إن السياسة، كممارسة، تمر بمراحل في تطورها؛ لها تاريخها وعثراتها. تطول هذه المراحل أو تقصر حسب درجات التقدم التي تعرفها المجتمعات البشرية في صيرورتها، وحسب طبيعة النخبة وما تنتجه من أفكار، ومدى فعالية هذه الأفكار من جهة أخرى. المغرب حددت فيه السياسة كفعل للمواجهة، لأن الحزب كتشكيلة سياسية لم يظهر إلا مع الاستعمار الفرنسي، كما هي حالة العديد من دول العالم الثالث، ومن ضمنها الدول العربية. وبعد الاستقلال، وبفعل طبيعة الدولة الناشئة وتبعات الاستعمار وأعوانه، احتكمت إلى العنف منذ البداية. إنها سلطة ناشئة، فرسخت لدى الأحزاب الوطنية "بطولة المواجهة"، وصار المناضل هو القادر على الوقوف في وجه قوة الدولة. فرغم المفاوضات، بقي الحذر سيد الموقع، وكثرت نعرات الحيل لربح الوقت وضمان استمرارية الدولة بكل الأساليب المتاحة. وظهر الزعيم الرافض للاستسلام والقائد للمواجهة، وكلما وهن أو مال إلى التفاوض والقبول، انشقت عنه جماعة أخرى لتشكل حزبًا أكثر رفضًا، سريًا أولاً ثم علنيًا فيما بعد. واستمرت هذه المعركة سنين طويلة، بل مات جل أبطالها، وصار الجيل الجديد من السياسيين يكتسب البطولة بانتمائه لأحزاب المواجهة البطولية، ليصير تراث الصراع متقاسماً مع هؤلاء الأبطال. وطرح السؤال: ألم يحن الوقت بعد لخلق بطولات جديدة؟ قوامها القدرة على خلق الفكر القادر على تأهيل البلد سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا للتخلص من عاهة التخلف؟ أليس راهناً هذه هي البطولة الحقيقية التي على الكل نشدانها، دولةً وأحزابًا؟ أليست البطولة الحقيقية هي خلق الرجال القادرين على ابتداع الحلول الكفيلة بالرقي بأمتهم، في زمن تبذل فيه الدول كل جهدها للحفاظ على رقيها وضمان استمراره؟ هذه هي الرهانات الحقيقية التي تأخر المغرب ليس في تحقيقها فقط، بل في طرحها، مفتعلاً الكثير من المواجهات الخاسرة التي كلفت الكثير من الطاقات والموارد، وأهدر معها زمناً كانت البلاد في أمس الحاجة إليه. لكن الخطير والمخوف منه حالياً أن هناك مؤشرات تحيل على أن هذا الدرس لم يتم استيعابه جيداً من طرف الدولة، وربما الأحزاب الديمقراطية أيضاً. فصراعاتها تشتد، والسلطة السياسية لا تبدي التفهم اللازم لضرورة تطوير ذاتها، حتى تكون دعواتها لتحديث المجتمع مفهومة ومنطقية. وعليها أن تؤهل نفسها أكثر من الأحزاب؛ فهي سلطة، تُوجه وتُقنع بسلوكها أكثر من أفكارها. بهذا الشكل تكون قد ساهمت في تجسيد السياسة الجديدة، التي لا تصير واقعاً بدون سياسيين جدد، أو لنقل أبطالاً جدد، يتنافسون على خلق الفكر السياسي القادر على تحقيق الرقي والرفاهية لكل فئات المجتمع، ويعيدون الثقة إلى المواطنين في السياسة والمجتمع والمعرفة، ويطمئنونهم على مآل أبنائهم ووطنهم.