كأنّكِ في غرفةٍ معتِمةٍ؛ وضوء صغير في مكان ما بعيد عنْكِ، لكنكِ تريْنه على بعْد سنتمترات قريبة، فالبعيدُ أصبح قريبا، كأنّ قوّة داخليةً غامضةً تزوبعكِ؛ لا تقْوينَ على مقاومتها ولا تَحْكيمِها بشكل عقلاني، كأنّك أرض مُجدِبة تستروحُ بوابل المطر، كأنّ الوطن الغافي يستيقظ فيك جارفاً، فتتّسعُ ضلوعك لاحتضان العالم، وتشربين من نبع الفرح العذب دون ارتواء بعد عطش طويل، و تتحسسين الحلم كجسد مسجى بجانبك: أهو حقيقة بجانبي؟ هل ينبض حقاّ ؟ هل أستطيع الركض فيهِ إليّ؟ هذا ما اعتراني بعد الفوز بكأس العالم للشباب في التشيلي. كأنّكِ حلمتِ هذه الأيام بسماء زرقاء، وحين استيقظتِ كانت وثْبات الأشبال تطاول عنان السماء رفَعَتْ عاليا سقف وطنكِ، ومشيتِ على غيمة دون خوف الارتطام بصلادة الوجود، في سماء حيث لا فواصل ولا حدود، تتوحد فيها النقائض وتتشابك في نسيج سيمفوني، فيمتزج الأمل واليأس والحلم والحقيقة والوهم والواقع. وكان فرحكِ عاريا يحضن العالم؛ حقيقيا غير مدجّن، في سلام وهدنة مع وطن الأعماق. كأنك تندمجين في وحدة الكون اندماج الجذور بالتربة؛ الفرح أرضك وسماؤك، أنت لطالما كنت في تنافر أبديّ، في منطقة سحيقة محكمة السد، حيث العصف والرفض قرآنك، وحيث الوعي الشقيّ برعب الهوّة الكبيرة بين الموجود والمبتغى يكبر يوما بعد يوم، وحيث الإقامة في المنفى خارج الزمن والمكان، في محيط قاسٍ لايرحم رهافة الذات ولا شفافية المشاعر ولا سِعة الرؤى و تصدعات الروح. هي غربة اختيارية ظللت تحملينها كحقيبة سفرك؛ بكامل عطشك للمعرفة وللقِيَم الإنسانية وللعدالة، خارج ارتطام كهف الصدى، لكن العالم كان بداخلك عميق الغور، لاستعادة وضوح النفس وشفافيتها وقدرتها على التعبير، ولإعادة صوغ الواقع وتجاوزه سعيا للتحرر من سيطرته، ومهما مشيت في قارات العالم، ستظلين لامنتمية كما يصفك كولن ولسن، تقيمين في كل أرض ولا أرض لك، حيث الحرية وطنك واللغة وجودك وبيتك الآمن. كأن شوارع مدننا كانت مطرزة بالنجوم والأمل؛ كقصيدة قُدّت من ذهب، تستجلي ما استخفى في اللاوعي من حلم ببطولات وأمجاد هامدة، تمتد الجحافل وتتشعب وتكبر كِبر الحلم، لم يكن من العسير عليك التحديق في عيونهم الهائمة وهم يبكون بكاء حلوا مضيئا، حيث السعادة تقطن وجوههم، يعانقون أحلامهم وأمنياتهم المحبطة، وقد نمت للفرحة أجنحةٌ جبّارة أطلقوا لها العنان، كأنهم بشر من عالم جديد أتوا من صلب عالم آخر ليتطهّروا بالفرح ويطهّروا هذا الوطن من عُقد نقصه ويأسه وخيباته ومراراته.