سأل تلميذ: لو ركبت صاروخا في اتجاه السماء هل أجد الله؟ وقالت تلميذة أخرى: أمي تقول لي دائما: الله يسمع ويرى كل شيء كيف يقوم بذلك هل لديه كاميرا كبيرة؟ هذا مشهد من جلسة تعليمية كان موضوعها "الله الخالق" لأطفال في سن السابعة. هي بالفعل أسئلة محرجة وغريبة، لذلك يختار بعض المربين القفزعليها بلباقة ويختار الآخرون لغة القمع والتخويف والتحذير من طرح مثل هذه الأسئلة لأن فيها زيادة جرأة وسوء أدب مع الله. ولأن بيداغوجية الهروب أو القمع لاتحتاج إلى كثير جهد فهي الأكثر إعتمادا في التنشئة الدينية في محاضننا التعليمية والتربوية. والحاصل أن هذه الأسئلة الحرجة طبيعية وتنتمي الى تركيبة الإنسان المعرفية ، صغيرا كان أم كبيرا إنسانا عاديا كان أم نبيا. في هذا السياق نفهم أسئلة أنبياء عظام عرفوا الله حق المعرفة وعرفوا حدود الأدب معه سبحانه وتعالى. خلد الله أسئلتهم في القرآن فأسست بذلك لبيداغوجية سليمة في التعامل مع مثل هذه الأسئلة. فقد سأل نبي الله موسى ربه وهو العارف بما يجوز ولايجوز في حقه تعالى "قال رب أرني أنظر إليك" وجاء الجواب من الله الرحمان الرحيم دون تقريع أو زجرأو مصادرة، بل تضمن الجواب تلطفا وتكريما وتوضيحا جميلا بأن أمر الرؤية أمر عظيم لن تقوى عليه في هذه الدنيا ياموسى. قال تعالى " لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" الآية. في نفس السياق جاء سؤال إبراهيم عليه السلام الصادق الإيمان وهو يريد بذلك أن يدفع خاطرا هجم عليه وشوش على إيمانه. "وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" الآية فالحاصل إذن أن طرح مثل هذه التساؤلات والخواطر والشكوك التي تهجم على الإنسان أي إنسان شيء طبيعي، وينتمي الى تركيبته المعرفية والنفسية فمن يكبتها أو يصادرها فهو كمن يصادر وظيفة بيولوجية من وظائف الإنسان كالتنفس والحركة. وفي هذا السياق أيضا نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين معلقا على سؤال نبي الله إبراهيم " نحن أحق بالشك من إبراهيم" وبهذا يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على ذات البيداغوجية السليمة في العملية التعليمية والتربية والتي قوامها الإنصات للأسئلة الحرجة لكونها مشروعة شرعا فقد سألها أنبياء عظام كموسى وإبراهيم ولكونها وظيفة معرفية طبيعة كباقي الوظائف التي فطر الله الإنسان عليها. من أجل تنشئة دينية راشدة إذن وجب التخلي في المحاضن التعليمية والتربوية عن بيداغوجية المصادرة والتخويف والقمع لتحل محلها بيداغوجية تشجع على طرح الأسئلة كل الأسئلة في جو مفعم بالحوار والعطف والرحمة. عندما نعتمد بيداغوجية المصادرة والقمع فنحن نصادم بذلك أساسا من أساسيات نظرية النمو المعرفي بقيادة العالم التربوي الكبير بياجي والتي تقول بأن النمو المعرفي عند الطفل يمر بمراحل وأحد هذه المراحل مرحلة العمليات المحسوسة بمعنى أننا عندما نطرح على طفل ينتمي الى هذه المرحلة مواضيع مجردة مثل الله الجنة والموت مثلا فلن يقدم لنا إلى إجابات