طلب الزبون وهو شاب في مقتبل العمر من الحلاق تسريحة شعر رولاندو إلا أنه إكتشف في الأخير أن شيئا ناقصا في هذه التسريحة. الحلاق وهو شاب أيضا ويعرف اللاعب رولاندو جيدا أصر على أن هذه التسريحة هي بالفعل ذات التسريحة و بعد نقاش حاد كاد يفضي إلى عراك بالأيدي إحتكما الإثنان إلى صوراللاعب الشهير في الإرنترنت. لم تنته هذه الأزمة الحادة إلا بعد تنازل الحلاق أمام رغبة الحاضرين وضغطهم فقبل أن يضيف تحسينات إضافية على تسريحة الزبون لتكون شبيهة بتسريحة رولاندو. قد يبدوا هذا المشهد الواقعي لأول مرة مضحكا بيد أنه يستفزنا لطرح السؤال التالي: هل فعلا يؤدي الإعجاب بشخص ما إلى هذه الدقة في المحاكاة والتقليد ؟ لو بقي الأمرمنحصرا في تقليد بطل من الأبطال في طريقة لباسه ومشيته وتسريحة شعره لكان الأمر هينا ولكن المخيف هو أن يتقمص المقلد شخصية البطل ثم بعد ذلك ينتج سلوكه في مرحلة لاحقة مائة بالمئة وهذا ماحدث للطفل الإسباني (تسع سنوات) الذي لبس قناع الرجل العنكبوت وقفز من الطابق الرابع فخر صريعا. يسود الإعتقاد لدينا نحن معشرالمربين أن التعلم هو الذي يحدث فقط بين جدران الفصل في المدرسة بقيادة معلم وتبعا لمضامين تعليمية معينة. بيد أن التعلم كما تقول بذلك نظريات التعلم الشهيرة وعلى رأسها نظرية النمو المعرفي لبياجيه ، يحدث بالتفاعل مع المحيط أي محيط تأثيرا وتأثرا. بل الأكثر من ذلك فإن التعلم قد يحدث بالمحاكاة والتقليد كما تؤكد نظرية التعلم الإجتماعي أوالتعلم عبر النموذج (الموديل) لعالم النفس الشهير بندورا والذي يرى أن هناك نوعا من التعلم يحدث في كل زمان ومكان وبطريقة إنسيابية ودون أن نشعر به. فالإنسان قد يتعلم عن طريق ملاحظة نموذج ما (موديل) وتقليده و قد يكون النموذج أو الموديل أبا أو أما أو معلما أو صديقا أو مغنيا أو ممثلا أو لاعب كرة وغيرها من النماذج الموجودة في المجتمع. فالنموذج في حادثة الحلاق هو اللاعب رونالدو أو الرجل العنكبوت في حاثة الطفل الإسباني . فقد وصل عشق وإعجاب المتعلم بالنموذج في الحالتين إلى درجة الرغبة في إنتاج سلوكه بحذافيره. تقول نظرية التعلم الإجتماعي إن التعلم عبر المحاكاة والتقليد يتم بسرعة ونجاح إذا توفرت في النموذج (الموديل) بعض الخصائص كأن يكون جذابا أولطيفا أو له سلطة أو له شهرة... لايحتاج النموذج أن يقوم بمجهود للتأثيرعلى الإنسان فالمقلد صغيرا كان أو كبيرا إذا استهواه نموذج ما وأعجبه بدأ في ملاحظته مرات عديدة ثم انتقل إلى تخزين أوصافه الدقيقة في ذاكرته ونعني بذلك الحركات والسكنات، طريقة الحديث واللباس والمشي ، الإنفعالات وغيرها من الأوصاف وبطريقة تشبه طريقة التصويرثم يبدأ في مرحلة لاحقة شيئا فشيئا بإنتاج سلوك النموذج. ولو تصادف وعُزز سلوك النموذج في وضعيات ومواقف أخرى من طرف أناس آخرين زادت رغبة المقلد في إنتاج السلوك ويصبح بعد ذلك جزءا من شخصيته أيضا. اللافت للنظر أن كبريات الشركات تستعمل هذا المبدأ التعليمي للتأثيرعلى سلوكنا الشرائي أيضا. فهي تنتقي النماذج المشهورة في عالم