لأول مرة منذ تأسيس موسم أصيلة الثقافي قبل سبع وأربعين سنة غاب عن منصته مؤسّسه الراحل محمد بن عيسى، الذي أدار أحد أبرز المواعيد الثقافية وجمع طيلة عقود مفكرين ورؤساء دول وإستراتيجيين وأكاديميين وإعلاميين وفنانين وأدباء من قارات العالم، مع تركيز على أسئلة إفريقيا والعالم العربي والثقافة والفنون بوصفها جسرا بين الناس والحضارات. بن عيسى، الذي شغل مناصب مغربيّا وأمميا من بينها مسؤوليته عن وزارة الثقافة ووزارة الخارجية وسفارة المملكة بالولاياتالمتحدةالأمريكية، كرم اليوم الجمعة عندما افتتحت مؤسسة منتدى أصيلة، بمكتبة الأمير بندر بن سلطان بالمدينة، دورة موسمها السادسة والأربعين بندوة عنوانها "محمد بن عيسى: رجل الدولة وأيقونة الثقافة". الفقيد، الذي رحل عن دنيا الناس متم شهر فبراير من السنة الجارية 2024، حضرت وشاركت في جلسة تكريمه أسماء بارزة من ثلاث قارات، من بينها رئيس السنغال السابق، ومستشار ملك البحرين، ووزراء ومسؤولون مغاربة حاليون وسابقون، ووزراء خارجية سابقون لدول من بينها إسبانيا، اليمن، كاب فيردي، مصر، السنغال، والبرتغال. وبعد تلاوة آيات من القرآن قُرئت في افتتاح الموعد الرسالة الملكية إلى أسرة الراحل محمد بن عيسى، وتحدث فيها الملك محمد السادس عن "مسيرة مديدة من العطاء الوطني المثمر (...) سيظل أثره حيا كرجل دولة مقتدر ودبلوماسي محنك، أبان عن كفاءة عالية في مختلف المناصب السامية التي تقلدها (...) ما كان يتحلى به من خصال إنسانية رفيعة، ومن سعة الأفق والفكر وشغف بالثقافة، إذ أخذ على عاتقه همّ الإشعاع الثقافي والفني لمدينة أصيلة، مسقط رأسه، التي سخر نشاطه وجهوده في خدمة تنميتها، وفرض إشعاعها الثقافي والجمالي وطنيا ودوليا، ولاسيما من خلال تأسيسه وتسييره لمؤسسة 'منتدى أصيلة'، مجسدا بذلك مثالا يحتذى على الأخذ الصادق بمفهوم المواطنة المسؤولة" ماكي سال، الرئيس السابق للسنغال، نعى في تدخل عن بعد محمدا بن عيسى، محيّيا فيه "رجل الدولة" و"المدافع الذي لا يكلّ عن الثقافة"، بعدما شكر "أخي الملك محمد السادس، وأعماله المتنورة من أجل الشعب الصديق والشقيق المغرب". وتابع الرئيس السنغالي السابق: "رئيسي السابق ليوبولد سيدار سنغور (رئيس السنغال الشاعر الأسبق) أحب أصيلة، وشارك في موسمها الثقافي، الذي اهتمّ بشعره وإنسانيته (...) منتدى أصيلة الباذخ منصة للإبداع والتميز، من أجل السلام والأخوة؛ وهي قيم حملها بالتزام مؤسّسه الراحل، وعمدة مدينة الأنوار أصيلة (...) وجعله جسرا بين الشعوب والثقافات والحضارات، وترك لنا إرثا غاليا وتحديا لنقل هذا للأجيال المقبلة". وفي كلمة الأمير بندر بن سلطان آل سعود، الذي تحمل مكتبة أصيلة اسمه، وتلاها بالنيابة عبد الإله التهاني، منسق ندوة "خيمة الإبداع"، تذكّر عملهما "سويا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، كل عن دولته، وكان نعم الرفيق والعضد في الدفاع عن قضايا الأمة العربية والإسلامية"، وزاد متحدثا عن "أصيلة، المدينة الحالمة، ومهرجانها الدولي، والعمل سويا على إحداث نقلة في