محسوسة ولو طلبنا أن يقدم أسئلة حول ذات المواضيع سيصيغها بشكل محسوس أيضا يتناسب ومرحلة النمو المعرفي التي هو فيها. إذن فالقمع والمصادرة لن يحل المشكلة فالطفل أينما وجد سيطرح ذات الأسئلة الحرجة حول تلك المواضيع المجردة بالطريقة المحسوسة التي يمر بها نموه المعرفي. فالمطلوب إذن إستفراغ الجهد للبحث عن الأدوات المحسوسة لتقريب وتبسيط مثل هذه المواضيع المجردة بما يناسب مرحلة النمو المعرفي. لاغرابة إذن أن نجد في البيداغوجيات الحديثة من يرى أن الطريق إلى معرفة الأجوبة يجب أن يمر أساسا عبرأسئلة إستكشافية أو إستفزازية والتي يجب أن تطول حتى تصل إلى لحظة الذروة أوالمخاض أوالمعاناة ثم تأتي بعدها لحظة الولادة بتعبيرإدوارد شبرانغر أو اللحظة الخصبة بتعبير فريدغيش كوبي وهذه هي اللحظة التي تؤسس لعملية التعلم الواعية. شتان إذن بين إجابة جاءت عبر مكابدة وبحث ومعاناة وإجابة قدمت للمتعلم جاهزة طرية. الإجابة الأولى تبقى محفورة في الذاكرة معجونة بالأحاسيس والإجابة الثانية تنسى في حينها. فداحة المخرجات التربوية لبيداغوجية المصادرة والقمع لاتضاهيها أية فداحة لأنها لا تخرِج إلا طوابير من المتعلمين الذين يجيدون مهارات السكوت والتسليم الأعمى لكل ناعق بيد أنهم يتعثرون عند أول شبهة. إذن فالمتعلم الذي يطرح تساؤلاته وإشكالاته ليس ساذجا اوغبيا أو ثائرا بل يتمنى فقط من مربيه أن يركب معه متن بيداغوجية وقودها الإنصات والرحمة والتقدير لتجاوز معاناة الشك وعدم الإطمئنان والإستمتاع باللحظة الأخيرة، اللحظة الخصبة لحظة ولادة الإجابة. وبالفعل هذا ماقام به المربي صاحب الحلقة التعليمية حول موضوع "الله الخالق" فقد أطلق العنان لأسئلة التلاميذ الذين بدورهم أطلقوا العنان لمخيالهم وطرحوا أسئلة معقولة وغير معقولة حول "الله" ثم انتقلو لوحدهم للبحث عن أجوبة وكلها كانت تتمحور حول معرفة من هو"الله" سبحانه وتعالى. قال أحد الأطفال يجب أن نسأل الله مباشرة فهو الذي عنده الجواب الصحيح وهنا تدخل المربي وزكى هذا الجواب ولكن كيف؟ بعد معاناة طويلة إهتدى الجميع إلى أن الله تعالى بعث إلينا بكتاب كبير ومهم فيه كل الأجوبة التي نريد وهذا الكتاب إسمه القرآن وهنا تدخل بعض التلاميذ وسأل المربي وهل نجد فيه أيضا أجوبة لأسئلتنا؟ فأجاب المربي: نعم، ثم فتح القرآن عند سورة الإخلاص وتلاها على الأطفال ثم شرحها بلغة بسيطة كالتالي : قل يامحمد لكل من يسأل عن الله أن الله واحد أحد وأنه قادر وقوي خلق الكون ومافيه من السماء والشمس، الناس كلهم ضعفاء يحتاجون إليه وهو لايحتاج إلى أحد وأن الله ليس له والدان و زوجة ولاأبناء وأنه ليس كمثله شيء بمعنى لايجب أن نشبه الله بأي شيء وبالطبع تلت هذه المعلومات حول الله إستفسارات وأسئلة أخرى. كانت بالفعل لحظة خصبة أو لحظة الولادة تلك التي تبخرت فيها بعض الأسئلة الغريبة لوحدها وبالطبع بقيت أسئلة أخرى عالقة تنتظر مرحلة النمو المعرفي المناسبة لها. *باحث في علوم التربية مقيم بألمانيا [email protected]