رهان الحوار المؤسس مع "جيل Z" فتح نقاش وحوار حول مطالب الشباب من طرف الحكومة يبقى شيء إيجابي لكن تنزيله أمام أرض الواقع يبقى صعبًا نظرًا لأزمة الثقة وضعف الحكومة والحزب الأغلبي في فرز كفاءات تحظى بالثقة والاحترام. أظن أن جمعيات المجتمع المدني التي تشتغل مع الشباب هي المؤسسات الوحيدة الموجودة حاليًا التي يمكنها أن تكسر حاجز عدم الثقة وتسهّل عملية الحوار المؤسس. لا يجب الانخداع بأن اعتقال المخربين كافٍ لغلق ملف الاحتجاجات وطَيّ الصفحة، لأن التفكير بهذا المنطق سيؤجل الأزمة ولن يحلّها، وهذا ما لا نريده. لقد جاءت الاحتجاجات الاخيرة لتعبّر عن تحوّل عميق في وعي الشباب المغربي، وعن إحباطات متراكمة امتدت على مدى سنوات، نتيجة شعور واسع بالتهميش وضعف الحضور الفعلي للدولة في معالجة قضايا التعليم، التشغيل، والعدالة الاجتماعية. هذه التحركات، مهما اختلفت القراءات حولها، تعكس في جوهرها حاجة ملحّة إلى إعادة بناء الثقة بين الشباب والمؤسسات، وإلى تجديد العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الاحترام المتبادل والمشاركة الفعلية في صنع القرار. إنّ أزمة الثقة التي نعيشها اليوم ليست وليدة لحظة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة من السياسات التي لم تُشرك المواطن، خاصة الشباب، في رسم مستقبلهم. فعندما يشعر الشاب بأن صوته غير مسموع، وأن مشاركته لا تغيّر شيئًا، يصبح الاحتجاج وسيلة تعبير طبيعية عن الرفض. غير أن الخطر الأكبر هو أن تتحول هذه الأزمة إلى قطيعة نهائية، وهو ما يجب تجنّبه بكل الوسائل الممكنة. من هذا المنطلق، الحوار ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية. لكن الحوار لا يكون فعالاً إلا عندما يُدار بصدق، وبكفاءات تمتلك الشرعية الأخلاقية والفكرية للتواصل مع الشباب. الخطأ الذي وقعت فيه الحكومات المتعاقبة هو إفراغ الخطاب السياسي من مضمونه، والاكتفاء بالوعود دون تحقيق إنجازات ملموسة. الشباب اليوم لا ينتظرون الخطب، بل يريدون نتائج، شفافية، وعدالة في الفرص، وإدارة عامة كفؤة تضع المصلحة العامة فوق الحسابات الحزبية والانتخابية. إنّ الحكومة والأحزاب السياسية مطالبة اليوم بأكثر من مجرد الاستماع. المطلوب منها الاعتراف الصريح بوجود فجوة حقيقية في التمثيلية وفي الثقة، والعمل على بناء مقاربة جديدة تقوم على إشراك الشباب في التفكير، في التشريع، وفي التنفيذ. الإصلاح لا يمكن أن يتم من داخل الغرف المغلقة أو عبر لجان شكلية، بل من خلال انفتاح فعلي على الطاقات الجديدة، وعلى الجمعيات والمبادرات المدنية التي راكمت خبرة حقيقية في التعامل مع قضايا الشباب. ولعل دور المجتمع المدني اليوم يكتسي أهمية قصوى. فهو الجسر الوحيد المتبقي بين الشارع والمؤسسات، وهو القادر على ترجمة المطالب العفوية إلى مقترحات عملية قابلة للتنفيذ. الجمعيات التي تشتغل مع الشباب تمتلك المصداقية الميدانية، وتفهم اللغة الجديدة التي يتحدث بها هذا الجيل. لذلك، من الحكمة أن تتجه الدولة إلى دعمها وتمكينها، بدل تهميشها أو التعامل معها بحذر. فالمجتمع المدني القوي لا يضعف الدولة، بل يساندها ويحصّنها من الانزلاقات. أما الاعتقاد بأن المقاربة الأمنية وحدها كافية لإخماد الغضب، فهو خطأ استراتيجي. صحيح أن حماية الممتلكات والأمن العام واجبة، لكن معالجة الأسباب العميقة للأزمة أهم بكثير من التعامل مع مظاهرها. اعتقال بعض المخربين لا يعني أن المشكلة انتهت، بل ربما يزيد من تعقيدها إن لم يُرافق بإشارات إيجابية لفتح قنوات التواصل. المطلوب اليوم هو الانتقال من منطق الإطفاء المؤقت للأزمات إلى منطق الحلول الجذرية والمستدامة. هذا الجيل ليس جيلًا متمردًا كما يُصوّره البعض، بل هو جيل يعبّر عن نفسه بطرق جديدة، جيل وُلد في زمن السرعة والتكنولوجيا، جيل ولد في زمن هيئة الإنصاف والمصالحة، زمن المفهوم الجديد للسلطة، زمن الأوراش الكبرى والنموذج التنموي الجديد... يملك وعيًا حادًا بالعدالة والحرية، ويريد أن يرى بلده في مصاف الدول التي توفر الكرامة لمواطنيها. هذا الجيل لا يطلب المستحيل، بل يريد فقط أن يُؤخذ على محمل الجد، وأن يُنظر إليه كشريك في البناء لا كعبء على الدولة. في المقابل، يجب على الشباب أيضًا أن يدرك أن التغيير الحقيقي لا يأتي من الشارع وحده، بل من المشاركة الواعية في الحياة العامة، من الانخراط في العمل الجمعوي والسياسي، ومن الإيمان بأن الإصلاح يحتاج إلى نفس طويل وصبر جماعي. فالمواطنة الحقة تقوم على الحقوق كما على الواجبات، وعلى النقد البنّاء لا على الهدم. إنّ المغرب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يستثمر الفاعل العمومي هذا الحراك الشبابي كفرصة لتصحيح المسار، أو يتركه يتحول إلى أزمة دائمة تضعف اللحمة الوطنية وتفقد الأمل في المستقبل. المطلوب من الجميع حكومة، أحزاب، مجتمع مدني، ونخب فكرية أن يضعوا اليد في اليد، لإطلاق حوار وطني حقيقي يضع الشباب في قلب تنزيل النموذج التنموي الجديد. فلا يمكن تحقيق مغرب الغد دون أن يكون شبابه في قلب المعادلة، فهم طاقة التغيير ومحرك التنمية. لذلك، يجب تحويل هذا الغضب إلى طاقة اقتراح وبناء، وإعادة الاعتبار لقيمة الكفاءة والجدارة في التعيين، ولثقافة الإنصات والتقييم في الممارسة. في الختام، إنّ الرهان اليوم هو استعادة الثقة: ثقة الشباب في دولتهم، وثقة الدولة في شبابها. هذه الثقة لا تُبنى بالخطابات، بل بالقرارات الجريئة، بالشفافية، بالعدالة، وبخلق قنوات تواصل حقيقية. هذا الجيل ليس خصمًا للوطن، بل هو صوته الصادق الذي يذكّرنا بأن الوقت حان لنُعيد رسم العلاقة بين المواطن والدولة على أسس جديدة من الكرامة، والمسؤولية، والأمل المشترك في مستقبل أفضل.