لم يعُدْ منَ الغريبِ أن تغطيَّ جزءاً كبيرا من سماء "طنجة الكبرى"، بشكل شبه يومي، سحابةُ دخانٍ سوداءَ كثيفة، ناتجة عن احتراق أطنان من الأزبال والمخلفات بمطرح نفايات المدينة بمنطقة "مغوغة". الأحياء المجاورة للمطرح، وحتّى أحياء أخرى بعيدة نسبيا، أصبحت تتضرر بشكل كبير جدّا من هذا الدخان الخانق، الذي يترك أثراً سيّئا على صحة سكانها وحاجياتهم وشققهم. أما آثار الدخان والرّائحة الكريهة فلم تعُدْ تقفُ عند الأحياءِ المجاورة للمطرَح، بل تجاوزتْها لتصل لكلِّ ساكنة المدينة تقريبا، خاصّة في فصل الصيف، وبالتحديد عندما تهبّ رياح "الشرقي" أو "الغدايكَة" المعروفِ بها مناخُ طنجة، لتصل إلى منطقة "طنجة البالية" وكورنيش طنجة ومناطق أخرى بعيدة جدّا عن المطرح. إحراق واحتراق أنشئ مطرحُ مغوغة في سبعينيات القرن الماضي، وذلك بشكل مؤقت على أساس إعداد مطرح يحترم المواصفات البيئية فيما بعد، لكن المؤقت أصبح دائما، ثم ازداد توسّعا بتوسُّع المدينة ديموغرافياً وعمرانياً ليصبح مشكلةً بيئيةً وصحيّة حقيقية، محتلاّ بذلك مساحة تقارب 30 هكتارا، ومقتربا من التجمعات السكنية التي بُنيت حديثا. يقول عدنان معز، عضو "مرصد البيئة وحماية المآثر التاريخية بطنجة"، إن الحرائق التي تحدث بالمزبلة والتي تفرز كميات الدخان الهائلة تلك سببها أمران، الأول "من يعرفون ب(الميخالة) أو (الرّباجا)، وهم الأشخاص الذين ينقبون في النفايات بغرض استخراج الحديد والنحاس وغيرها من المعادن لبيعها، وهؤلاء يحرقون كمياتٍ لا بأس بها من المطاط والجلد ومواد مشابهة، حتى يحصلوا على معادن خالصة، وبالتالي ينتجون حرائقَ يمكن وصفها بالبسيطة من ناحية الكمية"، يقول عدنان، مردفا أن الأمر الثاني هو "الاحتراق الناتج عن التفاعل الكيميائي للنفايات بعد التخمّر، وهو الذي ينتج سحابة الدخان الضخمة التي تغطي سماء طنجة، وهذا هو المشكلة الحقيقية والخطيرة صحّيا وبيئيا"، في نظر عضو مرصد البيئة. أمراضُ تنفّس.. وشقق للبيع ! على مسافةٍ غير بعيدة من المطرح يوجد مجمّع "حمزة" السكني، أول من يستقبل "نفحات" الدخان الخانق، و لعلّه من أسوأ الصّدف أن تنال إحدى المدارس الخاصّة بهذا المجمّع نصيبا وفيرا من هذا الدخان. لم يتطلب منا الأمر وقتا طويلا لنكتشف آثار حرائق المطرح على أطر هذه المدرسة وتلاميذها، حيث كانت إجابة "فاطمة"، إحدى المسؤولات بالإدارة، عن سؤالنا حول آثار الدخان عليهم، بإشارة سريعة إلى عينها الملتهبة المتورّمة وهي تقول "هذه إحدى نتائجه". وتضيف فاطمة: "منذ أيام وأنا أشعر بحكّة شديدة في أنفي وعيني، وعندما زرت الطبيب أكد لي أن السبب هو الهواء الملوّث، بل إنني اضطررت مؤخرا لاستعارة البخّاخ الخاص بضيق التنفس من أجل استعماله، في حالة تحدث معي لأول مرة!". "طبعا الأمر استفحل بشكل خطير"، تواصل فاطمة، مضيفة أن "جلّ التلاميذ يعانون بشدّة من آثار الدخان الملوّث على صحتهم، تصوّروا أننا نضطر في غالب الأحيان إلى إلغاء حصّة ترديد النشيد الوطني صباحا في باحة المدرسة، ونفضّل إدخال التلاميذ للأقسام بسرعة هروبا من الدخان الخانق". ولأن فاطمة مقيمة المجمّع السكني ذاته، فقد أخبرتنا عن حالات