كلام في الخلافة لم تكُفّ الحركات الإسلامية عن الحديث عن الخلافة والخليفة، حتى كتبوا عشرات الكتب بل المئات منها في التنظير والتوجيه والعمل على إيجاد الخليفة الذي سيحكم الأرض ويقيم العدل، وإقامة خلافة على منهاج النبوة، مع أن ما النصوص المؤسسة لهذه الاستشرافات والأهداف لا تسعف تطلعاتهم، ولا تكفي لإقامة منظمات وهيئات وجماعات وأحزاب لخدمة هذه الدعوى الكبيرة، إذ الدعوى الكبيرة تحتاج إلى أدلة كبيرة، بل ليس في الأدلة ما يفيد حتى بالظن الراجح بأنه ينبغي الاشتغال بإقامتها، والتفاني في طلبها، وانتظار نشوئها. الأمر الذي صرف بوصلة عقول الشباب عن الواقع المعيش وحاجياتهم العلمية والمعرفية والعملية والتضحوية إلى ما لا يبدو نفعه ولا يلوح ظهوره لا في الحال ولا في الاستقبال. عدم اجتماع الأمة على إمام واحد منذ القدم منذ القرون الأولى للإسلام، لم تعرف البلاد الإسلامية حاكما واحدا يحكم المسلمين، بل تعدد الحكام على الأقطار المختلفة، فبينما كان علي بن أبي طالب في العراق، كان معاوية بن أبي سفيان في الشام، وكان عبد الله بن الزبير في مكة. وبينما يحكم العباسيون في الشرق، كان حكم الأمويين ما يزال قائما في الأندلس، وكذا دولة الحمدانية في الموصل وحلب (930-1003م)، والطولونية في مصر والشام (868-905م) والإخشيدية في المنطقة نفسها (935-968م) والبويهية غرب إيران (932-1062م)، والدولة الفاطمية في شمال إفريقيا والحجاز والشام والعراق (990-1171)، والسلجوقية (1037-1194م) في إيران وأفغانستان وجزء من آسيا، والدولة الأيوبية في جزء كبير من شمال إفريقيا والحجاز والشام والعراق (1174-1252م)، ودولة المماليك بمصر وجزء كبير من الحجاز والشام والعراق (1250-1517م). كل هذه الدول كانت في عهد الدولة العباسية. وعرف المغرب -حرسه الله وسائر بلاد المسلمين -عدة أسر محاكمة متعاقبة، ابتداءً من الأدارسة (788-974م)، ثم المرابطين (1056-1147م)، ثم الموحدين (1121-1269م)، ثم المرينيين (1244-1465م)، ثم الوطاسيين (1462-1554م)، ثم السعديين (1554-1659م)، ثم العلويين منذ 1631 إلى يومنا هذا. أي إن المغرب تعاقبت عليه كل تلك الدول في الزمن الذي كانت تحكم فيه الدولة العباسية في الشرق وكل ما ذكرنا من الدول، بالإضافة إلى الدولة العثمانية بعدها. أما الأندلس فقد عرفت دولا متعاقبة في الزمن ذاته الذي كانت فيه دول أخرى في المشرق كما المغرب، حكمها المسلمون منذ الفتح الإسلامي الأول سنة 711م إلى 732م، الدولة الأموية (756-1031م)، ثم ملوك الطوائف في عهدهم الأول (1009-1106م)، ثم المرابطون (1085-1145م)، ثم العهد الثاني للطوائف (1140-1203م)، ثم الموحدون (1147-1238م)، ثم العهد الثالث للطوائف (1232-1287م)، ثم مملكة غرناطة (1238-1492م). وما يزيد الأمر إلا اعترافا بحدود الدول، وتقسيم الأقطار، ويعتبر أي تجاوز للحدود من دول الجوار أو غيرها عدوانا صارخا ينبغي رده ولو بالقوة، ولا ينبغي للعقلاء أن يجادلوا في هذه الحقيقة الواقعة، وترك أوهام الخلافة الموحدة التي لا توجد إلا في ذهن القائلين بها والناشدين لها. يقول الإمام الصنعاني في سبل السلام للصنعاني 3/1229، دار الجيل، بيروت. د. ت. في شرحه لحديث أبي هريرة: (من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات، فميتته ميتة) بكسر الميم مصدر نوعي (جاهلية): قوله عن الطاعة، أي طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه، "وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته"، وقوله: "وفارق الجماعة، أي خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم واجتمعت به كلمتهم وحاطهم عن عدوهم". وقال الشوكاني في السيل الجرار 3/706-707، تحقيق محمد صبحي بن حسن حلاق، دار ابن كثير، 2000م: "وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه، فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر، وأقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر ...."