في أواسط الستينيات من القرن الماضي، كانت هناك عرصةٌ لأحد أثرياء مدينة فاس، تم تحويلها – بعد ترميمات – إلى مدرسة، دُعيت فيما بعد باسم الحي الزربطانة، تتوسَّط غرب مدينة فاس العتيقة، بجوارها بوابة تفضي إلى منزل أثري فخم من الطراز الفاسي، أُعدّ طابقه السفلي ليكون مقرًّا لإدارة المدرسة، ومقصَدًا للراغبين في التبرُّك بسحنة المدير والنَّيل من تمائمه، والتي غالبًا ما كان يسطرها بمداد الصمغ على أقراص من الخبز. يشتغل تحت إمرته حراسٌ وشوَّاشون ونقَّاشون (بستانيون). تأوي المدرسة فصولًا مرتَّبة من التحضيري إلى المتوسط الثاني، ذات فناء رَحِب تحده حديقة بطابقين دائمة الاخضرار بأشجار الرمان والزيتون. لها بوابتان، إحداهما موالية لمقبرة عائلية مهجورة، عادة ما كانت عتبتها مقعده المفضَّل في انتظار أوان الدخول، فإذا انتهى إلى مسامعه دوي مزلاج الباب انتفض واقفًا، وسط لغط وضجيج الغلمان من التلاميذ، كلٌّ يريد الالتحاق بحجرته. كانت حصة مادة "الحساب" ومعلمها أبغض الساعات إليه، سيِّما بفترة الصباح، حينما تستهل حصة الدرس باستظهار جداول الضرب بشكل عشوائي. كان المعلم يباغت ضحاياه، فيسأل: "7 في 5، كم؟" فإن تلكَّأ أحدهم في الإجابة أو أخطأ، أسرع إليه بمسطرة معدنية، وضرب بها جَمْع أنامل يده، وكم منهم من انشقت أظافره وهو يتلقى العقاب، سيِّما في أيام يناير الباردة! ولا يعلم كيف تظافرت الظروف حتى أصبح أول تلميذ بالصف يحصل على أعلى نقطة في مادة الحساب، وكيف أهلته هذه "المهارة" ليتمكن من حل المسائل الحسابية، مهما تعقَّدت معطياتها. ولا يزال يتذكر استدعاءه من قبل أترابه وأصدقائه لينضم إلى جلسة فك رموز مسائل حسابية ذات مجاهيل معقَّدة، لدرجة من الجسارة، تحدى بها كراسة مسائل شهيرة بعنوان (Les 1300 problemes) "P.JOREZ & G.KOËLL". أصحاب "الخبزة" بالنظر لوضعيته الأسرية، أدرجوه في قوائم المسموح لهم "بالإطعام"، أو ما كان يطلق عليه استخفافًا "أصحاب الخبزة". بيد أن هذه الخبزة "الكُومِيرا البنية" وبقرار فَوقي تحولت إلى مطعم بوجبة كاملة، تُمنح على مدى أيام الأسبوع وحتى أوقات العطل المدرسية. يقع المطعم بحي البطحاء مجاورًا لمقر البريد، ولتحاشي الوقوف طويلًا في الطابور الذي كان يمتد خارج المطعم، كان بمجرد سماع رنين الجرس تعقد خيوط الأحذية وتحزم المحافظ.. لتنطلق السيقان في سباق جماعي محموم، أشبه بمسافة المايل، وتخاله أحيانًا شبيها بالكوريدا، تجوب دروبًا متعرجة، عابرة المركز الثقافي البريطاني.. إلى مقر المطعم، بمسافة تزيد قليلاً أو تنقص عن الكيلومتر الواحد. وكم كان إحساسه بنشوة "السبق" وهو يتسلم أطباق الوجبة وأنفاسه ما زالت تتلاحق لهثًا. الهدر المدرسي أحيانًا يتناهى إلى أسماعهم وهم ينتظرون ولوج المعلم إلى الحجرة، بأن عليهم المغادرة لغياب مفاجئ، فينضم إلى فيالق "زَهِدَت" في الدراسة. يلتقي جميعهم في "خربة" هناك، إما لتتبُّع مشاهد مسرحية لعنترة بن شداد، أو مسرح موليير. يتطوَّع