النشاط الثقافي والمعرفي، بتوجيه من الملك فهد والملك الحسن الثاني؛ في رغبة في جعل المهرجان منارة فريدة، تكون جزءا من حراك إنساني". نبيل يعقوب الحمر، مستشار ملك البحرين، عاد إلى تعرفه على بن عيسى قبل نصف قرن، "لما كان يزور البحرين في بدء السبعينيات"، موردا: "كانت لنا رؤى وتوجهات وفكر عروبي مشترك، وعرفته مثقفا متواصلا مع مجتمعه العربي ومتواصلا مع الجميع (...) يؤلمني أن كل الذكريات صارت جزءا من الماضي الذي لا يمكن استعادته، ففقدان الصديق هو فقدان جزء من الذاكرة، وقطعة من الروح وأحاديث لم تكتمل؛ لكن إرثه الثقافي والمعرفي سيظل خالدا لكل من تأثر بمعارفه ورؤاه". وتحدث مستشار ملك البحرين عن دور بن عيسى "البارز في جمع المثقفين والسياسيين والأدباء والفنانين العرب، وإسهامه في حوارات أثرت الثقافة العربية، والتفاهم بين الشعوب، وإسهامه في بناء جسور من الفهم والتعاون بين الحضارات؛ فقد كان داعية إلى التمازج الثقافي، ورفض أن تكون الثقافة حكرا على شعب واحد، وكانت له قدرة رؤية الجمال في التنوع الثقافي". المسؤول في مجلس أمناء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية جمال سند السويدي تحدث من جهته عن "فقد دبلوماسي باذخ ومثقف رفيع، ورائد للعمل الثقافي والدبلوماسي"، مردفا: "عرفته إنسانا نبيلا ورمزا للثقافة في عالمنا العربي (...) وعزاؤنا أثره النافع، ومؤسسته التي تركها نموذجا يحتذى". عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، تحدث عن لقائه مع بن عيسى "أسبوعا قبل أن يرحل"، متابعا: "قضينا ليلة من النقاش، أغلبية ومعارضة، مع نبيل بنعبد الله وأعضاء آخرين"، ثم زاد ناعيا: "كنتَ مسيحيا في السياسة تدير خدك لمن يلطم، وتتأمل دون حديث، وإذا أردت الحديث تأخذ باليد وتطرح الأسئلة تلو الأسئلة بعيدا". محمد الحجوي، الأمين العام للحكومة، تحدث من جهته عن "شخصية لا تعوَّض فقدناها، وجئنا إلى مسقط رأسه لتكريم ذكراه"، مضيفا: "ربطتني بالفقيد أواصر صداقة متينة امتدت لعقود طويلة، أعتز بها، ومناقبه جمّة ولن أوفيه حقه مهما بلغ التعبير من صدق؛ ولقد كان شخصية فذّة، متعدد الانشغالات والاهتمامات بين السياسة والإدارة والثقافة والتواصل، وأحد رجالات الدولة؛ حيث تولى مسؤوليات سياسية ودبلوماسية وازنة، في مراحل مهمة من تاريخ البلاد، وخدم البلاد ونشر إشعاعها في المحافل الدولية، وتولى باقتدار كبير مختلف المسؤوليات العامة، وطنيا ومحليا، وارتبط اسمه بالمدينة، وحقق للجوهرة الأطلسية ما ليس له نظير في المحيط العربي؛ وصارت قبلة للمثقفين والمفكرين والدبلوماسيين من العالم، وصيرها مركزا فكريا وسياسيا وثقافيا يجمع الرؤساء والدبلوماسيين والسياسيين لمناقشة القضايا ذات البعد العالمي". وتابع الحجوي: "بن عيسى من القادة البارزين الذين استلهموا من الرؤية الملكية بشأن إستراتيجية رؤية إفريقيا قارة المستقبل، ووضعها في مقدمة اهتمامات موسم أصيلة الثقافي، وفتح المجال لأبنائها للمشاركة فيه (...) كما بوأ الثقافة الوطنية مكانة مرموقة على المستوى الدولي". أما