يُعتبر مفهوم الرأسمال من أهم المفاهيم التي استُعملت في حقل علم الاجتماع من طرف عديد من علماء الاجتماع والباحثين. فإذا كان الرأسمال المادي يتجلى فيما يملكه الشخص من موارد مادية، وإذا كان الرأسمال الثقافي يكمن فيما يتوفر عليه الشخص من شهادات ومهارات، فإن الرأسمال الاجتماعي يتجسد في بنية العلاقات بين الأشخاص؛ فهو نسيج من الواجبات والحقوق المتبادلة بين أفراد المجتمع والمؤسسات الاجتماعية بصفة عامة تجعل المجتمع في تعاون وتوافق. لا شك أن تآكل مخزون الرأسمال الاجتماعي على مستوى مجموعة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية سيؤثر على المستوى المجتمعي ككل، وعلى الثقة بين المجتمع المدني ومؤسسات الدولة. ولا شك أن تكوين وتنمية هذا الرأسمال يبدأ من مؤسسات التنشئة الاجتماعية، ومن أهمها الأسرة. لطالما اعتُبرت الأسرة النواة الأساسية التي يرتكز عليها المجتمع بأكمله. لقد شهدت هذه المؤسسة تغيرات كثيرة أثرت في طرق التنشئة الاجتماعية للأطفال. تُعد البيئة الأسرية المجال الأساسي للتعلم والتفاعل الاجتماعي، ويقع على عاتق الوالدين مسؤولية تعليم أطفالهم المبادئ الأولى للحياة الاجتماعية. لكن التغيرات التي شهدتها وتشهدها الأسرة يمكن أن تؤثر على ذلك، وخاصة فيما يتعلق بحماية الأطفال وتعليمهم. كما قد تؤدي هذه التحولات إلى تعميق الاضطرابات النفسية والسلوكية في العلاقة بين الوالدين والطفل، وبين الطفل والمجتمع. فإذا كنا لا نزال نتوقع من الأسرة أن تعد كل فرد للحياة في المجتمع، فإني أظن أن المخاوف آخذة في الظهور. وأصبح الوالدان يجدان صعوبة في تربية أبنائهم، خاصة المراهقين، وأضحيا يعيشان قلقاً من عدم القدرة على السيطرة الاجتماعية والأخلاقية على اختيارات وسلوكيات أبنائهم. لقد شهدت مؤسسة الأسرة في الواقع المغربي تغيرات كبيرة الحجم وبسرعة غير عادية يمكن أن تؤكد هذه المخاوف. برزت نسب الطلاق بشكل ملفت في السنوات الأخيرة، وهذا ما ذهبت إليه آخر الإحصائيات في المغرب، حيث سجلت سنة 2021 حوالي 27000 حالة طلاق مقابل حوالي 20000 حالة في سنة 2020. وسجلت نسب الطلاق بين سنتي 2008 و2021 ارتفاعاً بنقطة واحدة، حيث مثلت حالات الطلاق نسبة 9% من عدد عقود الزواج سنة 2008، وحوالي 10% من هذه العقود سنة 2021. كما تضاعف عدد قضايا التطليق بالمحاكم المغربية بين سنتي 2010 و2022، حيث انتقل من 33564 إلى 61147 قضية. وتزايدت نسبة النساء المطلقات اللواتي يعشن بمفردهن خلال العشر سنوات الأخيرة، منتقلة من 11.8% سنة 2010 إلى 13.2% سنة 2022 (أنظر إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط حول المؤشرات الاجتماعية والمرأة المغربية في أرقام). تغير الشكل البنائي للأسرة المغربية، وغدت الأسرة النووية الشكل البارز في المجتمع المغربي، خاصة في الوسط الحضري. انخفض عدد الأسر المركبة، ناهيك عن ارتفاع عدد الأمهات العازبات اللواتي يجدن أنفسهن أمام مسؤولية رعاية الطفل وصعوبة التوفيق بين الرعاية المنزلية والعمل مدفوع الأجر. وتزداد مسؤولياتهن وأعباؤهن المالية لتوفير احتياجات الطفل. إن تعدد هذه المسؤوليات وعدم الاستقرار المهني وعدم كفاية الدخل قد ينتج أطفالاً يكون الشارع ملاذهم والعنف طريقة تعبيرهم. ولا ريب في آخر أرقام وزارة الداخلية التي أشارت إلى أن الاحتجاجات التي شهدتها بعض المدن المغربية مؤخراً شكل فيها القاصرون من 70% إلى 100%. كل هذا وقد تزايد معدل العنف الأسري ضد المرأة بمقدار نقطة واحدة بين سنتي 2009 و2019، حيث انتقل من 51.0% إلى 52.1% بين النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 18 و64 عاماً، حيث يبقى العنف النفسي هو الأكثر شيوعاً في الفضاء الزوجي ب43%. كما عانت 9.9% من النساء على الصعيد الوطني على الأقل من عنف جسدي عنيف (أنظر أرقام المندوبية السامية للتخطيط حول العنف ضد النساء). تُعدّ الأسرة المغربية اليوم في قلب تحولات بنيوية واجتماعية عميقة، لم تكن في كثير من الأحيان مهيأة لها بالشكل المطلوب، وهو ما انعكس سلباً على أدوارها ووظائفها التقليدية. فالأسرة، باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع وأولى مؤسسات التنشئة الاجتماعية، تضطلع بمسؤولية إعداد الطفل وتأهيله للاندماج في الحياة الاجتماعية. غير أنّ انتقال الطفل لاحقاً إلى مؤسسات أخرى، وفي مقدمتها المدرسة، يكشف عن امتداد أثر تلك التحولات، إذ إن المؤسسة التعليمية نفسها لم تسلم من ديناميات التغيير التي أثرت في مردوديتها ووظائفها التربوية. -باحث في علم الاجتماع