أمام ما يمكن أن يُعتبر ظاهرة انحراف في الحقل الأكاديمي، وفي ميدان البحث العلمي من غياب الضمير المعرفي، حيث طغت السرقات، وفشت الانتحالات، حتى كادت المصداقية والنزاهة تذبلان في هذا المجال، وكادت هيبة البحث العلمي الرصين تتوارى، أصبح من الضروري الوقوف على بعض أسباب هذا الانزلاق في التوجه العلمي. فما هو هذا البحث العلمي الذي لا تصح الحياة إلا به، والذي بدأ الوباء يتسلل إليه؟ 1- البحث العلمي هو عملية منظمة تهدف إلى اكتشاف المعرفة أو تطويرها باستخدام منهجيات دقيقة، وهو يتطلب التفكير النقدي، والتحليل المنطقي، والقدرة على التفسير الموضوعي للبيانات. وله أخلاقيات خاصة، تشير إلى مجموعة من المبادئ التي تحكم سلوك الباحث أثناء إجراء الدراسة، وتشمل: الصدق، النزاهة، احترام حقوق الآخرين، والالتزام بالمعايير الأكاديمية. وهذه الأخلاقيات تضمن أن يكون البحث نزيهًا، مسؤولًا، ومفيدًا للمجتمع. وقد ظهرت الحاجة إلى تنظيم أخلاقيات البحث العلمي بعد ممارسات غير إنسانية في بعض التجارب، مثل تجارب النازيين على البشر خلال الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى صياغة مواثيق دولية مثل "إعلان نورمبرغ" و"إعلان هلسنكي". ومع مرور الوقت، بدأت الجامعات والمؤسسات البحثية في تطوير سياسات داخلية تنظم أخلاقيات البحث، وتشكيل لجان مختصة لمراجعة المشاريع البحثية، خاصة تلك التي تشمل البشر أو بيانات حساسة. 2- المبادئ الأساسية لأخلاقيات البحث العلمي أ- الصدق والنزاهة: فعلى الباحث أن يكون صادقًا في جمع البيانات، وتحليلها، وتقديم النتائج صافية، بعيدًا عن التزوير أو التلفيق، لأنها تهددان مصداقية البحث ويؤثران سلبًا على المجتمع العلمي. ب- الشفافية: وتعني الإفصاح الكامل عن منهجية البحث، ومصادر البيانات، وأي تضارب محتمل في المصالح. لأن هذا يسهل على الآخرين تقييم جودة البحث وإعادة تطبيقه. ج- المسؤولية عن العمل: وذلك لأن البحث موجّه لخدمة المجتمع، لا للإضرار به أو استغلاله. د- مراعاة الأثر الأخلاقي لنتائج البحث. ولا تكون كذلك إلا إذا اتصف الباحث بالأمانة العلمية في جميع مراحل البحث، من صياغة الفرضيات إلى نشر النتائج، دون أن يسعى إلى التلاعب أو التزييف من أجل تحقيق مكاسب شخصية. وبالالتزام بالمعايير الأكاديمية، من احترام قواعد التوثيق، وتجنب الانتحال، والامتثال للسياسات المؤسسية. فالباحث الجيد لا يتجاوز الحدود الأخلاقية مهما كانت الضغوط. ثم بالنقد الذاتي، وبالقدرة على تقييم الذات والاعتراف بالأخطاء، فهذا يعتبر من أهم صفات الباحث الأخلاقي. فالنقد الذاتي يعزز من جودة البحث ويمنع التكرار غير المجدي. 3- انتساب الأفكار والجهود إلى أصحابها الحقيقيين. إذ لا يجوز إدراج أسماء أشخاص لم يساهموا فعليًا في البحث، كما لا يجوز إغفال من ساهموا فيه. يجب أن يكون ترتيب الأسماء في النشر العلمي عادلًا ويعكس حجم المساهمة. ولا غرو أن التوثيق الجيد يسهل التحقق من المعلومات ويعزز مصداقية البحث، ويساعد على اكتشاف السرقة والانتحال أو نسخ أفكار الآخرين دون توثيق، لأن ذلك يعد انتهاكًا صارخًا للأخلاقيات. ولهذا تتمسك المؤسسات الأكاديمية بفرض عقوبات صارمة على مثل هذه الممارسات، وقد تصل إلى سحب الدرجة العلمية أو الفصل من المؤسسة. 4- وتكتسب أخلاقيات البحث في العلوم الإنسانية أهمية كبرى، في مقدمتها احترام ثقافة الآخرين وعدم المساس بها، فالبحث فيها لا يخوّل للباحث لمزها والطعن فيها أو ذمها، فالثقافة جزء من الذات، وهي أساس من أسس بنائه القويم. يجب أن يكون الباحث حياديًا. 5- ومن ضمن أسباب غروب شمس النزاهة عن سماء البحث العلمي التنافس على النشر للحصول على مقابل مادي، والتهافت على الترقية. فقد يدفع هذا بعض الباحثين إلى تجاوز الأخلاقيات بحيل خاصة. ومن المهم إيجاد توازن بين الطموح والالتزام الأخلاقي، وتوفير بيئة بحثية صحية، لا يحس فيها الباحث بتهديد حياديته واستقلاليته. ولا يغيب عنا أن لجان الأخلاقيات الأكاديمية تقوم بعمل محوري في مراجعة المشاريع البحثية، وتقديم التوجيه، وضمان الالتزام بالمعايير الأخلاقية. 6- وضروري هنا الإشارة إلى وجوب إدماج أخلاقيات البحث في المناهج الدراسية، وتنظيم ورش عمل ودورات تدريبية للباحثين والطلاب. فالتوعية المبكرة تساهم في بناء ثقافة بحثية مسؤولة. وينبغي التذكير بأن التنوع الثقافي يعلمنا الحذر في التناول، فما يُعد مقبولًا في ثقافة معينة قد يُعد انتهاكًا في أخرى. لذا على الباحث أن يكون حساسًا للسياق الثقافي الذي يعمل فيه، وأن يتجنب فرض معايير أخلاقية غربية أو محلية دون مراعاة الخصوصية الثقافية للمجتمع المستهدف. فاحترام السياق، والتنوع الديني والاجتماعي، والمعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية من الأولويات في تصميم أدوات البحث، خاصة في المجتمعات المحافظة أو الحساسة. إن أخلاقيات البحث العلمي ليست مجرد قواعد تنظيمية، بل هي جوهر العملية البحثية. وإن الالتزام بها يضمن إنتاج معرفة موثوقة، ويعزز ثقة المجتمع في المؤسسات الأكاديمية. ففي عالم سريع التغير، تبقى الأخلاقيات هي البوصلة التي توجّه الباحث نحو الحقيقة والعدالة، وتحميه من الانزلاق في مسارات غير مسؤولة. وترسيخ هذه الأخلاقيات مسؤولية جماعية تقع على عاتق الباحثين، والمؤسسات، والمجتمع العلمي ككل.