بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    البطولة: اتحاد طنجة المنقوص عدديا ينتصر على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتن الصوفي مرجعيةً للقيم الكونية
نشر في هسبريس يوم 14 - 09 - 2014

تنطلق هذه المحاولة من مقدمتين نظريتين أساسيتين، يمكن تنضيدهما كالتالي:
- أولا، اعتبار التصوف الإسلامي، في وحدته وتعدده، حلقة متأخرة وأكثر تبنينا في سلسلة متصلة الحلقات من سيرورة التصوف الإنساني بمختلف تجلياته اليهودية والمسيحية، وما تداعى إليها مما يسمى بروحانية الشرق القديم؛
- ثانيا، خضوع التصوف مثل غيره من أشكال الخطاب، معرفة وتعبيرا، لقدر تأويلي دينامي ومعاصر يستكشف مسالك مغايرة للمعنى، لا تظل بالضرورة سجينة السياقات البدئية لتشكل الخطاب الصوفي أو مقصدياته المحايثة.
وفي ضوء هاتين المقدمتين، جدير بأن ينظر إلى التصوف، كما تناهى إلينا، بمثابة نتاج للتجربة الإنسانية المتراكمة، فيما يتعلق بجدل القدسي والدنيوي، وأن نتناوله اليوم ضمن مقترب تحليلي يروم تجديد التأمل في المتن الصوفي، وتحيين الأسئلة والقضايا التي يمكن أن يستثيرها رصيده المعرفي والجمالي والسلوكي، في ظل التحولات المطردة الذي ما فتئت تطرأ على محفل التلقي بمختلف آفاقه وآلياته.
وفي إطار هذا المقترب الذي تأسس وترسخ - طبعا- على يد ثلة من المفكرين والباحثين (1)، سبق أن اشتغلت على التراث الصوفي في ضوء تيمة "الجسد" (2) وما تطرحه من أسئلة نابعة من تصورات فكرية ونظرية ، غربية المنبت وحداثية التوجه، بحيث انتهيت إلى جملة من الخلاصات يتقاطع بعضها مع نتائجَ دراسات سابقة في هذا المجال كما يستثمرها، لعل أبرزَ ما خلصتُ إليه، في حدود محاولتي المتواضعة، انتصارُ الصوفية للحياة وإقبالهم عليها، وسعيهم نحو المصالحة بين الروح والجسد، وتمجيدهم للذوق والوجدان والإبداع، وتمثلهم لكل ذلك إدراكا وقولا وسلوكا.
وتبقى الخلاصة المركزية التي نعبر من خلالها إلى موضوع هذا العرض، في كون المنجز الصوفي بامتداداته المشرقية والمغربية، وأبعاده العالمة والشعبية، على قدر كبير من العمق والغنى والتنوع الذي ينطوي على إمكانات تداولية وقرائية غيرَ محدودة ومُشرعة على اللحظة والآتي والمستقبل.
ومن هذه الزاوية، فإن راهنية المفاهيم والقضايا التي تنتظم الخطاب الصوفي، كما قد يجددُ طرحَها المثقف المغربي أو العربي ، تقترن اليوم بمدى سعينا إلى الدفع بهذا الخطاب نحو واجهة النقاش الفكري والثقافي والحضاري، ليس من باب الحنين إلى خصوصية مفتقدة أو الارتكان السلبي إلى تراث ناجز ينتمي إلى زمن مضى وعصر انقضى، وإنما من خلال تعبئة ذلك المشترك الإنساني متعدد الروافد الذي يرتسي عليه التصوف، والذي يمكن أن يلفيَ فيه هذا المثقف المغربي أو العربي ما يسعفه للانخراط الإيجابي في قدر العولمة الكاسح (*)، وكذا المساهمة في الحوار الحضاري حول منظومة القيم الكونية المتعالية التي تبشر بها هذه العولمة، خاصة ما تعلق منها بالديمقراطية والحقوق والحريات الفردية والجماعية بمختلف أجيالها، وما يترتب عن ذلك من خلخلة للبنى الذهنية ومرجعيات القيم، وتأزيم الوعي بالذات وبروابط الانتماء، في مجتمعات من قبيل مجتمعنا.
فثمة فعلا مرجعيات ماضوية مفرطة في المحافظة والانغلاق، متلبسةٌ باللاوعي الجمعي، أصبحتِ اليوم بمثابة ترسبات معقدة تعوق عملية التفاعل الإيجابي مع هذه القيم الكونية، وتحول دون الإصغاء إلى نداء التقدم الذي تحمله منظومتها.
