لا أذكر منذ متى، إلا أنني أعرف أنه مضى زمن طويل منذ آخر مرة اضطررت فيها لركوب الحافلة. أذكر جيدا عذاباتي رفقة زميلاتي الطالبات ونحن ننتظرها لساعات ثم نتسلقها على شاكلة ممثلي أدوار المجازفة... كنا نحمد الله حين ندس أجسادنا الغضة دسا. كان ذلك إنجازا. كنا نعرف أننا في الطريق إلى كلية علوم الاقتصاد والقانون دون أن نرى تلك الطريق، إذ تحجب الرؤية أجساد الراكبين المائة أو المائتين... كنا نبدو مثل الأسرى المعذبين ونحن نتمسك بكلتا يدينا بالقضبان العالية، متصلبين... كنا نسمع معاناة الحافلة وهي تسير بعسر، تئن وتنتحب وتسعل وكثيرا ما كانت تختنق عندما يبدل السائق السرعة بشق الأنفس. كانت الحافلة (بالمآسي) تطلق زغرودة طويلة قبل مائتي متر من الوقوف كتعبير عن فرحتها بالاستراحة القصيرة. بعد ردح من الزمن اعتقدت أن عهد الحافلات الحافلة بالمآسي والصعوبات قد ولى ولا مكان لها بوجود وسائل مواصلات متطورة تجعلها في حرج شديد متى مرت بالقرب منها. في هذا الشارع المتأنق بعماراته الشاهقة وواجهاته العصرية رأيت الحافلة المسنة والمهترئة قادمة على مضض تصيح من الآلام كسيدة عجوز. ارتمت الجموع عليها رغم قلة الراكبين فعلمت أن لا شيء تغير. مضت الحافلة تهتز وتترنح وأصوات الحديد يرتطم بعضه ببعض عند كل اهتزاز. يقابل ذلك الصخب سكون الراكبين. وجوه يومئذ شاحبة عابسة حانقة تصلى كل صنوف العذاب في صمت... وكأن ذلك لم يكن ليكفي، صعد رجل ستيني وكشف للمعذبين عن بطنه ليطلعهم على مأساته: كيس بلاستيكي متصل بأنبوب يخرج من بين أحشائه التي تعطلت. صار يشكو ولا حياة لمن ينادي... هم في الهم سواء، كل ينطوي على معاناة مالية وجسدية ونفسية... سألت نفسي : هل من العدل أن يدفع المواطن الصالح ثمن العجرفة؟ المواطن العامل المجتهد الذي يكد في ظروف قاسية ويقبل مقابلا ضئيلا بل ومهينا، يعمل الوطن المحب الحنون الملتزم العادل على الإمعان في حرمانه وإهانته بل وتعذيبه بإجباره على استعمال حافلة لا توفر له أدنى شروط السلامة والاحترام والكرامة. هذه الحافلة التي تم تخصيصها للكادحين هي في واقع الأمر عبارة عن كوخ مهترئ مستطيل حافل بالبؤس، كابوس متحرك وهي الوسيلة الوحيدة المتاحة لهؤلاء لكي يعودوا إلى بيوتهم وأولادهم بعد يوم كامل من الشقاء لقاء الظفر بلقمة عيش. خلال رحلتهم الطويلة يعيشون أربع مرات في اليوم وستة أيام في الأسبوع عذابا فوق عذابهم داخل عربة مهترئة تصدر أصواتا مرعبة قد تؤدي إلى ارتجاج في المخ، هذا عدا الازدحام الخانق والأنفاس الممتزجة والتحرش والسرقة والمتسولين الذي يقرحون قلوبا بائسة بشكواهم الملحة وابتزازهم لمن يعانون مثلهم رغم عملهم واجتهادهم... والمؤسف أن هذا المواطن النزيه ينهار أمام كل هذه الضغوط ويصبح على استعداد مطلق للخصام والسجال، فترى الناس يتخاصمون بشراسة لأتفه الأسباب وكأنهم يستزيدون من معاناتهم. صورة قاتمة لمواطن مقهور لا يجد بديلا عن حافلة البؤس، والأبشع هو أن عليه أن يدفع نصف ما يجنيه من عمله الكادح لقاء هذا التهميش والاستغلال، إذ كيف يعقل أن يدفع نصف قوت أولاده أي خمسة دراهم أربع مرات في اليوم مقابل هذه الخدمة العمومية المهينة. لا يمكن اعتبار أي بلد متحضرا بل ولا حتى ناميا أو في طور النمو - الصفة الأبدية - إذا لم يضمن لمواطنيه أبسط شروط الكرامة، و وسائل النقل العمومي تدل حالتها على مدى احترام دولة ما لرعاياها.