بعضهم لجلب الإكسسوارات والماكياج وأسلحة خشبية، كانت محدودة في الخناجر والسيوف والدروع.. كانت مشاهد ممتعة، وهم يقتعدون حافة الصور، يتتبَّعون بشغف كبير فصولًا في "العنتريات"، بلغة عربية جد فصيحة. والمفارقة أن هؤلاء الممثلين "التلاميذ" يُحسبون في اللائحة السوداء، لمروقهم ونفورهم من الدراسة وميلهم "الفطري" إلى اللهو والتمثيل. التنمر والفصل فيه كعادته، يبدو منطويًا على نفسه، بعيدًا عن دوامات الشغب. جلّ أوقاته داخل الفصل، سيِّما في فترات الاستراحة أو انتظار المعلم، كان يمضيها في الرسم على السبورة بالطباشير الملون. وكم كان يستهويه رسم غلاف الكراسات آنذاك من قبيل "الشجاع"! فيرسم الفارس ممتطياً صهوة جواده وبألوان زاهية... نالت إعجاب الكثيرين، ممن منهم المراقب العام الذي وقف يومًا يتأمَّل تلك الرسوم بنظرات لا تخفي إعجابه.. فيلتفت إلى جماعة القسم ويسأل بنبرة ودية: "من صاحب هذه الرسوم؟" حينها تنبري الأصابع مشيرة إليه قاعدًا في الصفوف الخلفية، فيقرضه بكلمات، ويعرض عليه تكبير صور! ولفرط هدوئه وانغلاقه على نفسه، كثيرًا ما كان بعض المتنمرين يسطو على حصته الغذائية، فيزدردها أمام الجميع بغطرسة عالية. بيد أن نظرات المواساة لم تفتأ تلاحقه فيئس منها، خلافًا لآخرين كانوا يبادلونه نظرة اشمئزاز لصمته أمام هذه "الحِكْرَة". كانوا أحيانًا يتحلَّقون من حوله ويسائلونه بنبرات لا تخلو من تحقير: "مالك أصاحبي.. ما عندك نفس؟!" "علاش ما تقجو.. واش خايف منو..؟!" فأصبح مشحونًا بما فيه الكفاية، وانقسم من حوله إلى فريقين: فريق يؤازره ويدعوه إلى الانتقام، وفريق موال للمتنمرين، يصول ويجول بين التلاميذ بكل عنجهية ووقاحة. وقد جرت العادة بين أطفال الحارة؛ إذا ما لاحظ أحدهم اعتداء سافِرًا عليه، أو محاولة إسقاطه أرضًا، يخاطب خصمه بهذه العبارة: "هاكارتك..!" والتي تعني مقابلة للعراك والفصل بينهما وسط شهود. وهو ما جرى مع صديقنا "الهندسي" كما كانوا يدعونه، فاتَّفق الفريقان على أن تكون "المصلى" ملتقاهم خارج المدينة، لتشهد نزالاً بين "الهندسي" وكبير المشاغبين وزعيم المتنمرين "الخمَّار"، بعد منتصف الظهيرة. وفي الغد، طرق باب منزله ثلة من أنصاره، اتجهوا جميعًا صوب المصلى حيث ينتظر الفريق الخصم بزعامة الخمَّار. تجرد كل منهما من الأحذية واندفع بكلتي يديه إلى الخصم، تذرَّعا حِينًا فسقطا، ثم نهضا، وتبادلا اللكم والركل وسط هتافات الفريقين: "اعطيه لراسو.. ضربو لكرشو.. ازويه.. مترخيلوش.. يالله آلخمَّار.. عنداك آلهندسي..!". كان صاحبنا "الهندسي" لا يفتر، بين الحين والآخر، يوجِّه لكماته، فلم يستمر العراك أكثر من بضعة دقائق حتى؛ وعلى حين غفلة؛ صوَّب له نطحة فأسقطه أرضًا.. غير قادر على النهوض، فتعالى الصفير والهتافات، وتحلَّق الأنصار بالهندسي، وهم يبادلونه نظرات الإعجاب والشهامة، فيما تشرذم الفريق الآخر وذهب يجر أذيال الخيبة، تاركًا خلفه "الخمَّار" يترنَّح في مشيته صاغرًا.ه صاغرا.