قال ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، إن "المملكة المغربية اختارت أن تكون أمة بحرية في وقت فضلت فيه الكثير من الدول الساحلية أن تدير ظهرها للبحر الذي كانت تأتي منه كل التحديات الخارجية"، مضيفا أن "امتلاك دولة ما لساحل لا يعني بالضرورة أنها دولة بحرية، فلكي تكون كذلك يجب أن تدمج البحر في رؤاها الجيوسياسية؛ وهذا ما فعله المغرب عبر تاريخه الطويل، وبشكل أعمق تحت حكم صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله". وأوضح بوريطة، في الكلمة الافتتاحية للمؤتمر المنظم اليوم الثلاثاء بالرباط بشراكة مع معهد القانون الدولي حول "الممارسات الدولية في تحديد المجالات البحرية"، التي تلاها بالنيابة عنه رئيس ديوانه، سامي المراكشي، أن "المغرب جعل من فضاءاته البحرية جزءا من سيادته المسترجعة بعد الاستقلال؛ ففي سنة 1960، أُنشئت البحرية الملكية. وفي 1969، أُحدث المكتب الوطني للصيد البحري لتثمين الفضاء البحري. وفي سنة 1973، أعلن المغرب رسميا عن مياهه الإقليمية وأقر ما كان يسمى آنذاك منطقة صيد حصرية. وفي 1981، أُعلن عن المنطقة الاقتصادية الخالصة؛ ليتم في سنة 1992 وضع أولى التشريعات المتعلقة بالجرف القاري وباطنه". وتابع المسؤول الحكومي ذاته أن "هذا المسار، الذي قد يبدو متأخرا بالنسبة لدولة ذات تاريخ بحري قديم، هو في الحقيقة متزامن مع المسار العالمي، حيث كانت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي مرحلة التملك الحديث للفضاءات البحرية"، مبرزا أن "المغرب، إن صح التعبير، ركب موجة المؤتمر الثالث للأمم المتحدة حول قانون البحار الذي دون القواعد المنظمة للفضاءات البحرية. ومن هنا، تعزز الارتباط بين قانون البحار والدبلوماسية". وزاد شارحا: "في هذا الإطار، بدأ ملف توسيع الجرف القاري إلى ما وراء 200 ميل بحري، وللاحتفاء بالذكرى العشرين للمصادقة على اتفاقية مونتيغو باي، أودع المغرب في عام 2017 معلومات أولية لدى لجنة حدود الجرف القاري، وكان ذلك أكثر من مجرد تمرين تقني؛ بل فعلا سياسيا بارزا يجمع بين العلم والقانون والدفاع عن الثوابت الوطنية. ثم في 2020 خطا المغرب خطوة إضافية بتبني قانونين مهمين؛ وهما: القانون الخاص بتحديد المياه الإقليمية، والقانون الخاص بالمنطقة الاقتصادية الخالصة". وشدد وزير الخارجية المغربي على أن "هذه القوانين تأتي ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى تحديث تشريعاتنا الوطنية وتوضيح وتأمين حدودنا البحرية في انسجام تام مع اتفاقية 1982′′، مؤكدا أن "الممارسة البحرية المغربية تكشف عن وجود ثوابت تشكل خيطا ناظما للعقيدة المغربية على هذا المستوى؛ أولها الوحدة الترابية، إذ يطبق المغرب في البحر نفس مبدأ الوحدة الوطنية المطبق على اليابسة، خاصة في الأقاليم الجنوبية حيث تمارس المملكة كامل سيادتها وفق القانون الدولي". وأشار المتحدث ذاته إلى أن "من هذه الثوابت أيضا الشرعية القانونية، إذ لم تعتبر المملكة المغربية يوما قانون البحار قيدا، بل أداة توازن وشرعية. ويتجلى ذلك في حرصها الدائم على أن تكون قراراتها في إطار اتفاقية 1982، ورفضها لأي نهج مخالف لها، إلى جانب ثابت رفض الأحادية، حيث إن عقيدتنا في ترسيم الحدود البحرية لا يمكن أن تقوم على سياسة الأمر الواقع. وكلما واجهنا ذلك، كنا نرد رسميا وبحزم وفق ما ينص عليه قانون البحار". وذكر المسؤول الدبلوماسي نفسه أن "المغرب متمسك دائما بالحوار، فالترسيم يجب أن يتم عبر حوار مباشر وهادئ وبناء. والمثال الأوضح على ذلك هو ترسيم الحدود البحرية مع إسبانيا، سواء في المتوسط