وخلافا لذلك، يمكن الترافع بجدوى التصوف باعتباره مرجعية مغايرة، واستثناء متنورا حيث تتضايف بكيفية خلاقة الخصوصية المتجددة ومستلزمات المجتمع الحداثي؛ إذ يمكن التوسل برصيده المتشبع بقيم المحبة والتسامح والتساكن والسلم والعمل في مواجهة خيارات العنف والتطرف والكراهية والعدمية والانهزامية، وغيرها من القيم المضادة المعادية للمبادرة والإبداع والتطور والتنمية.
وعليه، ثمة جملة من المداخل الدالة التي يمكن استثمارها في سياق هذا المسعى، من خلال ما يلي:
1- حرية المعتقد
يذهب الصوفية عموما إلى سمو القدسي عن كل الشرائع السماويُ منها والوثني، و إلى وحدة الأديان دون تمييز ولا مفاضلة فيما بينها، إذ تلتئم جميعا طي عقيدة واحدة، هي عقيدةُ المحبة، كما يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:
لقد كنت قبل اليومَ أنكر صاحبي * إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائف * وألواح توراة ومُصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجَّهتْ * ركائبُه، فالحب ديني وإيماني (3)
تشي هذه المقطعة التي نحفظها ونرددها باستمرار، والتي تعتبر من أكثر التماعات ابن عربي ذيوعا وشهرة، ببعض ملامح هذا العقل الصوفي الذي يقبل بالآخر رغم اختلافه، والذي ما كان أن يعترف له بحقه في الاختلاف لولا البصيرة العرفانية التي أدركته وأدركها. هذا العقل القادر أيضا على تدبير التعدد الديني بمعناه الواسع الذي يستوعب جميع المعتقدات، دون إنكار أو تعصب أو إقصاء. يقول جلال الدين الرومي: " مسلم أنا ولكن نصراني وبراهمي وزرادشت..." (4).
وهب أنه سموق إلى تلك المواطنة الكونية التي تمثل بوتقة حيث تنصهر كل الأعراق والإثنيات والعقائد والطوائف، والتي حاول إخوان الصفا لملمة عناصرها في تعريف جامع مانع حول الإنسان الكامل: "...الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة... " (5).
وتطويرا للتحليل في هذا المنحى، ترد ضمن سير ومناقب أهل التصوف حكايةٌ، بتنويعات وتلوينات متعددة، عن ذلك الراعي الأمي الفقير عازف الناي، الجاهل بالفرائض ،الذي نذر لله إن رُزق بمولود ليعزفن له أربعين يوما دون انقطاع شكرا واعترافا، فمنحه الله تعالى بركة المشي فوق الماء بقدميه الحافيين، بينما ظل الولي الذي حاول تلقينه الصلاة وباقي الشعائر، دون جدوى، في حاجة إلى سَجَّادة ليستقيم فوق الموج (6).
وفي رواية أخرى، يتم استبدال الناي ببوق، والراعي ببحار زنجي، أو زنجية فقيرة تصلي لله على طريقتها من خلال ترديد: "ميمونة تعرف الله، والله يعرف ميمونة" (7).
تمدنا هذه الحكاية، على تنويعاتها، بمؤشرات إضافية عن هذا الوطن المثالي الذي يتوق إلى تشييده الصوفية. فهو لا يتسع لحرية المعتقد فحسب، وإنما يضمن كذلك حرية ممارسة الشعائر الدينية. فلكل صلاته وطريقته في التواصل مع الخالق، سواء بالفرائض أو البوح أو العزف، وغيرها من الوسائط كما يقول جلال الدين الرومي: "هناك طرق عديدة تؤدّى إلي الله، و قد اخترت طريق الرقّص والموسيقي..." (8).
ويُستنتج من هذه الحكايات كذلك أن مقام التصوف لا يميز بين الرجل والمرأة، وبين الأبيض والزنجي، وبين الفقير والغني، والمتعلم والأمي، فهو وطن حيث يتساوى الجميع، كيفما كان لونه وجنسه ومرتبته الاجتماعية والثقافية، لكي يحظى بنصيبه من ثمار البركة وفضائل الحياة (9).
والخلاصة، أن هذه الرؤى والتصورات التي يعبر عنها الوعي الصوفي بلغة الاستعارة والحكي والإيحاء، هي ذاتها الحقوق والقيم التي تنص عليها العهود والمواثيق الدولية حاليا بشأن حرية الفكر والوجدان والدين (10)، وضمان المساواة ومحاربة جميع أشكال التمييز (11)، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي، وغيرها.