، إلى أن قال رحمه الله: "فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها". فإن كان هذا قول الشوكاني قبل قرنين من الزمان، فماذا عساني أقول في ظرف صار الأمر فيه أكثر جلاء ووضوحا، فكل الشعوب تسكن بلدانا لها سيادتها وأنظمتها، وهذا أمر واقع جلي في كل بقاع الأرض، في عصر اتفقت فيه الأمم على رسم الحدود، وتحديد مساحات الأقطار، بل ويتجه الأمر ويتمخض عن مزيد من التقسيمات، وما أمر سكوتلاندا وإقليم كطالونيا وكردستان منا ببعيد. وقبله رأينا تفكك الاتحاد السوفياتي. من رام غير هذا فليس في الواقعية من شيء، لأن الناس تبني نبوءاتها وأحلامها على خطط واقعية مدروسة قابلة للتحقق. مناقشة بعض الأدلة يستند هؤلاء الإخوة المتطلعون إلى أدلة سمعية لا تسعفهم كثيرا في ما يذهبون إليه، أتناول أعلاها وأهمها وهي آية التمكين، وحديث الخلافة. مناقشة آية الوعد بالتمكين آية التمكين، هي قول الله تبارك وتعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النُّور: 55] تفيد هذه الآية من سورة النور لأول وهلة، الوعد بالتمكين والاستخلاف الذي وعد الله عباده الصالحين، لكننا إن أمعنا النظر سنجد أن الآية لا تفيد ذلك على الوجه الأعم الذي ذهبوا إليه: فقوله تعالى: "ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم"، هل سبق أن استخلف الله أحدا، ملكا أو قوما على كل بقاع الأرض؟ طبعا لا، لا يوجد أحد كان حاكما على كل بقاع الأرض. بل يشهد التاريخ أن الله مكّن لكل قوم في بلدهم الذي هم فيه أو ربما شيئا قليلا من أرض أخرى مقصودة التمكين فيها. الاستخلاف في الأرض من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء ومما يعضد كلامنا بآية الاستخلاف في الأرض لا يراد بها كل الأرض، قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ... [الأَنْعَامِ: 6] تفيد بأن ذلك التمكين كان في مكان من الأرض. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يُوسُف: 56] فالله مكن له في الأرض، أي في مكان من الأرض، وهي مصر كما لا يخفى على أحد. وقال تعالى: إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكَّهْف: 84] وذو القرنين كان في بلد حول بحر قزوين حيث معدن الحديد والنحاس، على ما ذكر بعض المحققين. وانظروا إلى قوله تعالى في سورة الأعراف: "قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأَعْرَاف: 129]، وهذا ما وقع، فإن الله أهلك أعداء بني إسرائيل، فرعون وجنوده، ومكن لهم في الأرض المقدسة في عهد يوشع بن نون، وهذه الآية واضحة بلفظ الاستخلاف في الأرض وما كان الاستخلاف إلا بفلسطين فقط. وعليه، فإن إطلاق الاستخلاف في الأرض هو من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، ولا يراد به إطلاق ما يحمله إخواننا من المنتمين إلى التيارات الإسلامية، ممن ينتظر وهما كبيرا اسمه الخلافة الإسلامية على كل أقطار الأرض تحت راية إمام واحد. ويزيد الأمر تأكيدا لما ذكرت، ما رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض أو قال: إن ربي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها). قال: "ويبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها"، وفعلا قد بلغ ملكها الأندلس في الغرب وحدود الصين في الشرق، وتراجعت لتراجُعِ استدامة تقديم الأسباب الصالحة للتمكين على ما سوف نشير إليه. وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن المستورد القرشي قال عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس). وهذا يعني أنه سيظل الاختلاف الثقافي والتنوع العقدي والتعدد العرقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن جهة أخرى، الآية تتحدث عن وعد الله للصاحين ممن يقيم شرط العبودية الحقة، لكي يستحق نفاذ الوعد، لا أن نترك كل ما ينبغي الاشتغال به من تنشئة الأجيال على الصلاح والخير، وندخل كل المعتركات للوصول إلى سدة الحكم، ونتخذ كل السبل لذلك؛ فهو سبحانه أراد منا أن نشتغل بالوسيلة وهي تحقيق العبودية على أعلاها، وتولى تعالى أمر الهدف بنفسه، فالذي وقع أننا اشتغلنا بالهدف، وتركنا ما أمِرنا به. مناقشة حديث الخلافة