نفس السؤال الذي يمكن أن يتبادر إلى أذهان الكثير منا، جاوزتنا إلى تفكيكه باحثة في جامعة ستانفورد تدعى مارييت شاكي: "هل سيدرك العالم أن تبنّي الذكاء الاصطناعي الأميركي سيمنح ترامب أداة أكثر فاعلية للإكراه؟". المثير في سؤال الخبيرة الأمريكية -وهي عضو بمعهد الذكاء الاصطناعي والإنسان ومركز السياسات الإلكترونية بجامعة ستانفورد- تحذير العالم من الأدوات الأمبريالية لبلادها، خصوصًا في سياق ما أسمته ب"استعمار الذكاء الاصطناعي". ومنشأ الإثارة هنا العودة إلى الاستهداف الاستراتيجي القائم على تحويل التكنولوجيا الناشئة إلى أداة هيمنة وإكراه سياسي، وهو السياق التقاطعي الذي ظل يلازم إدارة ترامب خلال الولاية الأولى، واستمر بشكل اندفاعي وبأكثر قسوة وتشدّدًا في نسخته التالية: "استخدام الحروب التجارية على الدول، مهما كانت مكانتها ووظيفتها في خريطة المشروع الأمريكي". المشاريع المعلنة من قبل الشركات الضخمة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي -والتي غالبًا ما تحول أنظار العالم عن خلفياتها المستبطنة إلى ما تحلو للبروباغندا أن تشيعه في الفضاءات الزرقاء وخدماتها العابرة للقارات، كبرامجها مثلاً حول "الذكاء الاصطناعي من أجل الأرض" (AI for Earth) الهادف إلى حماية كوكبنا من خلال استخدام علم البيانات، ونشر الخبرات في مجال البحث والتكنولوجيا في تقنيات الذكاء الاصطناعي في قطاعات الزراعة والمياه والتنوع البيولوجي وتغير المناخ والصحة وغير ذلك- هي جزء من التقييم العام الذي تستخدمه الدول الكبرى للتغطية على مشاريعها غير المعلنة، والموجهة بحوافز السيطرة والإذعان للشروط الحمائية والتبعية العمياء. وقد عرَت الأحداث الأخيرة خلال السنوات القليلة الماضية بعض هذه الأدوار التي تضطلع بها الشركات إياها، خصوصًا في مجال تقديم خدمات تعنى بالحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي لوزارة الدفاع الإسرائيلية بغرض إبادة وتهجير سكان قطاع غزة، وهو ما عززه تحقيق أجرته وكالة أسوشيتد برس أوائل العام الجاري من "أن نماذج الذكاء الاصطناعي من شركتي مايكروسوفت وأوبن إيه آي استخدمت ضمن برنامج عسكري إسرائيلي لتحديد أهداف القصف في غزة ولبنان". وبغض النظر عن استخدامات الذكاء الاصطناعي في الجوانب الإنسانية وما يشوبها من متاهات وتناقضات، فإنه حتى في حالات الدعم المعنوي في قضايا تهم الفئات المهمشة في المجتمع وتعزيز العدالة الاجتماعية ومساندة ضحايا العنف الأسري، وحماية الأطفال والنازحين واللاجئين والتعافي من الكوارث الطبيعية، وكذا دعم المنظمات الخيرية من خلال المنح المقدمة والشراكات الاستراتيجية والاستثمارات التكنولوجية، فإن خطط العمل الممركزة في بنية العقل الغربي (الأمريكي خصوصًا) تظل حاضرة بقوة في براديغم المشروع الترامبي في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يكرس رأس الحربة وأس الهيمنة، وهو في نظر مارييت شاكي "ليست مجرد رؤية تقنية، بل هي مشروع أيديولوجي متكامل للهيمنة التكنولوجية، يرتكز على تسريع تطوير الذكاء الاصطناعي والاعتماد عليه داخل أميركا سعيًا لجني فوائد اقتصادية لصالح واشنطن، ومنع تكرار نموذج 'الاستيقاظ' (Woke) الذي يتعارض مع توجهات إدارة ترامب". والأخطر في كل ما ذكر أن يتماهى الانتقال التكنولوجي إلى مساحات واسعة من الردة القيمية في منظومة القانون الدولي، حيث تستثار علاقات التحول من مجرد أنظمة مفتوحة على المشترك النفعي الإنساني واستحضاره في الآفاق التي تستوعب الطفرات العلمية والمعلوماتية الخالصة، إلى أنماط وتقاطعات غامضة في عوالم الترصيفات والخوارزميات المطعمة بالتأطير الاستشرافي و"الصناديق السوداء"، والتي يصعب فهم آلياتها أو اكتشاف أي تلاعب داخلها. وهذا الغموض في أنظمة الذكاء الاصطناعي -وفق ذات الباحثة- ينتج اعتماديات هشة وفريدة في قطاعات البنية التحتية والدفاع والأمن، حيث إن خوارزمياتها غير شفافة يمكن التلاعب بها لتوجيه المخرجات، سواء لتحدي قواعد مكافحة الاحتكار أو لدعم الحماية التجارية. ولهذا بدا السباق في امتلاك أو بناء بدائل سيادية للذكاء الاصطناعي من قبل دول كبرى كالصين والهند أمرًا ضروريًا يتماشى والقطيعة التكنولوجية المتسارعة، حيث يبدو الخيار الاستراتيجي بإزائها حتمية وجودية تتفاعل والعلاقات التجارية والاقتصادية المطبوعة بأدوات الإكراه السياسي والتشاكل الأيديولوجي. فهل يكون سؤال العودة إلى وسائل الغزو الفكري المستخدمة من الخارج ("الاستعمار") -كما سبق وارتكن إلى لبوسها مفكرو العصر الكولونيالي الحديث والمعاصر- نافذة على إدراك ويقين بأن الإصلاح والتجدد الحضاري لا يتحقق إلا بتخليص الإنسان من رواسب القابلية للاستعمار؟ أم أن توابع ومدارات التحصين الحضاري والثقافي ذاك يرتهن على قوة التدافع وصيانة الهوية واقتدارية الإنجاز العلمي ووحدة الصف الوطني (القومي)، بعيدًا عن مزايدات ومهاترات "الصراع الحضاري" و"نهاية العالم" المقبورة؟