2- التمييز الإيجابي لفائدة المرأة
تحظى المرأة بمكانة لدى الصوفية تعدو غرامهم بها وافتتانهم بجمالها إلى ما هو أعمقُ من ذلك، إلى موقعها في بنية الوجود حسب البصيرة العرفانية. فالمرأة هي أكثر كائنات العالم كمالا، وأرفع تجليات الإله. يقول ابن عربي: " شهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله..." (12). وقوله:" من عرَف قدر النساء وسرَّهن لم يزهد في حبهن، بل من كمال العارف حبهن، فإنه ميراث نبوي وحب إلهي"(13)؛
وعلى هذا النهج، ينقل الدكتور الميلودي شغموم في أطروحته حول " الحكاية والبركة" ، حكايةَ ذلك الولي، سيدي عبد الرحمان، الذي عُرف في مجلسه بصحبته للفتيات الجميلات، فكان يفسر ذلك بقوله: " إن الحضور الإلهي يُدرك بين الأقراط والضفائر، أكثرَ منه على قمم الجبال" (14).
فمن المؤكد أن هذه النظرة لا تنجو من حبائل اللاشعور "الفالوسي" تجاه المرأة، ولكنها في المقابل تتوسل بالقدسي وما يتمتع به من سلطان ونفوذ على الإدراك المشترك، من أجل أن تنتشل المرأة من وضعيتها الدنيا داخل المجتمع الذكوري، وترتقي بها نحو ما هو أجل من المساواة، بل تضعها في أعلى الهرم الوجودي، مباشرة بعد الله، وقبل الرجل وباقي الكائنات.
" المَكَانُ إذا لَمْ يُؤَنَّث لا يعول عليه"، يقول الشيخ الأكبر.
وكأن الصوفية هنا يدركون أن وضعية المرأة لا يمكن تصحيحها إلا عبر التمييز الإيجابي، الذي يمنحها إمكانية التحرر من سطوة المواضعات الاجتماعية والأخلاقية الغارقة في الذكورية، ويضمن لها مواطنتها ومشاركتها الكاملة في عالم الولاية، كما توردها حكاية ميمونة الزنجية وحكاياتُ نساء أخريات تقاسمن والرجال ثمار الكرامة وبصيرة العرفان.
3- التوازن الإيكولوجي
ويتمثل فيما يمكنُ توصيفُه بالبعد الإيكولوجي والمستدام، الذي يحيل اليوم إلى الجيل الجديد من الحقوق التي تهم الأجيال القادمة ومستقبل الإنسانية جمعاء ، والذي يمكن أن نجد ما يَسنَده في الخطاب الصوفي، لا سيما في تصوراته حول وحدة الوجود، سواء في شقها اللاهوتي التي وقفنا على جانب منها عند تناولنا حرية المعتقد ووحدة الأديان، أو في شقها الأرضي والدنيوي، حيث يعتبر الإنسان وباقي الكائنات تجليات وصورا للحق تعالى، وأجزاء لا تتجزأ طي نظام واحد متماسك، لا يستقيم بعنصر دون آخر.
ومن ثمة، ما يذهب إليه ابن عربي في مفهوم الإنسان الكبير، وذلك التناظر المتواتر في الأدبيات الصوفية بين الجسد كعالم صغير والعالم كجسد كبير (15). فالغزالي يماثل العظام بالجبال، والشعر بالنبات، واللحم بأديم الأرض، والدم في العروق بالماء الذي يجري في الوديان والأنهار (16).
وفضلا عن هذا التناظر بين الإنسان والطبيعة، فإن جمهرة من القوم يعتقدون بالتناسخ، إذ تتنقل أرواح الصديقين والأسلاف وفق أدوار لا متناهية مستدامة بين البشر والحيوان والنبات والكائنات الطبيعية الأخرى.
كما أن تراجم أهل التصوف ومناقبَهم حافلةٌ بأخبار وكرامات من قبيل قدرتهم على تقمص هيئات الأشخاص والأشياء، والترحال بين الصور والماهيات. فبعضهم، قد يتحول إلى طائر للجبال أو نون للكهوف، أو يستعير صورة أسد مفترس، أو قد يتحلل حتى يصبح بقعة ماء أو مادةً لطيفة كرائحة القرنفل (17).
هذا التوازن الأنطولوجي، سواء استند إلى مبدإ الحلولية ( تَعَيُّنُ الحق في الخلق) أو مبدإ التناسخ (امتداد الإنسان في الكائنات الأخرى)، هو دعامة التوازن الإيكولوجي والبيئي، ولو أن هذا البعد ظل كامنا في الخطاب الصوفي، إلا ما يمكن استشفافه مما سبق، ومن غيره من الشواهد التي تجعل الإنسان في صلب حماية هذا النظام الواحد المتماسك، وحيث التوقير لجميع الخلائق، وحيث لا احتقار لأحد أو شيء، كما يذهب ابن عربي. فمن يدري: "لعله ربما" !(18).