الرياضة أو الفن لعرض سلعها. وهكذا بعد كل عرض إشهاري للسلعة من طرف اللاعب المشهور أو الممثل الوسيم أوغيرهم من النماذج الإجتماعية يتأثر سلوكنا الشرائي بدون أن نشعر ثم نميل في خطوة لاحقة إلى شراء ذات السلعة التي عرضها النموذج الذي نال إعجابنا. لو اقتصر الأمر على محاكاة تسريحة الشعر أو طريقة اللباس والحديث أو غيرها من مواصفات النموذج فسيكون الأمر بسيطا. ولكن المقلد قد يذهب الى أبعد ذلك فإعجابه بالنموذج قد يدفعه حتى إلى تقليد سلوكه العدواني أو العنيف وهذا ما أكده باندورا من خلال تجربته الشهيرة المسماة بالدمية" دولي " فقد قسم فريقا من الأطفال في سن ماقبل التمدرس ذكورا وإناثا قسمهم الى ثلاثة مجموعات عرض عليهم فلما تظهر فيه إمرأة تدخل قاعة كبيرة فيها ألعاب كثيرة ثم تقف عند دمية بلاستيكية كبيرة وتبدأ في ضربها بشكل عدواني وتتلفظ بألفاظ عنيفة. بعد مشاهدة الفيلم أُدخل الأطفال فرادى إلى نفس القاعة التي كانت تتواجد بها المرأة. فكانت النتيجة مذهلة ، ذلك لأن أغلب الأطفال توجهوا عند دخولهم إلى القاعة إلى نفس الدمية ومارسوا عليها نفس السلوك العدواني الذي شاهدوه في الفيلم وتلفظوا بنفس الكلمات العدوانية التي سمعوها.الأكثر من ذلك أن بعض الأطفال مارسوا على الدمية أصنافا أخرى جديدة من العدوان الجسدي واللفظي لم تظهر في الفيلم. بعد هذه التجربة المشهورة لبندورا توالت تجارب في نفس المضمار وكلها أكدت بنسب متفاوتة ماذهبت إليه نظرية التعلم الإجتماعي أن الإنسان يتعلم بالملاحظة والتقليد وأن السلوك العدواني أسرع إلى المحاكاة من أي سلوك آخر. حتى الصناعة السينمائية والإلكترونية رسخت في عقول الصغار والكبار أن العنف الذي يمارسه الأبطال للقضاء على الشر هو عنف مشروع مهما بلغت فظاعته. فالسلوك العدواني لبعض الصغار والكبار في بعض الأحيان قد يكون حسب نظرية النمو الإجتماعي سلوكا عدوانيا لبطل أو أبطال خزن في الذاكرة منذ مدة وعبر مراحل طويلة من الملاحظة ثم أُنتج لاحقا في موقف من المواقف. إذن فليس مستبعدا أبدا على من يداوم على الإحتكاك بنماذج عنيفة أن ينتج في مرحلة لاحقة سلوكا عدوانيا. ولسنا نقصد بالنموذج العنيف البطل في الفيلم أو اللعبة الإلكترونية فقط ،فقد يصدر العنف اللفظي أوالجسدي من نماذج أخرى لصيقة بمحيط المتعلم كالأب والأم والمعلم والصديق. تشير بعض الدراسات أن المتعلم يميل إلى تقليد النماذج في عالم الرياضة أو الفن أو غيرها عندما يفتقد في النماذج القريبة المحيطة به القبول والإعتراف والتجاوب والتواصل. مما يلقي علينا نحن معشرالآباء والأمهات بصفتنا النماذج الأولى القربية والمصاحبة لأبنائنا وبناتنا طوال حياتهم مسؤولية ضخمة، فحراكاتنا وسكناتنا وأقوالنا وأفعالنا تُلاحظ وتُخزن من طرف الأبناء ويُعاد إنتاجها في مراحل لاحقة. فنحن بذلك أمام خيارين فإما أن نكون نحن الأبطال ونقدم أنفسنا كنماذج جذابة ومغرية تستحق المحاكاة والتقليد وإلا تسللت النماذج الأخرى عنوة إلى عقول أبنائنا وقلوبهم. *باحث في علوم التربية مقيم بألمانيا