كلمة عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، التي قرئت بالنيابة، فقال فيها إن بن عيسى "كان تجسيدا للمواطن المغربي المرتبط بأمته العربية وثقافات بلاده، مع ارتباطه بالثقافة الغربية، وهذا المزيج جعله أحدّ ذهنا (...) سمعت عنه وزيرا للثقافة، ثم عرفته وزيرا للخارجية، واقتربت منه في حضوري المتكرر لمنتدى أصيلة، وجمع العالمي والإقليمي والعربي، الأدبي والفني والعلمي (...) وجعل المدينة مركزا ثقافيا". آنا بالاسيو، وزيرة خارجية إسبانيا السابقة، تحدثت عن "حياة في سبيل المملكة المغربية، وقناعة بأن الفن والكلمة سبيل اللقاء بين الشعوب"، وزادت: "مدينته أصيلة هي إرثه، وأحتفظ بذكراه دبلوماسيا كبيرا، ومهنيا ذا معرفة ولباقة وبروتوكول واهتمام؛ كان مثقفا ورجل ثقافة، وأخذه مساره للمؤسسات الدولية الكبيرة، وكانت أصيلة مؤلّفه الذي وقّعه، وتجمعنا اليوم لتكريم ذاكرته". فيكتور بورخيص، وزير خارجية كاب فيردي السابق، اهتم ب"الإسهام الفريد لابن عيسى في إغناء الثقافة بأصيلة والمغرب، بل إغناء الثقافة في كل من شاركوا في الموسم، بل حتى من لم يزوروه وقرؤوا الكتب الصادرة عنه تعرفوا على أصيلة مدرسة التبادل والحوار والتعلم"، مردفا: "كثير مما أعرفه عن إفريقيا اليوم، والعالم العربي والإسلامي خاصة، لأصيلة الفضل فيه، ولذلك فإن الاحتفاء بذكراه هو الاستمرار في حياة روح أصيلة، روح النقاش والثقافة". المسؤول الدبلوماسي اليمني السابق مصطفى نعمان تذكّر "تواضع محمد بن عيسى واقترابه من الناس"، ليضيف: "لقد كان يبحث عن جسور نشر الثقافة والفهم بعيدا عن مستنقعات السياسة، وخلق قبل أكثر من خمسة وأربعين عاما مساحة تحفز الجدل والضمير، والطرح الحر دون قيد سوى احترام الآخر، وكان المنتدى قيمة مضافة". لويس أمادو، وزير خارجية البرتغال سابقا، تحدث عن صداقة جمعته بمحمد بنعيسى لثلاثين سنة، ووصفه بأنه كان "رجل ثقافة وذكاء، وخاصة رجل حكمة"، وزاد: "هو من الشخصيات النادرة في حياتي السياسية التي وجدت فيها بُعد الحكمة". أما حاتم بطيوي، الأمين العام الجديد لمؤسسة منتدى أصيلة، الذي تسلّم مشعل القيادة من مؤسس "الموسم الثقافي" محمد بن عيسى، فتحدث عن "جرح غياب المؤسس والأمين العام"، الذي كانت سمته "الانفتاح، والقلب السليم الذي ليست فيه كراهية للآخر"، مردفا: "يشهد القريب والبعيد أن أصيلة ومنتداها الثقافي كانا معا يشغلان مساحة لا حد لها في وعيه وكيانه وانشغلاته اليومية، تماما بقدر انشغاله بمسؤولياته الوزارية ومهامه الدبلوماسية واهتمامه بقضايا وطنه وأمته العربية، وتفاعله العميق أيضا مع قضايا الإنسانية". وفي ظل "هذا الظرف الانتقالي الصعب" ذكر البطيوي أنه "بُذلت جهود مضنية لسد بعض الفراغ الذي خلفه غياب المؤسس، وبتلاحم الأعضاء وتضامن المثقفين، ودعم كامل من مؤسسات وطننا"، تنظم الدورة الجديد التي تشارك فيها 350 شخصية من عوالم الفكر والفن والدبلوماسية والإبداع؛ ما يعني أن "مدرسة محمد بن عيسى أثمرت خيرا بأصيلة، وتستمر مساهمتها الفعالة في الإشعاع الثقافي للمملكة".