ الإيراني عبر خطاب عقائدي مغلف بغطاء سياسي وأمني. من منظور أوسع، توقيع مذكرة التفاهم في بغداد بين لاريجاني والأعرجي الذي عاش في إيران ما يقارب نصف عمره كمقاتل في فيلق بدر، لذلك يعتبر اليوم بمثابة موظف إيراني في المنطقة الخضراء أكثر منه مستشارا للأم القومي العراقي. حلقة جديدة لتثبيت النفوذ الإيراني في العراق. في المقابل، بيروت تبدو بوابة محتملة لكسر أحد أعمدة هذا النفوذ، عبر إضعاف حزب الله وتجريده من سلاحه. الفارق بين العاصمتين يوضح الفارق بين دولة تسمح لمشروع "قم" بالتغلغل في بنيتها الأمنية، وأخرى تحاول، ولو متأخرة، إغلاق الباب أمامه. إيران تدير ملفاتها الإقليمية بمهارة عبر شخصيات من طراز لاريجاني، تراهن على كسب الوقت وعلى بناء الشرعية من داخل المؤسسات الوطنية للدول، لا عبر الفوضى وحدها. ما حصل في بغداد هو شرعنة من هذا النوع. أما ما جرى في بيروت فهو اختبار لقدرة الدولة على قول "لا"، حتى بوجه لاعب إقليمي يجمع التاريخ والعقيدة والسياسة في آن واحد. من بغداد إلى بيروت، تحمل زيارة لاريجاني خيطًا واحدًا بلونين مختلفين: لون يعزز شرعية الوجود الإيراني، وآخر يعلن بداية الطعن فيه. في هذا التناقض، تتضح معالم الخريطة المقبلة، حيث الدولة إما أن تفرض سيادتها، أو تتحول إلى اسم بلا مضمون.