أو الأطلسي، حيث يُعالج الملف بروح حسن الجوار والشفافية والمصلحة المشتركة"، مشددا على أن "التعاون البحري يعكس واقعا سياسيا أعمق يتجلى في نضج الشراكة الاستراتيجية بين المغرب وإسبانيا. هذه الشراكة تتجاوز قضية الترسيم لتشمل التحديات البحرية الكبرى المشتركة. وهذا يبرهن أنه حين يختار الجوار طريق الحوار، يتحول البحر من خط فاصل إلى جسر واصل". وأبرز أن "قانون البحار لا يقتصر على الترسيم؛ فطموحه هو تعزيز التنمية، وبناء فضاءات للتعاون، والحفاظ على البيئة البحرية، وهذه الفلسفة تنسجم مع الرؤية البحرية التي عرضها صاحب الجلالة الملك، وخاصة في خطابه بمناسبة الذكرى ال48 للمسيرة الخضراء سنة 2023، ذلك الخطاب الذي رسم فيه جلالته ملامح رؤية جيوستراتيجية جعلت من البعد البحري للمغرب ركيزة أساسية لتنميته ولإشعاعه القاري". وزاد قائلا: "من خلال الدعوة إلى تثمين الفضاء البحري واعتباره قطبا للاندماج، أدرج جلالته القدر البحري للمغرب ضمن دينامية تنموية موجهة بالأساس نحو إفريقيا. وهكذا كرس جلالة الملك البحر كرافعة أساسية للازدهار الوطني، ورابطا قاريا، وأداة للدفاع عن السيادة، حيث ربط فعلا بين الوحدة الترابية الكاملة وبين تأكيد المغرب نفسه كفاعل بحري رئيسي. وهذه الرؤية تتجاوز منطق السيادة فقط، لتشمل منظورا للاندماج الاقتصادي والبشري عبر البحر، مع إفريقيا وأوروبا بالأساس". وعلى المستوى الداخلي، أشار بوريطة إلى أن "هذه الرؤية تجسدت في دفع الاقتصاد الأزرق، والتركيز على تطوير الموانئ، خاصة ميناء طنجة المتوسطي، الذي أصبح اليوم من بين الأكبر في المتوسط وإفريقيا، وقريبا ميناء الداخلة الأطلسي الذي يُرتقب أن يكون ميناء محوريا لإفريقيا، وأيضا من خلال الدعوة إلى إعادة تكوين أسطول وطني للنقل البحري قوي وتنافسي، لضمان ربط سلس مع إفريقيا والعالم". وعلى المستوى الدولي، أكد أن "البحر يقف في قلب المبادرات الدبلوماسية الكبرى التي أطلقها جلالة الملك في السنوات الأخيرة؛ بدءا من مسار الرباط الذي يجمع منذ 2022 ثلاثا وعشرين دولة إفريقية أطلسية حول رؤية مشتركة قائمة على ثلاثة محاور: الأمن البحري، حماية البيئة، وتشجيع تنمية زرقاء مستدامة، ثم المبادرة الملكية لتمكين دول الساحل من الولوج إلى الأطلسي، التي أُطلقت في 2023، وتشكل تعبيرا غير مسبوق عن التضامن الجيوسياسي"، مردفا: "هدفها هو كسر عائق الانغلاق ومنح الدول الشقيقة في الساحل وصولا إلى البنية التحتية المينائية المغربية". كما أشار أيضا إلى مشروع أنبوب الغاز الإفريقي–الأطلسي الذي أطلقه جلالة الملك مع رئيس نيجيريا سنة 2016، والذي يُعد أكبر مشروع هيكلي لترسيخ الاستقرار الإقليمي وتحفيز إحداث بنى تحتية محلية تدعم التنمية الصناعية الإقليمية، مسجلا أن "هذه المبادرات الملكية تؤكد بقوة حقيقة ظل جلالته يجسدها، وهي أن كل شيء يصبح ممكنا في إفريقيا عندما تلتقي رؤية قوية مع إرادة صلبة". وخلص إلى أن "هذا المنظور الشامل الذي يتبناه جلالته يكشف عن ثلاثة أبعاد أساسية في علاقة المغرب بالبحر وبقوانينه: أولا، الاقتناع بأن البحر ليس حدودا، بل فضاء للاتصال والاندماج. وثانيا، إظهار كيفية تعامل المغرب مع فضاءاته البحرية واستغلالها، ليس بمنطق دفاعي، بل في إطار شراكة. ثم أخيرا البرهنة على أن المغرب لا يرى في اتفاقية مونتيغو باي نصا جامدا؛ بل أداة حية وديناميكية وقابلة للتطور"، مشددا على أن "العالم تغير، والمحيطات أيضا؛ وبالتالي حان الوقت للتفكير في إصلاح حوكمة المحيطات بما يستوعب التقدم التكنولوجي، ويستجيب للحاجيات البيئية، وينفتح على الاستخدامات الجديدة للبحر".