"ما فائدة الدنيا الواسعة، إذا كان حذاؤك ضيقاً" حكمة صينية أنا "متشائل".. أي نصف متفائل ونصف متشائم، حسب التعبير الذي اشتقه الروائي الحكيم إميل حبيبي.. أنا متفائل لوجود حركة شبابية، اختارت التظاهرات السلمية للمطالبة بإصلاحات سياسية بدرجة معقولة، برغم محاولات الاختراق المخزني أو الركوب على سقف مطالبها من هذه الجهة السياسية أو تلك، وأن رياح التغيير الذي بشرت به، عمَّ الكثير من حقولنا، وأعاد الكثير من الدفء إلى الجسد الاجتماعي وإلى مفاصل اللعبة السياسية التي كانت قد تحولت إلى طبق بارد بلا مشهيات ولا مقبلات.. وحولت الشارع إلى ساحة للفعل السياسي. أنا متشائم، لأن ذات الحركة، أو بعض مفاصلها، لم تعد تميز بين الاحتجاج والتغيير، وكم أعجبني كاريكاتير نشر بيومية "الشرق الأوسط" الأسبوع الماضي، يبرزه فيه المواطن العربي متردداً بين بابين، باب للتغيير "مبسم" أي مفتتح قليلا، وباب للاحتجاج مشرع عن آخره، فعوض أن يدخل المواطن المصاب بالدوخة، باب التغيير أو على الأقل يشرعه أكثر، يلج باب الاحتجاج.. الطريق السهل. هكذا أضحى جزء من الحركة من محترفي الاحتجاج حتى قبل أن تظهر أمام أعيننا مسودة الدستور، ويتم تحديد أجندة سياسية للاستحقاقات السياسية، وقبل أن تدخل حركة "20 فبراير" في قراءة نقدية لحصيلة نضالاتها، وتقويم مسارها.. إن الكثير مما حصل هو بسبب فورة هؤلاء الشباب، لكن كل حركة اجتماعية لابد أن تصاب بأمراض المجتمع الذي تتحرك وسطه، وعليها أن تُخضع نفسها للنقد والتقويم والمراجعة، من أجل الحفاظ على النفس الطويل، وتطوير أساليب العمل، ووضع سيناريوهات المرحلة القادمة، والبحث عن تقوية مناعة الحركة عبر الالتحام العضوي مع كل الحركات الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير، مع حفاظ حركة شباب "20 فبراير" على استقلاليتهم وتواضعهم أمام التاريخ، إذ خلت من قبلهم حركات سياسية واجتماعية، كل منها قاد قاطرة الديمقراطية في هذا البلد، ولن تكون هي نهاية حركات التغيير.. أنا متشائم لأن الكثير من الأدعياء يعتبرون أن التاريخ فقط بدأ من "20 فبراير" وسينتهي إلى الركوع عند قدميها؟ وهذا في تقديري أكبر مصيدة لتلغيم وتفجير الحركة الشبابية. أنا متفائل، لأن هذا المخاض العسير، لن يكون بمثابة جبل تمخَّض فولد فأراً، إذ من خلال ما تحبل به الساحة السياسية اليوم، فإن الدستور الجديد مفصلي في تاريخ الإصلاحات الدستورية، وأن الكثير من مطالب التغيير التي ظلت تطالب بها الأحزاب الوازنة بالمغرب، وجدت طريقها إلى النص الدستوري الجديد.. أنا متفائل لأنه اتحدت إرادة أمة في التغيير وتفهَّم ملك عصري هذه المطالب، ولم ينكر على شعبه الحق في التظاهر، وإن كان الأمنيون يزحفون بين الفينة والأخرى على الساحات العامة، لاستعراض قوتهم ومكانتهم في النظام السياسي، ملك لم يصف المتظاهرين بالعملاء الذين يخدمون أجندة أجنبية ولا نعتهم بالمقملين والمقرقبين والأوباش، بل اعترف بشرعية مطالبهم.. أنا متشائم، لأن الحلو عندنا ما يكملش أبدا، إذ يحتوي المشروع الدستوري على بعض الصياغات المفصلية تُفرغ الكثير من البنود المتقدمة من محتواها الديمقراطي، فالنص الدستوري ينبني على سوء النية لا على حسنها، ومن تم قد يجري الالتفاف على كل التغييرات الجذرية في المعمار الدستوري إما بعبارات فضفاضة تحتمل تعدد التأويل، أو بوضع فخاخ في طريق الذهاب نحو العتبة العليا في التغيير، أي أننا نجد أنفسنا اليوم أمام نص حمَّال أَوْجه، ولكل الوجه الذي يريد، لكن صاحب السلطة هو الذي يمتلك حجية التأويل، لأنه هو اللي فصَّل وخيَّط! أنا متفائل، لأنه باستثناء احتجاجات 14 دجنبر 1990، كان الحكم هو الذي يزيد من تضييق الخناق على المعارضة بعد كل حركة احتجاجية، بينما الأمر تغير اليوم، إننا نُزكي بعد التغيير ضمن الاستمرارية، لكن الآن، ليس بنفس ميزان القوى الذي كان عليه الأمر بالأمس. أنا متشائم، لأننا نُنتج دستوراً من آخر صيحة، لكن التسابق الذي ألمسه اليوم، في الدوائر الانتخابية، من طرف نفس عناصر الفساد التي حكمتنا لعقود، وهي النخب التي بسببها فقدنا الثقة في مؤسساتنا التشريعية، ولم نُقبل على الانتخابات بتلك الكثافة التي تزكي النظام السياسي.. هي نفس النخب التي تُعطي الأموال من الآن، وتحجز شيكات بدون رصيد، وتشكل الخلايا الانتخابية، إنهم نفس "حرايفية" الانتخابات من المفسدين الذين لا يهمهم الدستور ولا مطالب الشعب، وأتصور إن أجرينا انتخابات سابقة لأوانها بنفس الآليات الانتخابية وبنفس ذوي السوابق من مجرمي ومفسدي الاستحقاقات السياسية، هل سنفلح ولو كان لنا دستور السويد؟! أنا متشائم لأني لا أرى النصف الممتلئ من كوب الماء، ولا ألمس في الوردة غير الشوك، أنا متفائل لأني مطمئن للنصف الممتلئ من الكأس وألمس في الوردة زهرها.. إذن أنا متشائل.