نبدأ بالدعاية التي قامت بها أطراف خارجية روجت لفشل الزيارة الملكية إلى روسيا باعتبار أن الروس أهانوا الملك لما أرسلوا له نائب وزير الخارجية لاستقباله، والحقيقة أن بوش أرسل عمدة نيويورك لاستقبال المرحوم الملك عبد الله في عز التعاون السعودي الأمريكي، ولم يعتبر ذلك إهانة. لن نشرح بروتوكول الاستقبال لأنه قد سبقنا من شرحه، بل نريد من القارئ أن يتذكر هذه الدعاية لأنها تهمنا لغاية رئيسية سنذكرها في آخر المقال. خلفيات اللقاء لفهم ما جرى من الضروري القول إن المغرب وجد نفسه في قلب لعبة شطرنج دون أن يبغي. بوتين يحارب على كل الجبهات بسبب ضمه للقرم وكذلك لعرقلته سقوط النظام السوري، إذ تصيح هيلاري بأعلى صوتها في اجتماع أصدقاء سوريا بباريس أن اجعلوا روسيا تدفع الثمن إن كنتم فاعلين. وكان مما كان من حصار، إذ منعوا على الروس الواردات الفلاحية، خاصة الفواكه والطماطم. هنا برز المغرب كلاعب فاعل، إذ صرح وزير الزراعة الروسي الاكسندر تشاكيف بأن المغرب هو أحد الموردين الذي تتطلع إليه روسيا لتعويض وقف إمدادات الاتحاد الأوروبي من بعض الحاجيات الفلاحية التي تحتاجها. تم الاتفاق على أن يعقد لقاء في الرباط بين وزير الفلاحة المغربي ونظيره الروسي في 15 سبتمبر 2014 من أجل وضع إستراتيجية للتعاون ضمن هذا الإطار. غير أن المغاربة يقولون ما لا يفعلون، بل يفعلون عكس ما يقولون، إذ تراجع حجم التبادل التجاري بين روسيا والمغرب في عام 2015 مقارنة مع العام السابق بنسبة %34، كما تراجعت صادرات الفواكه والخضر ب %20، بحسب مصادر روسية. تراجع صادرات المغرب إلى روسيا طيلة 2015 أعطى إشارة إلى موسكو أن المغرب ليس متثاقلا في فك الحصار الأوروبي على روسيا بل شريكا فيه. تثاقل المغاربة خوفا من الإضرار بعلاقتهم مع الأوروبيين، غير أن الأوروبيين لم يبالوا بما قد يلحق من ضرر بعلاقتهم مع المغرب، فألغى قضاؤهم الاتفاقية الفلاحية المغربية الأوروبية. المغرب لم يعتبر القضاء الأوروبي مستقلا، إذ صرح بأن "الإلغاء حدث قضائي ذو حمولة سياسية قوية"، ووجد نفسه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولم يتخذ بينهما سبيلا. حاول المغرب بعد قرار المحكمة الأوربية تدارك الأمر، وتجلى ذلك في ارتفاع مهم لصادرات المغرب إلى روسيا خلال السنة الجارية. ولكن الرسالة كما يبدو سبقت الاستدراك المغربي ووصلت إلى دائرة القرار في روسيا. التنكر الأوروبي، بالإضافة إلى تطورات موضوع الصحراء المغربية، كان هو سياق الزيارة الملكية إلى روسيا. إشارات بوتين وجواب الملك بدأ بوتين كلامه بالقول: "لدينا علاقات رائعة مع المغرب، على الرغم من أنه من الغريب أننا نشهد انخفاضا معينا في التجارة، وتحديدا في بعض السلع المغربية التقليدية. أنا لا أفهم الأسباب التي أدت إلى تراجع شحنات الفواكه المغربية؛ كالبرتقال والطماطم إلى روسيا، لاسيما بالنظر إلى القيود المفروضة على توريد هذه المنتجات من دول الاتحاد الأوروبي". إذا حللنا