تلكم إذن، هي بعض مما يمكن استكشافُه من المداخل والمسالك القرائية الخليقة بإبراز راهنية المشترك الإنساني للخطاب الصوفي العابر للعصور والثقافات. هذا المشترك الذي يتعين تثمينه وتعبئته من قبل المثقف المغربي والعربي بغاية الانخراط الفاعل في منظومة القيم الكونية، والمساهمة في الحوار الثقافي والحضاري اليوم حول الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ونشر ثقافة التسامح وقبول الاختلاف والتعايش في إطار التنوع والتعددية، وهي نفسها المقومات والقيم التي ترتسي عليها المواطنة في أزهى المدن الفاضلة، مدينة الصوفية.
هوامش:
+ باحث وكاتب
(1)- راجع في هذا الصدد على سبيل الإشارة لا الحصر:
- Massignon (Louis), Essai sur les origines du lexique technique de la mystique musulmane, Ed. du Cerf, Paris, 1999 ;
- متز ( آدم ) ، الحضارة الإسلامية، تعريب محمد عبد الهادي أبو زيده، المجلد الثاني، الطبعة الخامسة، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت ،.
- Corbin ( Henri), l'imagination créatrice dans le soufisme d'Ibn' Arabi, Ed. Entrelacs, Paris, 2006 ;
- شغموم (الميلودي)، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة, منشورات المجلس البلدي لمكناس، 1991؛
- Bentounes (Cheikh Khaled), Le Soufisme, coeur de l'Islam : Les Valeurs universelles de la mystique islamiste, Ed. La table ronde, Paris, 1996 ;
(2)- انظر:
- العلوي (هشام)، في قبضة الثقافة: نظرات ورؤى حول الجسد، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2005؛
- العلوي (هشام)، "المستنسخ الصوفي في رواية مسالك الزيتون للميلودي شغموم"، ضمن مجلة عمان، العدد 104، عمان، 2004.
(*)- العولمة ليست نشاطا تجاريا خالصا فحسب، ولكنها تعميم كذلك لنمط في التفكير والسلوك يخلخل التمثلات حول الفرد والقيم والهوية والانتماء.
(3)- ديوان ترجمان الأشواق، دار المعرفة، بيروت، 2005، ص.69.
(4)- وارد ضمن، خوجة ( لطف الله)، وحدة الأديان في تأصيلات التصوف وتقريرات المتصوفة، منشورات جامعة أم القرى، سلسلة البحوث المحكمة، مكة المكرمة، 2011، ص. 76.
(5)- رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، المجلد الثاني، دار صادر، بيروت، دون تاريخ النشر، ص.376.
(6)- شغموم (الميلودي)، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي: الحكاية والبركة، منشورات مجلس مكناس، 1991، ص. 246.
(7)- المرجع نفسه، ص. 247.
(8) - Cité in Kebe( Abdoul aziz), « le sacré, le profane, le spirituel et le temporel : contribution à la réflexion », Annales de la Faculté des lettres et sciences humaines, N°35, Dakar, 2005, p.13.
(9)- شغموم (الميلودي)، مرجع سابق، صص.247-248.
(10)- يرد في المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ما يلي: " لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة".
(11)- انظر: اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء والتوصيات الصادرة عن لجنة السيداو(C.E.D.A.W).
(12)- البقاعي ( برهان الدين ) ، مصرع التصوف، تحقيق وتعليق: عبد الرحمان الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980، ص.145.
(13)- الفتوحات المكية، المجلد الثاني، دار صادر، بيروت، د.ت، ص.190.
(14)- شغموم (الميلودي)، مرجع مذكور، ص.45.
(15)- انظر : البقاعي ( برهان الدين ) ، مصرع التصوف ، مرجع سابق، ص . 38 .
(16)- نقلا عن: HOGGA (Mustapha) ; “Corps, pouvoir et mystique chez Gazali “, in revue de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines de Marrakech, Actes du colloque, le corps et l'image de l'autre,
N° 5 , 1989, p . 82.
(17)- العلوي (هشام)، المستنسخ الصوفي، مرجع مذكور، ص.95.
(18)- يورد أبو الحسن الأشعري هذه العبارة في معرض نقله لشطحات بعض الصوفية بشأن مبدإ الحلولية. انظر: مقالات الإسلاميين، الجزء الأول، دار الحداثة، بيروت، ص . 344.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.