متعدّدة لأشخاص قرروا عرض شققهم للبيع بأثمان بخسة، فقط حفاظا على صحتهم بعد أن أصيب أغلبهم بالحساسية وضيق التنفس. "صديقةٌ لي كانت حاملاً بتوأمين، وقد نصحها الطبيب بتغيير محلّ السكنى لأن التلوث الهوائي يشكل خطرا شديدا عليها، وقد يودي بالجنينيْن، ولم تجد بدّا من الانصياع وبيع شقتها حفاظا على حياتها وحياة طفليها"، توضّح فاطمة. وتسخر فاطمة من الوضع قائلة: "لم نعد نجرؤ حتى على تعريض ملابسنا المغسولة للشمس، لأن رائحتها تصبح كريهة جدّا من أثر الدخان، أصبحنا نتمنى أن تهب رياح "الشرقي" فهي الوحيدة التي تنقله بعيدا عنا". وعندما غادرنا المدرسة، أدركنا كم كانت فاطمة صادقة عندما وقفنا بأنفسنا على عدد من اللافتات التي يعرض من خلالها أصحابها شققهم للبيع، في مؤشّر على أن الضرر أصبح مباشرا وملموسا جدّا. ما الحلّ إذن؟ يوضّح عدنان معزّ: "لقد تمّ فعلا اتخاذ قرار بنقل المطرح من مكانه الحالي إلى دوار سكدلة، بين جماعتيْ حجرة النحل والمنزلة، وقد بدأت شركة خاصّة أشغالها بالمطرح الجديد، لكنها لحدّ الآن بطيئة، وهو ما يعني أن الساكنة ستظل تعاني إلى حين". محمد بوزيدان، رئيس مقاطعة مغوغة، صرّح لنا قائلا: "فعلا زارني عدد من الساكنة واشتكوا من الدخان والروائح الكريهة (...) نحن نتابع الموضوع عن كثب مع مسؤولين من وزارة البيئة (...) نعتقد أن الأشغال قد تنتهي بالمطرح الجديد خلال سنة، وعندها نكون قد وضعنا حدّا للمشكل". من جانبه، قال ادريس التمسماني، نائب عمدة مدينة طنجة: "قمنا بزيارة مؤخرا للمطرح الجديد بدوار سكدلة، ولقد تمّ إنجاز حوالي 40% من الأشغال (...) نتوقع أن يكون المطرح جاهزا سنة 2017". وعندما أخبرنا فاطمة بهذه المدّة علقت قائلة: "عامٌ كامل كافٍ لتكون صحتنا قد أصبحت في خبر كان". مطرح جديد.. مشكلٌ جديد رغم أن المطرح الجديد لن يكون عبارة عن مكبّ نفايات على غرار سابقه، بل مصنعا لفرز النفايات، إلا أن التخوف من تضّرر البيئة يبقى واردا، حيث أنشأ عدد من ساكنة جماعة "حجرة النحل" صفحة على فيسبوك بعنوان "سكان جماعة حجرة النحل ترفض استقبال مطرح النفايات فوق أراضي محمية تهدارت". ويعزو السكان، من خلال الصفحة، تخوفهم إلى وجود المطرح قرب المحمية والفرشة المائية، إضافة إلى كون المنطقة تعرف زيارات سياحية وطلابية متواصلة، مع وجود أحد أنواع الطيور النادرة والمهددة بالانقراض، المعروفة ب"الحبارى الملتحية"، والذي قد يتأثر وجوده كثيرا بتحوّل المكان إلى معبر لشاحنات النفايات وكلّ ما قد يخلّفه مصنع الفرز. يقول عدنان معز: "لا بد أن تفهم الساكنة بتلك المنطقة أن الأمر يتعلق بمصنع وليس مزبلة، وبالتالي فالمخاطر البيئية قد تكون فعلا قليلة، لكن سؤالنا الأهم الذي كرّرناه أكثر من مرة على آذان المسؤولين هو: إذا كان مصير عدد من المواد هو إعادة التدوير، فماذا سيكون مصير مادّة ليكسيفيا (Lixivia)، العصارة التي تفرزها الأزبال، وهي أخطر ما في الموضوع، والتي يتم التعامل معها في بعض الدول كما يتم التعامل مع المخلفات النووية، نظرا لخطورتها الشديدة، ولحدّ الآن، لازلنا لم نسمع جوابا واضحا ومقنعا"، يورد عضو مرصد البيئة وحماية المآثر التاريخية بطنجة.