روى أحمد في مسنده عن حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلًا يَكُفُّ حَدِيثَهُ، فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، فَقَالَ: يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمَرَاءِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ، فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ" ثُمَّ سَكَتَ، قَالَ حَبِيبٌ: "فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي صَحَابَتِهِ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي عُمَرَ، بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَأُدْخِلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ". أولا: هذا الحديث حديث إخباري وليس حديثا استحثاثيا تشريعيا يحمل حكما تكليفيا واجب الاتباع والاقتداء. وثانيا: هذا الحديث يتكلم عن فترات زمنية وجيزة: النبوة 23 سنة، انتهت بموت سيدنا رسول الله سنة 12 ربيع الأول سنة 11 هجرية، كما هو معلوم لدى الجميع. الخلافة 30 سنة: من سنة 11 ه إلى 41 للهجرة، كما هو معروف، وكما هو مفصل في حديث سفينة عند أحمد وغيره قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُلْك"، قَالَ سَفِينَةُ: "أَمْسِكْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ". الملك العاض والملك الجبرية يفسره كلام أحد رواة الحديث حبيب بن مالك ليزيد بن النعمان بن بشير حيث قال: "إنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي عُمَرَ، بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَأُدْخِلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ"، فبهذا يكون الملك العاض والجبرية بين 41 ه و99ه سنة استخلاف عمر بن عبد العزيز، الملك العاض هو ملك معاوية بن أبي سفيان بعد الخلافة من 41 ه إلى 61 ه سنة موته، والملك الجبرية هو ملك يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك إلى سنة 99ه. وقد جاء في مسند أبي داود الطيالسي ومصنف ابن أبي شيبة أن معاوية بن أبي سفيان كان "أول الملوك". ثم خلافةٌ على منهاج النبوة وهذا جلي في خلافة عمر بن عبد العزيز، ففعلا نعم الأمير، أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، حكم سنتين من سنة 99 ه إلى 101 ه. وهكذا يكون تناسب الفترات الزمنية، 23 سنة نبوية، 30 سنة خلافة على منهاج النبوة، 20 سنة ملكا عاضا، 38 سنة ملكا جبرية، ثم سنتان خلافة على منهاج النبوة. فليس من المنطق أن نحمل الحديث ما لا يحتمل من التباشير والتشوفات والاستشرافات ونقيم التنظيمات بناء على هذه الأحاديث الإخبارية، وليست أحاديث حاملة للتكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي. ففعلا أتعجب ممن ينخرط بعمق في طلب أمر مظنون الوقوع، وترك الواقع وكل ما يتطلب من اهتمام. خاتمة إن النكسة الفكرية التي يعيشها كثير من المهتمين ليست هي في نقص في الانهمام والاحتراق من أجل بلوغ الأهداف، وإنما في ترك واجب الوقت، الذي هو الاشتغال على مستوى ترسيخ دين الفطرة، دين البساطة دين المحبة والرحمة والعطاء والعمل الصالح والاستقامة عند الأفراد على المستوى الأخلاقي والتزكوي، والعمل على تثمير الجانب المعرفي والتجريبي المعملي والتقني والتكنولوجي الذي تتطلبه الحياة السائلة والضغط اليومي، مع حسن التسيير الحضاري اللامركزي واللاتمركزي التشاركي التداولي الواسع الشامل والمستدام في كل القطاعات وفي كل الجهات، لنساوق الأمم في ما يحسنون وما لا يحسنون، ليس كجماعات وتجمعات عضوية حركية ولكن كأمة مسلمة تتكامل أقطارها، مع تعدد حدودها، وكذلك رؤساء بلدانها، بشكل من التكامل في الإنتاج والتكامل في المعارف والتكامل في الموارد بما يؤهلنا لاستحقاق التمكين والريادة على المدى المتوسط. هذا المقال المختصر لا يسمح بمزيد بسط وتحليل، وإنما المقام مقام فتح شهية، مع استفزاز العقول، لكي نعيد اختبار كثير مما ظنناه من المسلمات والثوابت، ونتصالح مع ذواتنا وننزل إلى طبيعتنا ونشتغل بواجباتنا الحقيقية. *باحث في الفكر الإسلامي