من أغرب المفارقات في التاريخ السياسي الحديث أن تتحول دولةٌ بنت شرعيتها على حرب تحرير ضد الاستعمار إلى أداةٍ لإعادة إنتاج منطقه. هذا هو حال الجزائر في قضية الصحراء. فمنذ عقود، تتقمص الجزائر دور "المدافع عن حق تقرير المصير"، لكنها في الجوهر لا تفعل سوى ترجمة مفردات المستعمِر إلى لهجة وطنية. إنها، بتعبير المفكرة غاياتري سبيفاك، "المخبر المحلي" للاستعمار — ذاك الذي يتحدث بلسان المقاومة بينما يردد سرديات الهيمنة ذاتها. تقدّم الجزائر نفسها كصوت الثورة والتحرر، لكنها في ممارساتها الدبلوماسية تبدو كوكيل سياسي (proxy) للاستعمار الذي قسم المنطقة قبل عقود. فحين تتمسك بخطوط الحدود التي رسمتها فرنسا، وتتعامل معها كأنها وحيٌ سياسي لا يجوز المساس به، فإنها تدافع في الحقيقة عن "الخرائط الكولونيالية" لا عن سيادة الشعوب. ومن المدهش أن الدولة التي رفعت شعار "التحرر من فرنسا" باتت تحرس تركة فرنسا بكل إخلاص. خطاب "تقرير المصير" الذي تتشبث به الجزائر ليس بريئًا. فهو قائم على نموذج أوروبي خالص للدولة والسيادة، نموذج لا يعترف بالروابط التاريخية والروحية التي جمعت عبر قرونٍ بين الصحراء والعرش المغربي من خلال البيعة، باعتبارها شكلًا أصيلاً من أشكال التعاقد السياسي. باسم التحرر، تُعيد الجزائر إنتاج الاستعمار. باسم الثورة، تُكرّس الجمود. وباسم القانون الدولي، تُخفي حقيقة سياسية بسيطة: أن قضية الصحراء هي قضية وحدة تاريخية وهوية وطنية، لا "نزاع حدود" كما تحب أن تصوّرها. ما يحدث اليوم هو ما وصفه والتر مينيولو ب"التكرار الكولونيالي": حين تتحول لغات المقاومة إلى أدواتٍ داخل المنظومة نفسها التي كان يُفترض بها أن تسقطها. فالجزائر، بدل أن تفتح أفقًا لما بعد الاستعمار، تعيد الاستعمار إلى المسرح بلباس جديد. إنّها دولة ما بعد كولونيالية لم تتحرر بعد معرفيًا، لأنها لا تزال تتكلم بلغة المستعمِر، وتفكر بمنطقه، وتبني شرعيتها ضد المغرب لا من خلال مشروعٍ وطنيّ حقيقي. في المقابل، قدّم المغرب نموذجًا آخر للسيادة، أكثر مرونة وعمقًا. فبدل أن يستنسخ الدولة الحديثة بنسختها الغربية، أعاد المغرب ترجمة مفهوم السيادة ضمن مرجعيته الحضارية الخاصة، فدمج بين التقليد الديني المتمثل في البيعة وبين متطلبات الحكم العصري. هذه "الترجمة المغربية" للسيادة ليست عودة إلى الماضي، بل فعل حداثي أصيل يعيد وصل ما قطعه الاستعمار من علاقة بين الهوية والسياسة. الجزائر، إذن، ليست خصمًا بقدر ما هي صدى متأخر للاستعمار. خطابها عن التحرر ليس إلا إعادة تدويرٍ لخطاب المستعمِر، وموقفها من الصحراء ليس دفاعًا عن مبدأ بقدر ما هو تمسكٌ بنظامٍ من الخرائط والعقائد السياسية التي رسمها الآخرون. هي، بكل بساطة، الوكيل الإقليمي للاستعمار القديم في ثوبٍ جديد. لكن ثمة طريق آخر ممكن. فالمغرب الكبير لا يمكن أن يستعيد مكانته إلا حين تتحرر الجزائر من دور "النيابة" و"الوكالة"، وتستعيد حقها في التفكير خارج لغة المستعمِر. عندها فقط يمكن لشعوب المنطقة أن تكتب تاريخها بلسانها، لا بترجماته المشوهة، وأن تصوغ سيادتها في معجمها الخاص لا في قواميس باريس أو مدريد. فالتحرر الحقيقي لا يبدأ من البندقية... بل من اللغة التي نُفكّر بها.