في ظلّ التحوّلات المتسارعة التي تعرفها منظومة العدالة والصحة في المغرب، جاءت تصريحات وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، حول "تجريد الخطأ الطبي من طابعه الجنائي" لتفتح باباً واسعاً للنقاش المجتمعي والمهني. فالمقترح الذي يدعو إلى معالجة الخطأ الطبي ك"إخلال مدني" بدل "جريمة جنائية" يبدو، للوهلة الأولى، محاولة نبيلة ل"إعادة الثقة" بين المرضى والأطباء، و"تحرير الطب من رعب العقوبة". لكنّ هذا الطرح، رغم نواياه الحسنة، ينطوي على مخاطر جوهرية تهدّد حقّ المريض في السلامة، وتُضعف من آليات الرقابة المهنية، بل وقد تُشرّع للإهمال تحت غطاء "النية الحسنة". أولاً: بين "النية" و"المسؤولية"... أين يكمن العدل؟ يُصرّ الوزير على أن "الطبيب مُلزم بالوسائل لا بالنتيجة"، وهو مبدأ قانوني معروف في العديد من التشريعات. لكنّ هذا المبدأ لا يمكن أن يكون درعاً يقي الطبيب من كل مساءلة، خاصة حين يتجاوز الخطأ حدود "الخطأ المهني" ليصبح "إهمالاً جسيماً" أو "تجاهلاً صارخاً للمعايير الطبية". فهل يُعقل أن يُحقَن مريض بمحلول طبي منتهي الصلاحية، أو يُجرى له تدخل جراحي على العضو الخطأ، ثم يُكتفى بتعويض مالي دون مساءلة جزائية؟ إنّ مثل هذه الحالات لا تُصنّف كأخطاء طبية عابرة، بل كأخطاء جسيمة ترقى إلى اختلالات خطيرة تمس سلامة الإنسان وكرامته، بل وقد تُنهي حياته. وهنا، لا يكفي التعويض المدني، لأنّ العدالة لا تُقاس فقط بالمال، بل أيضاً بالعقاب الرادع الذي يُرسي مبدأ المسؤولية. ثانياً: هل "الخوف من العقوبة" يُفسد الطب؟ يذهب الوزير إلى أن "الطب يعيش في رعب دائم من العقوبة"، مما يُضعِف عزيمة الأطباء ويُقيّد حريّتهم في اتخاذ القرار. لكنّ الحقيقة أنّ الخوف المشروع من العواقب القانونية ليس عائقاً، بل حافزاً على التقيّد بأعلى معايير المهنية والدقة. فالطبيب، ككلّ مهني يتعامل مع حياة البشر، لا بد أن يكون واعياً بأنّ خطأه قد يكلّف إنساناً حياته. وهذا الوعي لا يُضعفه، بل يُقوّيه. ليست العقوبة هي المشكلة، بل ذلك "التشهير" و "المحاكمات العشوائية" التي تنتج عن غياب آليات تحقيقيّة وتقييمية طبية مستقلّة، وعن انعدام محاكم متخصّصة قادرة على فهم طبيعة الخطأ الطبي وسياقه المهني. ثالثاً: التعويض المدني لا يكفي... والضحية ليست سلعة من المُسلّم به أنّ الضحية يجب أن تحصل على تعويض عادل، لكنّ تحويل كلّ خطأ طبي إلى قضية مدنية يُفقِد الضحية حقّها في العدالة الشاملة. فالتعويض المالي لا يُعيد الحياة لمن فُقِدت، ولا يُعيد البصر لمن أُعمِي، ولا يُعوّض الألم النفسي الناتج عن الإهمال. بل إنّ هذا النهج قد يُشجّع بعض المؤسسات الصحية الخاصة على التلاعب بالتعويضات، والضغط على الضحايا لقبول مبالغ زهيدة مقابل التنازل عن أيّ متابعة جزائية. وفي مجتمع يعاني أصلاً من تفاوت في القدرة على الوصول إلى العدالة، فإنّ هذا التوجّه قد يُعمّق الظلم بدل أن يُحقّقه. رابعاً: الحلّ في التوازن، لا في التبرير لا أحد يدعو إلى "تجريم كلّ خطأ"، ولا إلى معاملة الأطباء كمجرمين لمجرّد أنّهم بشر يخطئون. لكنّ الحلّ لا يكمن في إلغاء البُعد الجزائي كليّاً، بل في تمييز دقيق بين: الخطأ المهني الناتج عن ظروف استثنائية أو تعقيدات طبية غير متوقعة، والذي يُعالج مدنياً. والإهمال الجسيم أو الخرق الصارخ للمعايير المهنية، الذي يستحقّ مساءلة جزائية. وهذا التمييز لا يمكن أن يتحقّق إلا عبر: محاكم متخصّصة في القضايا الطبية، تضمّ خبراء طبيين وقانونيين. لجان تقييم مستقلة تُحدّد طبيعة الخطأ قبل إحالته للقضاء. تشريع دقيق يُفصّل بين درجات الخطأ، ويُراعي خصوصية المهن الصحية دون أن يُفرّط في حقوق المرضى. خاتمة: الثقة لا تُبنى بالإفلات من العقاب، بل بالشفافية وبالمساءلة الثقة بين المريض والطبيب لا تُبنى بإلغاء الرقابة، بل بتعزيز الشفافية، واحترام الحقوق، وضمان قيام كلّ طرف بواجبه دون ظلمٍ أو تجاوز. فالمريض ليس أرضًا لاختبارات طبية، والطبيب ليس مَلَكًا معصومًا. والعدالة الحقيقية هي التي توازن بين حماية الطبيب من الملاحقات التعسفية، وحماية المريض من إهمال قد يكون قاتلًا. لذا، نقول للوزير: لا تُقدّموا "الإصلاح" ذريعةً لتخفيف الحساب. فالطبيب الذي يُخلّ بقسمه، ويُهمل في واجبه، لا يستحقّ الحماية باسم "النية الحسنة". وإن كنتم صادقين في رغبتكم في "إعادة الثقة" ، فابنُوها على أسس العدالة، لا على رمال الإفلات. -باحث في العلوم السياسية