كلام بوتين وأفرغناه من حمولته الدبلوماسية، فإن ما عبّر عنه كالآتي: الاستغراب مما فعله المغرب بخصوص صادراته الفلاحية إلى روسيا. عدم فهم رد فعل المغرب لأن مصلحته تقتضي رفع صادراته وليس خفضها. وضع ما فعله المغرب في سياق الحصار؛ أي مرتبط به وبالتالي لأوروبا يد في ما فعله المغرب. وضع اللوم على المغرب؛ بحيث إن المغرب هو الذي لا يرسل شحنات الخضر والفواكه. وزير الخارجية الروسي كان أيضا صريحا، إذ أعلن أن اللقاءات الروسية المغربية دارت في جو من الصراحة والسرية، وطبعا لا تكون الصراحة إلا عندما تكون الخلافات. الملك، من جهة أخرى، كان جوابه على فمه وكأنه توقع من بوتين ما تفوه به وأعطاه جوابا عمليا بقوله: "حيث إن وزير الزراعة يرافقني في هذه الزيارة، سيكون بإمكاننا مناقشة تصدير المنتجات المغربية إلى روسيا"، وخير الأجوبة ما كان عمليا كما تعلمون. الإعلام المغربي يقول إن البقر تشابه علينا على الرغم من وضوح العتاب البوتيني وضوح الشمس في عز النهار، إلا أن الإعلام المغربي تشابه عليه البقر، إذ يقول إن بوتين استغرب تراجع المبادلات التجارية، بينما الذي عبّر عنه الرئيس الروسي هو استغرابه تراجع إرسال المغرب للمواد الفلاحية، وليس تراجع المبادلات التجارية بين البلدين. وعلى الرغم من أن بوتين تنبأ بالاستهبال المغربي فكرر رسالته بطرق متعددة، وعلى الرغم من حصر الاستغراب البوتيني في سلوك المغرب، إلا أن الإعلام المغربي اختار أن لا يكون صادقا مع المغاربة بتعويم الرسالة وتسجيل انتكاسة تراجع الصادرات الفلاحية المغربية إلى روسيا ضد مجهول، تماما كما سجلنا إفلاس صندوق التقاعد ومكتب الماء والكهرباء ضد مجهول. بوتين لم يقل الحقيقة كاملة.. فهل تم خداعه من طرف مساعديه؟ المفاجئ هو أن القصة لا تنتهي هنا، فكلام بوتين لم يأخذ بعين الاعتبار أربعة أشياء لو لم يتجاهلها لكان كلامه مغايرا: ارتفاع صادرات المغرب إلى روسيا منذ بداية العام الجاري إلى السادس من مارس، إذ زادت واردات المغرب إلى روسيا بنسبة 43.9٪ مقارنة بالفترة نفسها من العام 2015 بعد إلغاء الاتفاقية الأوربية المغربية من طرف القضاء الأوربي. دبلوماسيا كان على بوتين أن يكتفي بما هو حادث في الوقت الراهن؛ أي التعبير عن سعادته بالتطور الحاصل في صادرات المغرب رغم التراجع الذي عرفه في السنة الفائتة، لكنه اختار تجاهل هذا الأمر أو ربما لم يكن على علم به. عدم تراجع صادرات بعض المواد الفلاحية المغربية إلى روسيا خلال السنة الماضية، مثلا شحنات التفاح ارتفعت بنسبة 35 مرة، وكذلك الكيوي الذي ارتفع ثماني مرات. من المعروف أن مثل هذه الملاحظات تتم مناقشتها في أوراق الإحاطة (Briefing Papers)، خاصة وأن التجارة عرفت تحسنا كبيرا هذا العام. بدأ اللقاء بمعاني الاستغراب وعدم الفهم والحصار الأوروبي، وهذا غريب حسب أعراف لقاءات القمة، كما أن حصر اللوم على الطرف الآخر لا يقل غرابة من الناحية الدبلوماسية. إذن لماذا لم ينظر بوتين إلى هاته الاعتبارات الأربعة؟ هل تجاهلها أم تم تغليطه من طرف مساعديه؟ نجيب على هذا السؤال على ضوء ثلاث معلومات في غاية الأهمية: تسريبات "وثائق بنما" التي كشفت أن مقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متهمون بتهريب أموال تزيد عن ملياري دولار بمساعدة مصارف وشركات وهمية. هؤلاء المقربون لا يملكون أي أنشطة تجارية تجعل من المتخيل أن يقتربوا ولو بقليل من المبالغ الضخمة المذكورة. فمن أين حصلوا على هاته الأموال إن لم تكن من أطراف خارجية، قد تكون من بينها من لها علاقة بالصحراء المغربية هدفت إلى الدفع باتجاه الحيلولة دون النجاح الكامل للزيارة الملكية لأهداف تخدم تلك الجهات. امتناع الشركات المكلفة باستيراد المواد الفلاحية المغربية عن إعطاء جواب عن سؤال تراجع الصادرات المغربية إلى روسيا. عندما تم الاتصال ب"التفروت" و"نفسكايا" و"كلوبس" من أجل استفسارها حول استيراد البضائع المغربية، كان الإجماع هو رفض الجواب. ولو كان الجواب تقنيا لما كان خير الجواب السكوت، ولا يكون السكوت إلا عندما تكون الخلفية مسيسة أو عندما تكون أوامر السكوت صادرة عن جهات عليا أو من المقربين. الدعاية المسمومة الصادرة من جهات خارجية روجت لفشل الزيارة بناء على استقبال نائب وزير الخارجية للملك في المطار، كما ذكرنا في أول المقال، على الرغم من علم تلك الجهات أنه بروتوكوليا لا ضير في ذلك، والأمثلة كثيرة لا داعي لبسطها في هذا المقال. فهل تكون تلك الجهات هي نفسها الجهات المانحة للمقربين من بوتين؟ قصد قيامهم بتغليطه وإيهامه بأن المغرب مع أوروبا في حصاره للروس حتى تتأثر روسيا بمثل هذا التحريض ويسحب السند الروسي للمغرب في قضية الصحراء، خاصة في الظرفية الراهنة حيث الصراع المغربي مع الأممالمتحدة على أوجه، وحيث تم إلغاء الاتفاق الفلاحي بين أوروبا والمغرب قضائيا، وحيث الموقف الأمريكي يعرف تذبذبا كبيرا. من الضروري أن نقوم بما يلزم قصد ضبط خيوط اللعبة،لأن فقدان صداقة روسيا له ثمن لا نملك ترف التفريط فيه. المهم أننا في زمن سريع التغيير صارت فيه مصالح الشعوب تباع وتشترى، لهذا على المغاربة أن يمروا إلى السرعة القصوى وإلا لن يكون المغرب كما هو في السنوات الخمس القادمة. على المسؤولين المغاربة أن يقاطعوا عادات الاسترخاء، وأن يعرفوا أن في الزمن الحالي إما أن تكون فاعلا أو مفعولا به، فإما أن نكون أو لا نكون. لا يمكن للمغرب أن يتفرج مع المتفرجين فيبقى خارج اللعبة حتى إذا دارت به الدوائر واحتاج إلى تأثير بعض اللاعبين هرول إليهم متناسيا أن اللاعبين الكبار يعملون وفق مخططات مدروسة وأجندة مرسومة، كما حدث مع سوريا عندما قامت روسيا وأمريكا بإمضاء اتفاق شامل حول اقتسام النفوذ حتى يكونا شريكين لا يبغي أحدهما على الآخر؛ أي إن سوريا وشعب سوريا كانا مجرد ورقة للتفاوض في لعبة كبرى. الزيارة كانت ناجحة، لكن ما ينتظر المغرب في الأعوام القادمة يجعلنا نقول إن التكاسل هو آخر شيء يمكن أن نفكر فيه.